بناء الثقة”، جملة ثنائية استهلكتها الأمم المتحدة كثيراً وسعت من خلال “جنيف” إلى تعزيزها بين الأطراف، لكنها تبخرت قبل أن تتفاعل عناصرها، وجعلت من فشل البدايات صورة واضحة لما ستؤول إليه النهايات، فلم يكن المبعوث الأممي إلى اليمن “مارتن غريفيث” أوفر حظاً من سابقيه، فمسيرة السلام ما زالت تندب حظها العاثر رغم توافر الفرص المتتالية وتهيئة المناخات الخصبة بإشراف المؤسسة الأممية العالمية التي تستقي قوتها وصلاحياتها من قانون دولي ملزم تجمع عليه كل الأقطار، لكن زمن كشف الحقائق ما زال في باكورة شبابه، ولا يزال متفنناً بإسقاط الأقنعة وتفنيد الأراجيف التي تجعل من الشياطين ملائكة في مناورات السلطة والمال وكسب الولاءات، والاستئثار بالمواقف الأحادية على حساب أطلال الإنسانية ورمق المظلومين.
قبل أيام معدودة صدر تقرير للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان وضع بعض النقاط على حروفها المتقطعة، وأنصف الحقيقة في أجزاء منه وهو يسرد جرائم الحرب ومجازر الإبادة التي يتعرض لها اليمنيون لأربعة أعوام متتالية، وكيف أن تبعاتها جثمت على صدر المواطن اليمني واثقلت كاهله بحمولاتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية، ومع أن اليمنيين لا يثقون بهذه المنظمات وأقوالها التي تناقض أفعالها؛ إلا أنهم تعشّموا بصيصاً من الأمل ولو حتى بالكلمة في زمن تكميم الأفواه الحرة وفتح المساحات المفتوحة لـ “ألسن” النفاق والتحريف، وما عزّز من أملهم قرب المفاوضات التي حددتها الأمم المتحدة زماناً ومكاناً، وكذا الاتفاق المبدئي على أبرز خطوطها العريضة من كافة الأطراف؛ لكنهم تفاجؤوا بأن هذه المؤسسة الأممية العالمية التي صمّت المسامع بتوصياتها وأوامرها وقراراتها تقف عاجزة عن توفير طائرة مدنية تقلّ الوفد اليمني المفاوض لحضور المشاورات التي أعدتها وهيأتها وأشركت معها مجلس الأمن الدولي في إقرارها وتحضيرها، هذا العجز المخزي يؤكد لليافع قبل الراشد بأن ديكور الأمم المتحدة ليس أكثر من كرتون تتلاعب به رياح نزوات قوى العدوان، وأنها بعظمتها وجلالة قدرها ليست سوى موظف مأمور يجيّر صفته وسلطته لطرف يرى أنه المخوّل الوحيد في تقرير مصائر الآدمية وتقنين حياتها كمّاً وكيفاً.
في مفاوضات يمنية سابقة سواء في جنيف أو الكويت جرت العادة أن تتكرر هذه السيناريوهات مع كل مغادرة، ويظل الوفد اليمني عالقاً في الخارج لأشهر مع تعسف تحالف العدوان في عدم السماح لطائرة الأمم المتحدة بالهبوط في مطار صنعاء الدولي لإعادة الفريق المفاوض رغم الضمانات التي يحصلون عليها أممياً قبيل انطلاق أي مفاوضات، وهذا هو السبب المباشر والرئيس الذي أجبر وفد صنعاء على البقاء فيها حتى وإن توفرت طائرة أممية، فهي أولاً وأخيراً تتلقى أوامرها من طرف العدوان ولا تمتلك قرار نفسها صعوداً وهبوطاً، وهو ما دعا وفد صنعاء إلى التمسك بشرطهم السابق في أن تكون مغادرتهم عبر طائرة عمانية ترخص لها الأمم المتحدة وتتواصل مع الجهات ذات العلاقة لتهيئتها في الوقت والمكان المحددين.
في السابع من شهر يوليو الماضي منعت قوى العدوان طائرة تقلّ المبعوث الأممي نفسه من الإقلاع من مطار صنعاء لساعات، وهو ما يضع السؤال العريض، كيف لكيان أممي لم يستطع حماية نفسه وتهيئة الأجواء لوجهه وممثله أن يمنح ضمانات لآخرين وهو يعيش أسوأ انبطاح في تأريخه لعدوان لا يعطي قيمة لبشر، ولا يفي بميثاق، ولا يلتزم بتعهداته والتزاماته التي يبرمها على رؤوس الأشهاد.
حكومة الإنقاذ اليمنية ووزارة الخارجية ومجلس النواب والأحزاب اليمنية والمؤسسات والمنظمات والكيانات جميعها أدانت تعنت وإصرار تحالف العدوان على إعاقة جهود السلام برعاية أممية، مؤكدة أن دول العدوان تسعى دائماً لإضعاف موقف الأمم المتحدة وإظهارها بمظهر العاجز عن إدارة عملية السلام في اليمن، لافتة إلى أنه من حقها الاطمئنان على سلامة وأمن وفدها الوطني في الذهاب والعودة دون أي قيود تعوق حركته من قبل دول العدوان، إذ تعد هذه الإعاقة المتعمدة من قبل دول العدوان رسالة واضحة لمن ينشدون السلام، فإلى جانب هدفها في عرقلة جهود المبعوث الأممي وإفشال مشاورات جنيف، نجد في مضمونها تأكيداً واضحاً على تمسك قوى العدوان بخيار حربها العدوانية على اليمن، ولعل الجرائم والمجازر المتتابعة التي تزامنت مع إعلان المبعوث الأممي موعد مشاورات جنيف دليلاً لا ريب فيه على ذلك، وفي الوقت الذي كان المبعوث الأممي يقدم إحاطته لمجلس الأمن؛ كانت طائرات العدوان تخطف أرواح المدنيين في سوق الأسماك ومستشفى الثورة بالحديدة، قبل أن تعمّد هدفها المتغطرس بما تلاها من مجازر مروعة بحق الأطفال في ضحيان والدريهمي