من يقف على حياة الشهيد القائد حسين الحوثي ويطلع على سيرته ومسيرة دعوته والصعاب التي واجهها.. يلحظ حجم الشبه الكبير في ملامحها العامة وربما في تفاصيل خطوطها ومساراتها مع مسيرة سيدنا المسيح ودعوته وحركته.. بل أن من يرجع البصر كرة في بعض المحطات من سيرة ومسيرة الشهيد. يخال له وكأن السيد المسيح تجلى بناسوته على جبال مران.
ربما يتباين القرّاء في آرائهم حول مدرسة الشهيد القائد وتختلف مواقفهم ازاءها؛ بَيدَ أنه لا يختلف أحد بأنّ صفاتٍ كالنبل مثلاً والشهامة ودماثة الأخلاق والصدق والصبر والتواضع والورع والزهد والإيثار هنّ صفات متلازمة ومتأصّلة في شخصية هذا السيد، يعلم ويشهد بذلك كل منصف عرف السيد وعاصره أو تعرّف عليه ممّن عاصره أو اطّلع على جوانب من حياته أو تتبّع سيرته.
لقد ولد ونشاء الشهيد القائد في أكثر مناطق اليمن تهميشاً وإهمالاً واستضعافاً.
ومنذ النشأة وواقع الأمة وحالها وما آلت إليه من ضعف وفشل وشلل وانهيار يشغل الهمّ الأكبر في فكره وذهنه.
فسار على خطى القدّيسين والأنبياء، وسلك طريقهم باذلاً كل ما يملكه من طاقة وجهد في سبيل الإصلاح والتصحيح. وانطلق في قرى جبال مرّان المتناثرة وماحواليها؛ يعيش معاناة الناس ويتألم لواقعهم وينظر في مشاكلهم. فلم يدخر جهداً في خدمتهم. فأسس جمعية مرّان التي من خلالها تحرّك لتقديم كثير من المشاريع الخدمية الأساسية التي حُرِمٓت منها تلك القرى النائية ولم تثنيه الصعوبات التي كان يواجهها لا سيما من مسؤولي الدولة ومؤسساتها الذين كانوا يضعون العراقيل أمام أي عمل لا يحقق لهم مصالح وأرباح شخصية. فبنى العديد من المدارس الدينية والرسمية كما عمل على المتابعة لبناء مستوصف كبير في مران وجهزه بكادر من المنطقة وبعث بمجاميع من البنين والبنات للدورات في المجال الصحي في صنعاء وصعدة وعمل على فتح خطوط إلى المناطق التي لم يصل إليها الخط وتابع حتى حصل على العديد من البرك في عدد من المناطق وكذلك الكهرباء تابعها حتى توفرت شبكة كهرباء لمنطقة مران والمناطق المجاورة لها وقام ببناء مصلى للعيد في منطقة مران تتسع لكل أهالي المنطقة وعمل شخصيا في تلك المشاريع حيث كان دائما في مقدمة من يعمل بيديه. هذا على المستوى المجتمعي. أما على الصعيد الفردي فقد كان كان يولي الفقراء والمحتاجين اهتماماً خاصاً فكان بيته عامراً بطلاب العلم وأصحاب الحاجات وحل المشاكل وقضاء الحوائج فكان ملاذاً للمظلومين والمحتاجين والفقراء والمساكين كما عرف برحمته وشفقته حتى بالحيوانات *. ومع كل ذلك لا يفتر عن نشر تعاليم القرآن وتوعية الناس وتبصرتهم وتثقيفهم به وتربيتهم وإرشادهم، وتجديد علاقتهم بربهم والإلتزام بتوجيهاته.
هكذا تحرّك الشهيد القائد -مع كل تلك الصفات الفاضلة والخصال الجليلة التي شكّلت في مجموعها تقاسيم شخصيته-، كشخصية رسالية. فالتفّ حوله مجاميع من المستضعفين. ممن أرادوا أن ينتشلوا أنفسهم ومجتمعاتهم ويرتقوا بوعيهم وبواقعهم من ذلك الحضيض الذي وصلت الأمة في كافة مناحيها الدينية والحياتية، الروحية والمادية.
ونجد مدى التشابه بين النشاط الذي قام به الشهيد القائد وبين نشاط سيدنا المسيح ومسيرته الذي جال خلالها المدن والقرى والجبال والأودية؛ فمن الجليل إلى أريحا وبيت عنيا ويارون وقانا وصرفند وصيدا إلى جبل حرمون متنقلاً بين جبال الشام وسهوله وأوديته غير آبه بما يلاقيه من مشقة وتعترضه من صعاب. وهو يبشر في كل تنقلاته بالإيمان والنور الإلهي.
فالمسيح عليه السلام لم يك بدعاً من أنبياء بني اسرائيل ولم يأت بدين جديد على انقاض شريعة موسى وينسخها. بل كل ما جاء به هو دعوة تصحيحية إيمانية وحركة إصلاحية أخلاقية واجتماعية. لما آل اليه حال المجتمع لاسيما رعايا الديانة الموسوية من انحراف كبير وتشوّه عميق في الفهم والتعامل مع المنظومات الإيمانية والتشريعية والأخلاقية والإجتماعية.
لقد وجد الشهيد القائد بعد طول نظر بإمعان، وتأمل بعمق، وغوص في القرآن وارتباط بالله.. أن السبب الرئيس الذي أودى إلى هذا الواقع الأليم يكمن في انحراف الأمة وابتعادها عن إلٰهها وعن كتابه المقدّس الذي تضمّن أساس تعاليمه وإرشاداته وتوجيهاته. وأنّ منشاء هذا البُعد والإنحراف إنما جاء نتيجة انتشار عقائد باطلة ودخول مفاهيم وأفكار مغلوطة أُلصِقت بتعاليم الرب ومُزِجت بدينه. وأنه لا سبيل لإحياء هذه الأمة واستنهاضها وإيقاضها ووضعها في مسارها الصحيح إلا بعودتها إلى الله وتصحيح علاقتها به وبقرآنه وإحقاق الحق والرجوع إلى القيم والفضيلة والمبادئ السامية، التي هي مطلب السماء.
ومن يقف على حياة سيدنا المسيح يجد أن جزء كبير من رسالته ودعوته تمثلت في مسيرة التصحيح للعقائد الباطلة والمفاهيم والثقافات الخاطئة التي تسربت إلى داخل العقيدة والدين من الوثنية وغيرها التي تأثروا بها. كما قام أحبارهم وشيوخهم بتأصيل كثير منها ضمن الدين وقدموها للناس على أنها سنخ شريعة موسى. حتى أن إمكانية جمع وتوحيد المؤمنين والوثنيين معاً في الكنيسة أصبح لديهم أمراً مقبولاً وممكناً. لذا ناهض سيدنا المسيح ذلك بشدة وجرت مناقشات طويلة بينه وبين الفرّيسيين** الكهنة وعلماء الشريعة وفقهاء التلمود الذي احتوى على اجتهاداتهم الخاصة وضمّنوه اراءهم وأقوالهم وفتاواهم التي حشوها أسفارهم بمسائل لا طائل منها ولم يأتِ بها الله فأشغلوا بها الناس وعبّدوهم بها. فشدد المسيح عليهم النكير في مناقشاته ومواعظه وفي إجاباته على السائلين مبيّناً لهم “أن مشيئة الله تتخطى السنن اليهودية”.
وأقرب من هذه القضية وشِبهها ناقشها الشهيد القائد في محاضراته ودروسه وانتقد الواقع الذي عليه علماء المسلمين وفقهاؤهم. حيث يقول في بعض محاضراته: ( إما أن يأتي علماء ينشغلون بالموضوع الذي لا يعنيهم يطلعون لك عشرات أو مئات المجلدات في موضوع من مواضيع الدين واحد مثلا في [الفقه] توسع فيه واختلاف وأقوال متعددة وكلام كثير فيه وناسين ما هو يعتبر أساسياً في إقامة الدين )”1″.
ويتحدث في محاضرة أخرى عمّا عمله فقهاء الإسلام من سلبية تعقيد أحكام الشريعة. بينما الله بسّطها في كتابه؛ حيث قال: ( ثم لاحظ بساطة التشريع بساطته؛ ليلمس الإنسان الفارق بين تخريجات الفقهاء وتفريعاتهم وعباراتهم وبين أسلوب القرآن الكريم ولا يمكن أن تعتبر بحال بأن ذلك الأسلوب هو ضروري، تفصيلي، تفصيلي، بل تراهم عندما انشغلوا به أضاعوا الأشياء الهامة، كم ذكر في هذه الآية! آية واحدة ذكر فيها كيف تكون الصلاة وذكر الطهارة من الجنابة وذكر وأنت في حالة سفر وذكر وسائل الطهارة ماءً أو ترابا وبعبارة:{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} “المائدة: من الآية6″ أليست سريعة هذه؟ وانتهى الموضوع..)”2”.
وهكذا فعل فقهاء اليهود -الذين سمّوا بالفرّيسيين-، بشريعة موسى التي جاءت في أصلها بأحكام شرعية واضحة. غير أنهم أضافوا للحكم الشرعي الواحد عشرات الأحكام التفصيلية التي أدّت إلى إبعاد الحكم الشرعي الأصل عن مقاصده وإفراغه من مضمونه. وصار الناس يدورون حول أقوالهم، واجتهاداتهم التي اعتبروها من صميم الشريعة. وشدّدوا عليهم وحمّلوهم ما لا يطيقوا. لقد تعامل فقهاء اليهود مع أحكام شريعة الله بذات المنهجية التي ذكرها الله عنهم في القرآن في قضية حادثة “البقرة”.
وانتقد سيدنا المسيح منهجيتهم هذه فمما أوردته الأناجيل قوله: (ويل لكم أنتم أيها المتضلّعون من الشريعة، لأنكم تحمّلون الناس أحمالا ًيصعب حملها، وأنتم أنفسكم لا تمسّون الاحمال بإحدى أصابعكم…)”3″. أي أنكم بتصعيبكم وتعقيدكم للشريعة أثقلتوا كاهل الناس ويعقّدون حياتهم. بينما إذا أرادوا هم تطبيق الحكم الشرعي بحثوا لأنفسهم عن المخارج الشرعية والرأي الفقهي البسيط، لأنهم يعرفون ذلك كونهم فقهاء شريعة مختصون. بينما صعّبوا على الناس بمنهجيتهم وقواعدهم الفقهية المعقّدة سهولة المعرفة بأحكام الشريعة لذلك يوبخهم سيدنا المسيح. بقوله: ( ويل لكم أيها المتضلّعون من الشريعةِ، لأنكم أخذتم مفاتيح المعرفة، فلم تدخلوا أنتم، والداخلون أعقتموهم.) “4”.
ويقول سيدنا المسيح أيضاً: (لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدّام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون.) “5”. أي أنكم جعلتم الناس يتعبّدون بفتاواكم واجتهاداتكم وتفاسيركم لأحكام الشريعة. وليس بالأحكام الذي شرّعها الله. فحجبتم الله عن الناس وعن انفسكم بالإنحراف عن أوامره الحقيقية.
ويقول الشهيد القائد في إحدى محاضراته: (…هكذا بلغ المنطق إلى الدرجة هذه السخيفة: [مراد الله تابع لمراد المجتهد]! عبارة صريحة يمكن يقرأ أي واحد منكم في [شرح الكافل]، وغيره؛ لأن مراد الله تابع لمراد المجتهد؛ ولهذا الإمام علي رد على من عملوا هذا العمل زمان، عندما كان قد حصل خلاف في الفتيا، قال: “أم كان لهم أن يشرعوا وعلى الله أن يرضى؟!”، هم يشرعون وهو عليه أنه يرضى! هذا في [نهج البلاغة]. بلغوا إلى هذه الدرجة: أن الله هو الذي عليه أن يكون مراده تابع لما أدى إليه نظري، هذا هو أصول الفقه، ومن أراد أنه يريد يطلع مجتهد، يطلع عبقري كما يظن يتفضل بأصول الفقه..) “6”.
وفي انتقاد سيدنا المسيح لهؤلاء الفقهاء أيضاً يقول: ( ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشّرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان وتتجاوزون عن العدل ومحبة الله . كان ينبغي أن تعلموا هذه ولا تتركوا تلك.)”7″؛ وهو بهذا يوبخهم على حرصهم على الناس بأن يلتزموا بأحكام صغيرة كإخراج عشور -زكاة- لبعض أعشاب البهارات بينما لا يحرصون على الالتزام بما هو أهم.
لنا أن نكتفي بهذا القدر اليسير الذي سقناه من النقل. ليبيّن أن ما انتقده سيدنا المسيح على الفرّيسيين فقهاء اليهود يشبه إلى حد كبير ما آخذه السيد الشهيد على فقهاء الإسلام ومنهجهم.
وكأنّ الشهيد القائد يريد أن ينبّهنا على مدى خطورة ما وقعنا فيه نحن المسلمون من اتباع واقتفاء ذات المنهجية التي تعامل بها اليهود مع الفقه والأحكام الشرعية.
وحينما وجد رؤساء اليهود وكبارهم أن دعوة سيدنا المسيح وثقافته الإلٰهية التي يقوم بنشرها، تشكّل خطراً عليهم وعلى سلطتهم على الشعب اليهودي الذي عملوا على تدجينه بتحريف عقيدته وتزييف ثقافته، وخلطها بعقائد وثنية لغرض تطويعة للقوة العظمى آنذاك الإمبراطورية الرومانية الوثنية التي تحكمهم حينها وتحتلّهم. فما كان منهم إلاّ أن عمدوا إلى التآمر عليه للتخلص منه ومن واتباعه القليلون المستضعفون، فتمّت مطاردته ومطاردة أتباعه وإرهابهم وتشريدهم. وهم يحسبون أنهم بهذا الصنيع يمكنهم القضاء على مشروعه ورسالته الإلٰهية.. ولم يعلموا أنهم لن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله وأن نتيجة ما فعلوه بالمسيح واتباعه، ستكون عكسية. وماهي إلا سنوات وإذا بدعوته وأتباعه ينتشرون في الأرض.
وذات هذا المشهد بذات العقلية الشريرة يحدث للشهيد القائد وأتباعه. فالخوف من مشروعه من تهديد مصالحهم والخشية من أن تستنهض رسالته القرآنية الناس وتوعّيهم بخطورة مخططات القوة العظمى المتمثلة في الولايات الأمريكية والصهيونية وأذنابها. فقرروا القضاء عليه وعلى اتباعه المستضعفون، ظنّاً منهم كما ظنّ من قبلهم بأنهم بذلك سينهون مسيرته وسيطفؤن نور رسالته. غير أن مؤامراتهم انتجت العكس وماهي إلا سنوات حتى انتشرت حركته واتسعت.
وفي هذا المعنى ينقل الإنجيل على لسان سيدنا المسيح قوله: (الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير.)”8″.