فتنة ديسمبر.. كيف أدار قائدُ الثورة المواجهةَ مع “مليشيات الخيانة” منذ البداية..؟
فتنة ديسمبر.. كيف أدار قائدُ الثورة المواجهةَ مع “مليشيات الخيانة” منذ البداية..؟
يمني برس – ضرار الطيب
لم تكُــنْ فتنةُ ديسمبر 2017 التي قادها زعيمُ مليشيا الخيانة علي عَبدالله صالح مُجَـرَّدَ حادث طارئ محصورٍ في فترة الانقلاب المسلّح الذي شهدته صنعاءُ وعددٌ من المحافظات قبل عامَين من الآن، فالحقيقةُ أَن أحداثَ ديسمبر كانت نتيجةَ سلسلةٍ من الخطوات والترتيبات التي ظل صالح يُعِدُّها منذ فترة مبكرة من العدوان، حَيْــثُ كانت مواقفُ “صالح” والكيفية التي حاول بها إظهارَ وقوفه ضد العدوان، تكشِفُ بشكلٍ جلي عن احتفاظه بأجندةٍ خَاصَّةٍ ربما كانَ أول ظهور واضح لها في فعالية الذكرى الأولى للعدوان، والتي حاول استغلالَها لشَــقِّ الصَّــفِّ باحتفال خاصٍّ، كان الغرضُ منه هو إرسالَ رسالة لتحالف العدوان بامتلاك قاعدة جماهيرية يمكن لها إحداثِ انقلابٍ كبير ضد “أنصار الله” بشكل خاص، على أن جماهيرَ المؤتمر التي حضرت آنذاك كان دافعُها هو التعبيرَ الصادق عن الوقوف ضد العدوان ولم تكن تعي ما يدورُ في ذهن صالح من ترتيباتٍ توالت منذ ذلك الوقت من خلال تواصلات سرية مع “التحالف” ومحاولات حثيثة ومتكرّرة لشَقِّ الصَّــفِّ الداخلي، انتهت إلى تفجير الوضع في ديسمبر 2017.
في هذا العرض، نتناولُ جذورَ وأحداثَ فتنة ديسمبر، ولكن من زاوية أُخرى نعتمد خلالها في مقاربة الأحداث على الطريقة التي تعامَلَ بها قائدُ الثورة السيد عَبدالملك بدر الدين الحوثي مع ترتيبات صالح الخيانية منذُ البداية (نكشفُ منها أَيْـضاً تفاصيلَ خَاصَّةً حصلت الصحيفة عليها)، فعلى الرغم من المحاولات المستمرّة التي يحاول بها تحالفُ العدوان أن يظهرَ التعامُلَ مع فتنة ديسمبر كخطوة “انتقامية” من قبَل “أنصار الله” ضد شخص “صالح”، إلا أن تعامُلَ قائد الثورة مع الأمر كان بعيداً كُـلَّ البُعد عن ذلك، وعلى العكس، تكشفُ خطاباتُ السيد عَبدالملك ولقاءاتُه قبلَ وأثناءَ الفتنة عن حرصٍ شديد على تغليب المصلحة الوطنية العامة، وتغيبُ فيها كُـلُّ الحسابات الخَاصَّة أَو الشخصية، وقد كان كانت إدارتُه لهذا المِـلَـفِّ بالغةِ النجاح، لدرجة أنها حشرت “صالح” في زاويةٍ ضيِّقةٍ ليجدَ نفسَه في نهاية المطاف فاقداً لأية حَجّة أَو عُذرٍ يبرّر به خيانتَه، وهذه الإدارَةُ الناجحةُ كان لها إسهامٌ رئيسي في تسريعِ التغلُّبِ على الفتنة ووأدِها، فكيف حدث ذلك؟.
شَــــقُّ الصف
يمكن القولُ إن “صالح” بدأ بتحويل نواياه الخيانية إلى خطوات عمل واضحة ومنظّـمة وموجّهة عقب التوقيع على الاتّفاق السياسيّ بين المؤتمر و”أنصار الله” والذي أفضى إلى تشكيلِ المجلس السياسيّ الأعلى، حَيْــثُ استغلَّ “صالح” شراكةَ المؤتمر الرسمية في السلطة لتشويه “أنصار الله” بشكل متواصل، محاولاً في الوقت ذاته تقديمَ نفسه كبديلٍ أفضلَ، تمهيداً لإعلان الانقلاب.
وكانت البدايةُ بحملات إعلامية تغطت بالكثير من العناوين، جاء في مقدمتها “المشاكل الداخلية” التي كانت توجّـه بشكل مكثّـف باسم “المؤتمر” وتركّز على إظهار بعضِ الاختلالات في الوضع الداخلي، أَو اختلاق اختلالات أُخرى، وتضخيمها ونشرها بشكلٍ مكثّـفٍ يطغى على النِّشَاط الإعلامي المواجه للعدوان، بل ويكادُ يغيبُه تَمَاماً، بجَــرِّ كُـلِّ الإعلاميين إلى مربع المهاترات، التي يبرُزُ فيها الحرصُ الواضحُ من قبل أتباع “صالح” على تشويه أنصار الله بشكل خاص.
في خطابه بمناسبة جُمُعَة رجب، في إبريل 2017، خصّص قائدُ الثورة جزءاً من خطابه للتنبيه لهذا الوضع، حَيْــثُ رحّب بالتعاطي المسؤول مع أية مشاكلَ داخلية، لكن نبّه في الوقت ذاته على أن ما كان يحدُثُ آنذاك كان بعيداً كُـلّ البعد عن التعاطي المسؤول، بل أوضح أنه “أسلوبٌ نِفاقي عدائي يخدُمُ العدوَّ بشكل واضح ومفضوح”، وأنَّها من أساليب “الطابور الخامس الذي يحرّكه الأعداء”.
لم يذكر قائدُ الثورة حينَها المؤتمرَ أَو “صالح” بالاسم، لكنه أشار إلى أن من يقومون بهذه الحملات “يستلمون مرتباتٍ من الإمارات ومن السعوديّة”، وخاطب الشعبَ بالتصدي لهذه الحملات “وتنقيةِ الصَّــفِّ الداخلي”، وهو ما كان رسالةَ تحذير واضحةً، تفيدُ بأن كُـلَّ تحَرّكات “صالح” مكشوفةٌ وأنه لن يستطيعَ صبغَها بصبغة وطنية أبداً؛ لأَنَّها تخدُمُ العدوانَ بوضوح.
كان هذا الخطابُ بعد أشهر من تاريخ وثيقة اطلعت عليها صحيفةُ “المسيرة” تحتوي على رسالةٍ سريةٍ من عضو مجلس الشورى السعوديّ، حيدر الهبيلي، يدعو فيها صالح إلى “اتّفاقٍ” بينه وبين المملكة، اعتماداً على ما قاله الأخيرُ في خطاب له عام 2016 تحدّث فيه عن “استعداده للسلام مع المملكة”، الأمر الذي يعني أن صالح كان يتبادَلُ الرسائلَ الخَاصَّةَ مع تحالف العدوان حتّى في خطاباته، وكُلُّ ذلك كان تحت نظر قائد الثورة الذي حرص على الحِفاظ على الشراكة مع “المؤتمر” بشكل فعّال لمواجهة العدوان وتصحيح الاختلالات بطرق سليمة، حتّى في الوقت الذي كانت تواصُلاتُ “صالح” مع العدوان مكشوفةً.
أساليبُ “صالح” لتشويه “أنصار الله” ضمن الحملات الإعلامية تضمنت أَيْـضاً الدفاعَ عن الفساد، من خلال إظهار أيةِ توجيهات لقائد الثورة بـ”تطهير مؤسّسات الدولة من الفاسدين والعملاء” وكأنّها توجّـهات تستهدفُ فصلَ موظفي الدولة جميعاً، في محاولةٍ لتثويرهم ضد الأنصار، وهو ما نبّه عليه السيدُ القائدُ في خطاب الذكرى السنوية للشهيد القائد، إبريل 2017 أَيْـضاً، قَـائلاً بأن المطالبة بتطهير المؤسّسات ليس فيها ما يزعج إلا إذا تمَّ التعامُلُ معها “بحسابات الخِيانة”، في إشارة أُخرى تنطلق من اطلاع قائد الثورة على حقيقة دوافع “صالح” من وراء تلك الحملات الإعلامية والتشويهية.
تجاهَلَ “صالح” إشاراتِ وتنبيهاتِ قائد الثورة، ومضى في تنفيذ مخطّطاته وحملاته الإعلامية، بالتوازي مع استمرارِ التواصُلِ مع الإمارات والسعوديّة، حَيْــثُ اطّلعت صحيفةُ “المسيرة” على وثيقة أُخرى تحتوي على رسالة من “صالح” إلى ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، يطمْئِنُه فيها أن “الحرسَ الجمهوري لا يشاركُ في القتال”، وأن “الصواريخ بيد الحوثيين” وأنه “يشاطرُ الإماراتِ الموقفَ من الإخوان”، ويضيف أَيضاً: “محافظ الحديدة يُدعَـمُ من لدينا”.
قابَلَ قائدُ الثورة التواصلاتِ والترتيباتِ المتزايدةِ بين “صالح” وتحالُفِ العدوان بعقد لقاء “العاشر من رمضان” الشهير، بداية يونيو 2017، الذي جمع وجهاءَ وعلماءَ اليمن، وخصّصه السيد القائد للحديث عن “الجبهة الداخلية”، وقال فيه: إن “قوى العدوان تسعى لأَنْ تجُــرَّ إلى صفها بعضَ المكونات التي آثرت المصالحَ الحزبية على المصالح الكبرى”، مذكراً بأن هذه المكونات تحاولُ توظيفَ المشاكل الداخلية لصالحِ العدوِّ.
تحدث السيد القائد أَيْـضاً عن بعضِ من “يرتبطون بالعدوّ بشكل مباشر” وَ”يتّخذون مَوقفاً خيانياً يتنصّلون فيه عن المسؤولية”، وأشَارَ إلى أن هؤلاءِ يمثلون “جبهةً موازيةً لجبهة العدوان” مهمتُها “ضربُ القوى التي تقفُ ضد العدوان ولكن بدون أَن تصرِّحَ بانضمامِها له”.
وحتّى مع اطلاعه على ترتيبات خيانة “صالح” إلا أنه حافظ على نبرة الخطاب المسئول، مؤكّـداً على ضرورة “المحافظة على الجبهة الداخلية”، وأشَارَ إلى التواصُلِ مع المؤتمر الشعبي العام بشأن الوضع الداخلي.
عندما نقولُ: إنَّ قائدَ الثورة كان يتمسّكُ بالتأكيد على أهميّة المصلحة العامة وتماسُك الجبهة الداخلية، بالرغم من اطلاعه على تحَرّكات “صالح” فهذا لا يعني أن السيدَ القائد كان يراقِبُ فقط، فالحقيقةُ أن سلسلةَ التحذيرات والتنبيهات التي تضمنتها خطابُ قائد الثورة كانت تستبق خططَ “صالح” وتغلق أمامها أية محاولات لتبرير الخيانة، وقد كان لقاءُ العاشر من رمضان خطوةً مهمةً في هذا السياق، إذ وضع السيدُ عَبدالملك معاييرَ وثوابتَ الموقف الوطني من العدوان أمام كُـلِّ وجهاء اليمن وتبلورت تلك الثوابتُ في “وثيقة العاشر من رمضان”؛ لكي لا تكونَ هناك أية حُجّة بيد مَن يحاولُ الخروجَ عن هذه الثوابت، وهو ما حَدَثَ
.
إحباطُ مخطّط 24 أغسطُس
في تلك الفترة، كان “صالح” ينتقلُ بترتيباته إلى مرحلة أعلى من التصعيد، بالتحشيد لفعالية 24 أغسطُس الحزبية الخَاصَّة بذكرى تأسيس المؤتمر، والتي بدأ الإعدادُ لها من قبلِ شهرين من موعدها، وصاحَبَ ذلك الإعدادَ كثافةٌ غيرُ مسبوقة في الحملات الإعلامية الرامية لإحداث شرخٍ في الجبهة الداخلية، في الوقت الذي كانت الجبهاتُ مع العدوان تشهدُ احتداماً في المواجهات، الأمر الذي أظهر الكثيرَ من ملامح الخيانة على السطح، وبات واضحاً حينها أن الرجلَ يسعى بوضوح لاستغلال الحالة الشعبيّة الرافضة للعدوان لصالح مخطّطه الرامي إلى إسقاط “أنصار الله” وغيرهم من القوى الوطنية، والصعود بديلاً عنهم برعاية من “التحالف”.
وبحسب ما تفيدُ المعلوماتُ التي حصلت عليها الصحيفة، فقد كان “صالح” يرتّب في الحقيقة لتكونَ تلك المناسبةُ محطةً لإعلان الانقسام والخيانة، وهو ما ظهر في كمِّ الدعاية الإعلامية التي وُجِّهت بشكل كبير للحديث عن “عودة صالح” إلى الحكم، وُصُــوْلاً إلى وصف صالح للجيش واللجان بـ”المليشيات”.
وهنا تبرُزُ حِنكةُ قائد الثورة في إدارَة الموقف بشكلٍ أوضحَ، ففي خطابه بمناسبة الذكرى السنوية للصرخة (21 يوليو 2017) خصّص السيدُ جُزءاً من حديثه لحزب المؤتمر، الذي كان نشطاؤه آنذاك قد وصلوا في حملاتهم الإعلامية إلى الحديث عن “الانتخابات” ليقول لهم بوضوح: إن المرحلة مرحلة “اقتحامات لا انتخابات”، بل وكشف أن “نشاطاً استقطابياً من قبل العدوان يطالُ أعضاءَ المؤتمر”، وتحدث عن اختراق داحل الحزب، وتحدّث أَيْـضاً عن استقطابِ أعضاء “البرلمان”، وخاطب المؤتمرَ بأنه “لا يَحِقُّ لأحد حمايةُ أعضاء مجلس النواب الخَوَنَةِ من الإجراءات القضائية”، في إشارة إلى نواب المؤتمر المنضمين للعدوان.
لقد كشف كلامُ قائد الثورة محاولةَ “صالح” لتغطية انقلابِه بغطاء البرلمان، حَيْــثُ كان البرلمان وقتها (بسيطرة نفوذ صالح عليه) قد تبنى مبادرةً مجحِفة للاستسلام للعدوان.
ومع تزايد التحَرُّكات المشبوهة لأتباع صالح في الميدان تزامُناً مع اقتراب الفعالية، دعا السيدُ إلى اجتماعٍ موسّع لعقلاء وحكماء اليمن (19 أغسطُس 2017) وضعهم فيه بشكل واضح أمام حقيقة الوضع وأبلغهم بأن العدوانَ يجهّز لخطةٍ جديدةٍ تستهدفُ الجبهةَ الداخليةَ بشكل مباشر بالتزامُنِ مع احتدام المواجهات في الجبهات الأُخرى، على أمل حسم المعركة من خلال ذلك.
كشف قائدُ الثورة بوضوحٍ خطةَ “صالح” من فعالية أغسطُس، حَيْــثُ أوضح خلال الكلمة أن مخطّطَ العدوان يتضمَّنُ: “إبراز قضايا هامشية حزبية تطغى على المشهد الداخلي، والعمل على حشد ما يمكن حشدُه من الناس تحت عناوينَ ثانوية بعيدة عن مواجهة العدوان”.
وتحدث السيد بشكل صريح عن اختراق المكونات السياسيّة في الداخل من قبَل العدوان لشَقِّ الصَّــفِّ الوطني، وكرّر التنبيه على الاهتمام المشبوه بـ”الحزبية” بل وقدّم توضيحاتٍ ردَّ بها على الحملات الإعلامية التشويهية، إذ أكّـد أن “أنصارَ الله أقلُّ حضوراً في الهيكل الاداري للدولة”، وجدّد التنبيهَ على غياب أية إجراءات ضد البرلمانيين الخوَنة، وأوضح أن “أنصارَ الله يتلقون طعناتٍ في الظهر”، وأشَارَ أَيْـضاً إلى مبادرة البرلمان الاستسلامية، مؤكّـداً أنها مساومةٌ على بيع البلد، واختتم الخطاب بوضع حكماء وعقلاء اليمن في الصورة كـ”مرجعية تحكيم” وطلب منهم إبلاغ من يريدون شق الصَّــفِّ الداخلي وتنبيههم.
نسف قائدُ الثورة بهذا الخطاب العملَ الذي ظل “صالح” يرتب له لأكثرَ من شهرين، وجرّده من أية أغطية كان يحاول أن يمرِّرَ تحتَها تلك ترتيباته الغادرة، ووضعه في واجهة المشهد أمام الاستحقاقات الوطنية وأمام حكماء وعقلاء اليمن الذين بات دخولهم على الخط عائقا أمام أية محاولات من قبل “صالح” لخداع القبائل والمجتمع من أجل تمرير الانقلاب.
أثَرُ هذا الخطاب كان سَريعاً وواسع المفعول، إذ وجد “صالح” نفسَه بلا أية حيلة، ولجأ إلى تغيير خِطته ليلقيَ خطابَه قبلَ موعد الفعالية بيوم، وهو الأمر الذي جعل الفعاليةَ تخرُجُ تَمَاماً عن الحسابات المُعَدَّة لها وتمُرُّ بدون أية فائدة كان يرجوها “صالح”.
فشل صالح في تمرير خيانته تحت غطاء شعبي في 24 أغسطُس، لكن سوءَ تقديره للوضع، أَو ربما طمعَه في العودة إلى السلطة بأي ثمن، منعه من التوقّف عما يفعله، بل دفعه إلى التهور أكثرَ والدخول في مرحلة التصعيد العسكريّ في 26 أغسطُس، بهجوم شنّته مليشياته على نقطةٍ أمنية، كما لو أنه أراد أن يثبتَ لتحالف العدوان أنه ما زال بإمْكَانه تدارُكُ الموقف وتنفيذُ الخيانة المخطّط لها، لكن النتيجة كانت عكسيةً، إذ كشفت العمليةُ مُضِيَّ صالح نحو تفجير الوضع لصالح العدوان، وهو الأمرُ الذي جعله مكشوفاً بشكل أكبر، وجعل موقفَه أسوأَ على المستوى الشعبي.
على هذه الأرضية الهشة، صعّد “صالح” خطواتِه الخيانية في مرحلةِ ما بعد 24 أغسطُس بشكل مرتبكٍ ومكشوف، وبدأ إدخالَ وتجميعَ مليشياته في صنعاءَ؛ تمهيداً لتفجير الوضع عسكريًّا.
وهنا تبرُزُ مرةً أُخرى حنكةُ قائد الثورة في إدارَة المِـلَـفِّ إذ أجرى لقاءً شخصياً عبر الشاشة مع “صالح”، وأفادت مصادرُ مطلعةٌ للصحيفة بأن السيد أبلغ “صالح” باطلاعه على ما يتم إعدادُه في صنعاءَ وذكر له تفاصيلَ كثيرةً، أكّـدت أن الوضعَ كله مكشوفٌ، ودعاه إلى التوقُّفِ عن ذلك؛ لأَنَّ الوقتَ ما يزال سانحاً للعودة إلى صفِّ مواجهة العدوان، لكن “صالح” حاول الإنكارَ ومضَى في الورطة أكثرَ.
مع ذلك، تمسّك قائدُ الثورة بالجوانب الإيجابية التي أبداها قياداتُ المؤتمر آنذاك والتي أنتجتها مساعي وتواصلاتُ الشهيد الصمَّــاد، وتحدث السيدُ عن تلك التفاهمات في خطاب (14 سبتمبر 2017) وحث حكماءَ اليمن على دعم هذه التفاهمات، الأمر الذي يؤكّـدُ مجدّداً أنه ظل متمسكاً بتغليب المصلحة العامة طوال فترة تعامله مع هذا المِـلَـفِّ، الأمر الذي استمر بتجريد “صالح” من أية محاولات لتبرير خيانته برغم أن تواصلاتِه مع العدوان كانت قد وصلت في تلك الفترة إلى مستوىً غيرِ مسبوق.
ومع نهاية نوفمبر 2017، وفي الوقت الذي كان “صالح” على أُهبةِ الاستعدادِ لبدء تصعيده الأخير، ظل قائدُ الثورة يوجّه خلال محاضراته السابقة للمولد النبوي بـ”الكف عن المناكفات الإعلامية” التي كان أتباعُ صالح يثيرونها باستمرار.
ديسمبر.. المعركةُ الخاسرة
على الرغم من علمِه باطلاع قائد الثورة على مخطّطِ الخيانة، إلّا أن “صالح” قرأ استمرارَ تغليب السيد عَبدالملك للمصلحة العامّة ودعمَه للتفاهمات الإيجابية بشكل خاطئ، وكأنَّه ظنَّ أَن ذلك المخطّطَ قد نُسِيَ، وهكذا بدأ بفتنة ديسمبر، دافعاً بمليشيات “طارق” للاعتداء على المحتفلين بالمولد النبوي لمدة أربعة أيام بدأت من قبلِ فعالية المولد بيوم.
في اليوم الرابع، صباح السبت، 2 ديسمبر 2017، ظهر قائدُ الثورة مجدّداً في خطابٍ هو الأولُ من نوعه، إذ خُصّص كاملاً للحديث بصراحة عن المشكلة مع مليشيات “المؤتمر”، مفنّداً كُـلَّ التبريرات التي ساقها الأخيرُ لاعتداءاته، ومستعرِضاً الروايةَ الحقيقيةَ للأحداث.
مع ذلك لم يكن خطابُ قائد الثورة عدائياً، واستمر بالتأكيد على “أولوية مواجهة العدوان”، داعياً المؤتمرَ إلى وقف هذه التصرُّفات، كما دعا حكماءَ اليمن إلى التدخل، ووجّه تقريعاً شديدَ اللهجة لمليشيات طارق، مذكراً إيّاها بأنها كانت “كالأرانب الضعيفة” عند اقتحام قوات الفارِّ هادي لجامع الصالح وقناة اليمن اليوم.
دعا قائدُ الثورة المؤتمرَ إلى الاحتكام للعقلاء والحكماء، ووصل به حرصُه على إيقاف الفتنة إلى “مناشدة” شخص “صالح” بأن يكونَ “أعقلَ وأنضحَ من هذه المليشيات”.
ذلك الخطاب جرّد صالح من أية “تبريرات” تبقّت لتمرير خيانته، وحشَرَه أمام أعين الشعب والعقلاء والقبائل، بينَ خيارَين، إما الاعتراف بالخطأ، وإما إعلان الانضمام الصريح للعدوان.
قراءةُ صالح الخاطئةُ لمناشدة وموقف السيد عَبدالملك، دفعته إلى تجاهُلِ خيارِ التراجُع، إذ ظَنّ أن موقفَ قائد الثورة ضعيفٌ وأن الاستمرار بالتصعيد سيكون أفضلَ، حتّى لو اضطر إلى إعلان الانضمام الصريح للعدوان.
وهكذا، مفتوناً بظنونه، خرَجَ “صالح” عقبَ كلمة السيد، لإعلان انضمامِه الصريح للعدوان، وبدأ ما أسماه “الانتفاضةَ” المسلحةَ في صنعاءَ وغيرِها من المحافظات، لكن الساعاتِ القليلةَ اللاحقةَ أثبتت له أن وقع في فخِّ ظنونه، وأنَّ خطاباتِ وتحذيراتِ قائد الثورة منذ بداية المشكلة قد أحاطته بالحجج التي لا يمكن معها أن يدّعي وجودَ أي دافع وطني وراء خيانته، وأن كُـلّ ما فعله هو كشف نفسه بنفسه قولاً وفعلاً أمام الجميع.
لهذا، جاءت الكلمةُ الثانيةُ لقائد الثورة مساء اليوم نفسه مركَّزةً بشكلٍ أكبرَ على إبراز الحقيقة التي “انكشفت” و”العار” الذي تقلّده “صالح” من خلال دعوتِه الفاضحةِ للاقتتال بين المواطنين والجرائم التي ارتكبتها مليشياتُه، والحديث عن “الخديعة” التي تعرّض لها من “تحالف العدوان” أَيْـضاً.
وعلى الرغم من أن المواجهاتِ كانت مستمرَّةً آنذاك بين مليشيات الخيانة وقوات الأمن، إلا أن قائدَ الثورة لم يستخدم في خطابه لهجةَ القوة العسكريَّة، بل لهجة الثوابتِ والمبادئ الوطنية التي يعرفها الشعبُ كله ويعرفُ أن مخالفتَها عمالةٌ وخيانة.
لم يكن من السهل على “صالح” أَو غيره من قيادات مليشياته أن ينكروا أيَّ شيء تكلّم به قائد الثورة، ووجدوا أنفسَهم وحيدين يواجهون فضيحةَ وَقْــعِها أكبرَ من وَقْعِ المواجهة الصعبة مع قوات الأمن، والحقيقةُ أن عدمَ حصول “صالح” على أي مناصرين من الشعب في تلك الفتنة كان في جزءٍ كبير منه نتيجةً للطريقة الفذة التي أدار بها قائدُ الثورة هذا المِـلَـفَّ من خلال وضع النقاطِ على الحروف وتبيين علاقة العدوان بشَقِّ الصَّــفِّ الوطني منذ البداية، الأمر الذي جعل “صالح” ومليشياتِه غيرَ قادرين على تغليفِ خيانتهم بغلافٍ وطني، ناهيك عن إقناع الناس بالانضمام إلى العدوان.
إن كواليسَ إدارَةِ قائدِ الثورة لمِـلَـفِّ “فتنةِ ديسمبر” منذ جذورِها هي أكبرُ وأوسعُ بكثيرٍ مما حاولنا استعراضَه هنا، لكن ما بين أيدينا من خطابات ولقاءات السيد عَبدالملك في هذا الخصوص، يكفي للتأكيد على أنه لم يكن لديه سوى هدف واحد هو وقف هذه الفتنة؛ حفاظاً على الصَّــفِّ الوطني وقطعاً للطريق أمام العدوان، وقد تم ذلك بنجاح منقطعِ النظير يكشفُه الوقتُ القصيرُ الذي تم خلاله حسمُ المواجهات مع المليشيات، وعودةُ الأمن إلى المحافظات بأفضلَ مما كان.