كيف استطاعت إيران أن تفرض معادلة ردع على الصعيد الدولي؟
.
شارل ابي نادر
تتناقض التحليلات والاستنتاجات من مختلف الاتجاهات، حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بالأميركيين الى إلغاء ضربتهم العسكرية لايران مؤخراً، بعد أن كانت كل الأوساط، ومن مختلف الاتجاهات ايضا، تنتظر تلك الضربة بشكل أكيد، وكان الجميع ينتظر تداعياتها وكيف سيكون مسار الأمور بعد حصولها.
من غير المنطقي أن يكون الرئيس ترامب، قد ألغى ضربته العسكرية لايران رداً على اسقاطها أحدث طائرة تجسس أميركية فوق مياهها الاقليمية، لأسباب انسانية تتعلق بالمحافظة على حياة حوالي 150 شخصاً بين مدني وعسكري، كانوا سوف يسقطون حتماً لو استُهدِفت نقاط دفاع جوي ومواقع عسكرية ايرانية، فتاريخ الاميركيين غير ذلك بتاتا في استهداف المدنيين والعسكريين، وهم لم يقصروا ابدا في تلك الاستهدافات، في جبل الثردة في دير الزور او في الموصل او الرقة او الرمادي ومنبج وغيرها، والتي باغلبها لم تكن مبررة – بالنسبة لهم طبعا – لا عسكريا ولا استراتيجيا، بينما كان الردّ الذي ألغوه لأسباب “انسانية”، هو على خلفية استهداف طائرتهم الأحدث، والتي تمثل موقعاً متقدماً في تكنولوجيتهم العسكرية، والتي تعبِّرعن قوتهم وسلطتهم ونفوذهم ومعنوياتهم.
في الواقع، لم يكن سهلاً أو بسيطاً ما جرى لطائرة الاستطلاع الاميريكة التي أسقطتها وسائط الدفاع الجوي الايرانية، فـ”غلوبال هاوك” مجهزة بقدرات غير عادية على التخفي والاقتراب من مواقع الخصم بطريقة التسلل، مع امكانيات ضخمة في الرصد والتصوير والتنصت ومواجهة الهجمات الالكترونية. وأن تُكتشف منذ انطلاقها من القاعدة الجوية في الامارات، ويُتابَع مسارها بالتفصيل ويُصوَّر، مع كامل إحداثيات حركتها في المجال الجوي الدولي أو إحداثيات حركتها في المجال الجوي الايراني، والتي سببت اسقاطها، فهذا الأمر يدعو للتمعن والمتابعة، عسكرياً وعلمياً وفنياً.
أيضاً، ليس سهلاً أبداً القرارالايراني باسقاطها، فمبدئيا، من الطبيعي أن تأخذ ايران بعين الاعتبار حتمية حصول ردة فعل اميركية عنيفة على استهداف هذه الطائرة، لأن هذا الأمر، وبمعزل عن أبعاده المختلفة، يعتبر تحدياً ايرانياً متقدماً للولايات المتحدة الاميركبة، خاصة في ظل الاشتباك الواسع بين الطرفين على كافة الصعد، ولكن، دخول طائرة التجسس الى الاجواء الايرانية فوق مياهها الاقليمية لا يمكن تجاوزه والسكوت عنه، بمعزل عن مهمة الطائرة الحساسة، خاصة ان طهران شددت في الفترة الأخيرة على أنها لن تتهاون مع أي اختراق لسيادتها مهما كان حجمه، وأي تهاون في ذلك كان سوف يعتبر تراجعاً مبدئياً، قد يفهم أنه تنازل، هي في غنى عنه الآن في ظل عملية شد الأصابع الحساسة بينها وبين واشنطن.
من ناحية أخرى، جميع هذه المعطيات المذكورة، عن ضخامة عملية الاسقاط من الناحية العسكرية، وعن حساسيتها من الناحية الاستراتيجية، لا يمكن أن تُبعد النقاش أو البحث عن المضمون الحقيقي لما جرى، وعن الأسباب الواقعية أو الفعلية التي أسست لهذا الموقف الاميركي المتردد، والذي بدا ضعيفا وغير مناسب ابدا، لا لمكانة الولايات المتحدة الاميريكة عالميا، ولا للوضع المأزوم الذي خلقته الاخيرة والمشبع بتهديدات عالية اللهجة والمستوى في استهداف ايران عسكريا – قبل اسقاط غلوبال هوك طبعا – والذي تواكب مع نشر تفاصيل واضحة عن دخول الاف الجنود الاميركيين الى المنطقة، والمدعومة بدخول حاملات طائرات معروفة او بنقل عدد غير بسيط من قاذفات بي 52 الاستراتيجية وغيرها.
الاساس في كل ذلك هو أن ايران أثبتت، وبالوقائع الملموسة، أنها تملك قدرة كبيرة على الردع، وتملك من الأسلحة النوعية ومن امكانيات تكنولوجية متطورة، ما يكفي لحماية أجوائها وسيادتها، ولفرض توازن رعب، ليس اقليميا فقط، بل توازن رعب دولي، ومعادلة ردع دولية، وهذه المعادلة اعترف بها جميع الأطراف الذين يستهدفونها حالياً، الاقليميون منهم والدوليون، وهي كانت السبب الحقيقي والرئيس في الغاء الضربة، وهذه المعادلة التي أثبتتها وفرضتها بالوقائع ايران، تقوم على عنصرين، الأول عسكري اقليمي دولي والثاني اقتصادي اقليمي دولي.
لناحية العنصر العسكري الاقليمي الدولي، لن تكون أي قاعدة جوية أو برية عسكرية، أميركية أو اقليمية معادية لايران، بمنأى عن الاستهداف (الصاروخي او عبر الطيران المسير) المُركَّز والواسع، بمعزل عن نسبة الصورايخ مهما كانت بسيطة، والتي سوف تنجح بالوصول اليها، وهذا وحده كاف لدفع جميع تلك الأطراف أصحاب تلك القواعد، لكي تعيد حساباتها وبدقة وبتمعن، مع ما يحمله ذلك من تداعيات داخلية او خارجية على تلك الأطراف.
لناحية العنصر الاقتصادي الاقليمي الدولي، بمعزل عما سيصيب مضيق هرمز وخليج عمان من شلل واسع واكيد لناحية وقف نقل 40 % من نفط العالم، فإن الاضرار المختلفة المستويات التي سوف تصيب مصادر النفط والغاز في الخليج ومحيطه، عند اية مواجهة عسكرية، لن يكون امتداد نتائجها في الزمن باقل من فترة كافية لضربة واسعة وقاسية لسوق النفط العالمي، لناحية الارتفاع الجنوني للاسعار، او لناحية الخلل في عدم قدرة دول واطراف عدة على الحصول على حاجتها الضرورية من الطاقة، الأمر الذي سيسبب حتما فوضى اقتصادية عالمية، لن تكون تداعياتها باقل من كارثية.
واخيرا، ربما كانت تهدف الولايات المتحدة الاميريكة، من خلال مواكبة الضغوط الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية مع محاولة اختراق السيادة الايرانية، أن تفرض على ايران مسارا مُقيِّداً لها، يمنعها من الاستفادة من معادلة الردع هذه، فيما لو فشلت الأخيرة في استهداف الطائرة الاميركية، ولكن ما جرى لناحية اثبات القدرة العسكرية والتقنية المتطورة، ولناحية اتخاذ القرار الحساس والاستراتيجي باستهداف الطائرة، مع ما يترتب عليه من تداعيات، كل ذلك نقل الاشتباك مع ايران الى مكان اخر، تتحكم به معادلة حاسمة على الصعيد الدولي، لا يمكن تجاوزها بعد الأن.