الحدود الشطرية بين شمال اليمن وجنوبه .. الرواية الغائبة
الحدود الشطرية بين شمال اليمن وجنوبه .. الرواية الغائبة
يمني برس:
الإنجليز والعثمانيون يضعون بذرة التشطير الأولى والأخطر
قبل القرن الماضي لم يكن هناك حدود بين شطري اليمن على الإطلاق أو حتى خلاف في الهوية والانتماء، ما عدا بعض التباينات المذهبية والطائفية التي كانت تظهر وتختفي من وقت لآخر إذ كانت تغذيها القوى الاستعمارية بشكل كبير.
إن أكبر وأول خطوة حقيقية لخلق واقع التشطير في اليمن إلى شمال وجنوب إنما تمت بفعل الصراع البريطاني العثماني على النفوذ في المناطق الجنوبية وباب المندب، فبعد المناوشات العسكرية وشراء الولاءات، وخاصة في الضالع ولحج والصبيحة، حدثت خلافات وتجاذبات بين طرفي الاستعمار حول ترسيم الحدود بين مناطق سيطرتهما، وخاصة المناطق المهمة مثل الضالع باعتبارها بوابة الجنوب، وكذلك الحزام الساحلي لباب المندب.
وفي مطلع القرن العشرين، وبعد تقاسم القوى الاستعمارية النفوذ في الشرق الأوسط والمغرب العربي، وخصوصاً بين القوتين الرئيستين فرنسا وبريطانيا، أجبرت فرنسا على الاقتصار على المغرب العربي وغرب أفريقيا، والابتعاد عن مصر والجزيرة العربية لصالح بريطانيا، وذلك على وقع إشغال فرنسا بالنزاع الذي نشب مع ألمانيا في 1905.
كل ذلك دفع بريطانيا إلى توسيع مطامعها وتعميق هيمنتها، فبعد أن فرضت هيمنتها على مناطق مختلفة في الجنوب اليمني على حساب الوجود العثماني اتفق الجانبان على إنزال لجنة حدودية من الطرفين رسمت الحدود بين شطري اليمن في عام 1905، ولم يتم ذلك إلا من خلال نزول فرق مسح جغرافي مزودة بقوة عسكرية، نظراً لرفض القبائل تقسيم الحدود وتصديها لكل محاولات المسح السابقة، حيث اتفق الطرفان على رسم حدود باب المندب والمناطق البرية التي تشكل خلفية لساحل المخا وذوباب، حيث امتد خط الحدود من ساحل رأس الشيخ مراد بالقرب من باب المندب وصولاً إلى جنوب مدينة التربة في مديرية الشمايتين التابعة لمحافظة تعز، بشرط أن يلتزم العثمانيون عدم التنازل عن أراضي المناطق البرية الواقعة شرق سواحل المخا وذوباب لأي دولة أخرى.
من قبل ذلك كان قد تم الاتفاق على حدود إمارة الضالع المحاذية لقعطبة، أما بقية المناطق شرقي الضالع (حدود يافع العليا والعواذل والعوالق) فقد تم رسمها على الخريطة بدون نزول ميداني، نظراً للتكاليف الباهظة التي يستغرقها المسح، بفعل عصيان القبائل اليمنية. وأما بالنسبة للشمال الشرقي باتجاه صحراء شبوة وحضرموت فلم يتم تقسيمها، ولم تكن تلك المناطق حينها قد خضعت لحملات تنقيب عن النفط.
موقف الإمام يحيى
قوبل النزاع البريطاني العثماني على ترسيم الحدود برفض قاطع من قبل الإمامة الزيدية لهذا الإجراء، معتبرة المحميات الجنوبية جزءاً لا يتجزأ من اليمن الكبير. وقد حاول الأتراك أن يكون الإمام يحيى جزءاً من الاتفاق الأولي للترسيم أو أن يوافق عليه، وكانوا يغرونه بأن يمنح حكماً ذاتياً للمناطق التي تحت سيطرته، ولكنه رفض رفضا قاطعا واستمر في الجهاد ضد الوجود التركي.
وحتى صلح دعان (1911) لم يتضمن إقرار الإمام بتلك الحدود. ومن خبث المستعمرين أنهم يتركون نفساً طائفياً في كل خطوة، حيث جعل العثمانيون من أنفسهم وكلاء لما سموها المناطق الشافعية، وبالتالي كانت الصلاحيات الواسعة التي انتزعها الثوار باستبدال القانون العثماني بالشريعة الإسلامية صلاحية تعيين الولاة والقضاة… الخ، ولكنها تقتصر على مناطق سيطرة الإمام. والحقيقة أن مناطق سيطرة الإمام يحيى مليئة بالشوافع السنة، مثلما أن مناطق السيطرة العثمانية مليئة بالزيود الشيعة، ولكن المستعمر يريد أن يقزم تلك الثورة فيوحي بأنها ثورة طائفية، وفي الوقت نفسه يخادع السكان الشوافع بأنه يمثلهم ويدافع عنهم.
على أي حال، تحول اتفاق ترسيم الحدود إلى معاهدة بين الاستعمارين التركي والعثماني في 1915، وبعد انسحاب العثمانيين 1918 وإعلان أول دولة يمنية في التاريخ، حيث كرست الهوية الجهوية التاريخية كهوية وطنية اسمها “اليمن”. وحينها اشتد إصرار الإمام يحيى على توحيد اليمن ورفض كل محاولات الترهيب والترغيب من قبل بريطانيا لكي يعترف بالحدود المرسومة بين طرفي الاستعمار، حيث وجه الإمام يحيى حميد الدين مطالبات رسمية بإعادة عدن ومحمياتها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من التراب اليمني، وأكد أن البريطانيين اغتصبوها بالقوة كما اغتصبها الأتراك من قبل، وأنه لا يعترف بالمعاهدات التي عقدها البريطانيون مع العثمانيين، ومن ضمنها معاهدة الحدود التي وصفها بأنها تمت بين طرفين مغتصبين لا حق لهما في التصرف بأرض اليمن. إلا أن البريطانيين اعتبروا شمال اليمن المستقل وريث الدولة العثمانية وملتزماً بكل المعاهدات التي وقعتها الدولة العثمانية معهم، ووصفوا خلافهم مع الإمام بأنه خلاف حول تحديد الحدود، في حين رفض الإمام هذا التوصيف وأصر على استرجاع كامل تراب جنوب اليمن، حتى قرر أن يضم المحميات الجنوبية بالقوة، وخاض حروباً عدة لتحرير جنوب اليمن، وكان يواجه بمقاومة من قبل بعض سلاطين الجنوب المرتبطين بالمحتل الذي كان يسندهم بطائراته العسكرية ووسائله الحربية المتفوقة في حينه.
وكان كلما اتجه الجيش اليمني جنوباً يتم اختلاق عدة أعداء ومشاكل في الحديدة وحاشد والحدود الشمالية مع ابن سعود وغيره.
فعندما حرك الإمام جيش اليمن باتجاه الجنوب في عام 1919 واقترب حينها 50 كم من عدن بسهولة، قصفه الإنجليز بالقنابل والطائرات في أكثر من منطقة، وطال القصف مناطق في تعز وإب، ما اضطر الجيش للتراجع. ولم تقف مساعي الإنجليز في احتلال اليمن عند “محمية عدن” (الاسم الذي كان يطلق على الجنوب حينها)، فقد سارعوا نحو الساحل التهامي وضربوا موانئ الحديدة واللحية والصليف والمخا، وقاموا بتسليم ميناء الحديدة لعدو الإمام وحليفهم: الإدريسي، عام 1920، فرد الإمام بتزويد القبائل في الجنوب بالمال والسلاح وطالبهم بالتعاون معه لطرد الاحتلال واستعادة أراضي الجنوب، فشرع الإنجليز في التوسع في الجنوب وضم المشيخات المتعددة المحيطة بعدن، للحيلولة دون تشكل اليمن الموحد على كافة الأراضي اليمنية التي كان الإمام يحيى مصراً على استعادتها، وكان الإنجليز يساومونه بالحديدة ويعدونه بتسليم الحديدة إلى دولته مقابل اعترافه بحدود 1905 التي رسمها المستعمرون بين شمال عثماني وجنوب بريطاني. ولم يتوقف الإمام بل حرك الجيش غرباً لتحرير الحديدة وتمكن من تحريرها عام 1925.
وتزامناً مع انتصار الحديدة حرك الإمام الجيش اليمني في العام نفسه باتجاه الجنوب، وتقدم في عدة محاور، حيث سيطر على أجزاء من الضالع، ولكن الأهم هو اقترابه من منطقة شقرة الساحلية في أبين بعد سيطرته على مناطق العواذل (لودر حاليا) وأطراف يافع والضالع. ولكن بريطانيا استدعت أسراباً من طائراتها وقصفت تجمعات جيش الإمام وحصل هلع كبير وقصفت مدن يمنية منها تعز وذمار ويريم وإب والضالع، كما ألقت الطائرات البريطانية المنشورات الطائفية التي تحرض فيها أتباع المذهب الشافعي على “الزيود”،. وبالتزامن مع ذلك حركت جبهات داخلية على الإمام في حاشد وقبيلة الزرانيق في الحديدة، فمثلاً استغل الإنجليز شيخ الزرانيق وطلبوا منه أن يتقدم بشكوى إلى جمعية الأمم مطالباً بانفصال الزرانيق عن حكومة صنعاء، وبفعل ذلك حصلت معارك طاحنة استنزفت وشتتت تركيز جيش الإمام يحيى. يضاف إلى ذلك النزاع الحدودي في الشمال مع الأدارسة وبني سعود على نجران وعسير، حيث كانت بريطانيا تحرك هذه الورقة وتضغط على الإمام، وتعده أحياناً بحرية التصرف بمناطق الأدارسة إذا اعترف بمحمية الجنوب، وصولاً إلى تحالف الأدارسة وبني سعود بإيعاز بريطاني لتصبح أراضي الأدارسة تحت حماية بني سعود وبدعم وتسليح كبير من الإنجليز، وأصبحت اليمن حينها في خطر حرب وشيكة مع بني سعود.
تأجيل مسألة الحدود مع محمية عدن
كل تلك العوامل التي ذكرناها في الحلقة السابقة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره هنا، دفعت الإمام للدخول في مفاوضات التمهيد في الفترة (1929-1933) بشأن تأجيل الصراع مع بريطانيا على الحدود مع محمية عدن حتى توجت بتوقيع اتفاق نهائي في 11 فبراير 1934، وفيها تمكن الإمام من انتزاع اعتراف بريطاني دولي بقيام أول دولة يمنية في العصر الحديث، وفرضت الاتفاقية انسحاب جيش اليمن من الضالع وبعض مناطق أبين. ومع ذلك فلا تعتبر تلك الاتفاقية في نصها بمثابة اعتراف مطلق من قبل الإمام بالحدود التي فرضها المستعمرون (كما يروج البعض)، ولكنها اتفاقية مزمنة اتفق فيها الطرفان على عدم تغيير الوضع القائم (أي واقع حدود 1905) على أن يتم تأجيل مناقشة مسألة ترسيم الحدود إلى المفاوضات التالية التي يتعين أن تجري قبل انتهاء مفعول الاتفاقية، أي في غضون 40 عاماً.
وكانت تلك المناورة من الإمام بغرض التفرغ لمواجهات جيوش بني سعود، المدفوعين من بريطانيا، باتجاه نجران وعسير، حيث كانت قد اندلعت معارك حدودية عنيفة مع جيش بني سعود في نجران تمكن فيها الجيش اليمني من السيطرة على مدينة نجران. أما في جيزان وشمال الحديدة فقد حدثت معارك مع الأدارسة وجيش بني سعود، حيث نقض الأدارسة حلفهم مع بن سعود والتحقوا بالإمام في 1933، والسبب خذلان بريطانيا للأدارسة، لأنهم كانوا مجرد دولة مصطنعة أدت كل الوظائف التي كلفتها بها بريطانيا وبعدها تركتهم عرضة لبطش قوات بني سعود حلفاء الإنجليز، وهذا أعاد للأذهان استخدام إيطاليا للأدارسة في فترة الحرب العثمانية الايطالية.
حاول بنو سعود تصفية جيزان من الأدارسة والسيطرة على الحديدة التي كانوا قد زحفوا إليها بغية تسليم الحديدة لبريطانيا لقاء تعاونها معهم في احتلال باقي الأراضي اليمنية في نجران وجيزان وعسير.
إن سيطرة الجيش اليمني على نجران ثم استيلاء السعودية على جيزان وتحقيقها خرقا باتجاه الحديدة، وما تلا ذلك من تطورات، قد مهدت الساحة لتوقيع اتفاقية حدودية مع السعودية في العام 1934.
انفجار الصراع بين الإمام والإنجليز على حامية شبوة
لم يكن اتفاق 1934 بين الإنجليز واليمن إلا مجرد تهدئة وتجميد للتصادم المباشر بين الجيش اليمني وبين المحميات البريطانية في الجنوب اليمني، حيث لجأ الطرفان إلى أسلوب آخر في الصراع، وهو اختراق الحاضنة الشعبية والقبلية، فمثلما عمد الإمام إلى استنهاض القبائل الجنوبية ودعمها بالمال والسلاح لمقاومة الاستعمار وجعل من تعز والبيضاء مأوى للثوار وعائلاتهم، وخاصة من تعرضت قراهم للقصف والتدمير، فإن بريطانيا لم تقف مكتوفة الأيدي، فقد قامت باختراق طبقة من وجهاء ومثقفي اليمن وجعلت من عدن مأوى لهم ودفعتهم لتشكيل ما يسمى “حزب الأحرار اليمنيين” بهدف الضغط على الإمام يحيى لتغيير سياسته العدائية الصلبة تجاه الوجود البريطاني في جنوب اليمن، وقد أثمرت هذه المساعي البريطاني تمكين هذا التنظيم من اغتيال الإمام يحيى في 1948.
ولكي تتضح الصورة أكثر عن تلك الحقبة سنتناول بإيجاز بعض تفاصيل تلك الأحداث.
بداية نتطرق إلى شبوة، التي لم ترسم حدودها نهائياً، وتسبب ذلك في تفجير أزمة بين اليمن وبريطانيا، فقد كانت المناطق الواقعة في قبيلة الكرب في شبوة على الحدود مع مأرب وحضرموت متروكة وخارج سيطرة صنعاء. وحين بعث أبناء القبائل تلك رسائل الولاء والطاعة إلى الإمام، أرسل إليهم الإمام مجموعة بقيادة شيخ مراد (القردعي) في سنة 1937 لتقيم حامية في مدينة شبوة باسم حكومة اليمن، فأرسلت بريطانيا تسع طائرات قامت بتحليق استعراضي فوق شبوة والعبر وبيحان لتخويف القردعي وقواته وقبائل المنطقة، وعينت الكابتن “هملتن” الذي انتقل إلى الإدارة السياسية البريطانية في عدن ليرتب عملية استعادة شبوة من القردعي، فتواصل مع شريف بيحان وبلحارث والعاقل الهمامي واصطحب معه قوة من حرس الحكومة بقيادة الرايس علي جازع العولقي، فتحرك مرتزقة من همام وكانوا حوالي مائة رجل بقيادة العاقل صالح بن حسين الهمامي، كما أرسل هملتن رسالة إلى آل مهدي وعلى وجه التحديد طالب بن علي بن أحمد، وطالب بن علي بن حسين، وحسن بن علي بن مقلم، مع مجموعة من أصحابهم، يطلب حضورهم إلى شبوة لمواجهة القردعي وقواته، فذهبوا ومعهم الشيخ عيدروس بن أحمد بن طالب الذي تزمل قائلاً:
إحنا توكلنا على الباري
ذي كل شي مكتوب بالخيرة
يا حد بن غالب ويا عرما
جا لش هملتن من جبل صيرة!
من جهة أخرى كانت علاقة السلطان عوض بن صالح العولقي مع بريطانيا سيئة للغاية حينذاك، فرفض إرسال أي قوات عولقية للمشاركة مع هملتن في دحر العولقي. كما أن عامل الإمام في البيضاء، السيد محمد عبدالله الشامي، قام باتصالات سرية، بواسطة السيد ناصر بن محسن “عاقل مرخة”، مع السلطان عوض بن صالح لكي يتنازل عن أية حقوق تاريخية للعوالق في شبوة، لكنه رفض ذلك أيضاً، فكلاهما (الإنجليز والإمام) يبحث عن الغطاء القانوني لأي تدخل أو تصعيد، فالإنجليز يبحثون عن شيخ أو سلطان ليدعي ملكيته لتلك الأرض ليعقد معه الإنجليز معاهدات الحماية يتدخلون تحت مظلتها. وفي المقابل فإن الإمام يعمل حساباً للبعدين السياسي والقانوني في حال تراجع الخيار العسكري والثوري، فكان يبذل جهده لإفقاد الإنجليز ورقة المناطقية والخلافات الحدودية بين القبائل التي يسخرونها في استغلالهم وتجييشهم ضد القيادة اليمنية.
عموما عندما توجهت قوات الإنجليز ومرتزقتهم باتجاه حامية شبوة حسمت الموضوع سريعاً دون قتال، لأن القردعي تعمد الذهاب بقوة صغيرة لم تكن نداً للإنجليز، بزعم أن الإمام أرسله بغرض التخلص منه، وبعد القبض عليه أمره الإنجليز بالتراجع. ولا يوجد تفسير لما حصل إلا أن القردعي قد داهن الإنجليز بشكل سري، بدليل أنه بعدها أصبح مرتبطا بتنظيم الأحرار الذي تأسس في عدن تحت رعاية الإنجليز الذين استخدموا التنظيم في الضغط على الإمام يحيى وصولاً إلى اغتياله في عام 1948.
وبرغم ما آلت إليه الأمور في شبوة فإن القيادة اليمنية في صنعاء لم تسلم بالأمر الواقع، وأصرت على تبعية تلك المناطق للدولة اليمنية، فشعرت بريطانيا أن شبوة الغنية بمعادنها وبترولها قد تفلت من يدها فلجأت كالعادة إلى حيلة خبيثة، وهي استخدام ورقة محلية يمنية ضد الإمام، فتذرعت بأن هذه المنطقة تدخل ضمن الأراضي الحضرمية التابعة للسلطان الكثيري، مع أن السلطان الكثيري في ذلك الوقت كان السلطان الوحيد الذي لم يكن قد دخل في معاهدة مباشرة مع بريطانيا لحمايته، ولم يكن في مخيلته التصادم مع الدولة اليمنية التي يحترمها، بل إنه كان مقرباً من سلطة صنعاء، بعكس حضرموت الساحل التي كانت تسيطر عليها السلطنة القعيطية بدعم بريطاني مباشر، وكانت سيطرة بريطانيا على السلطنة القعيطية تغنيها عن السيطرة على السلطنة الكثيرية، حتى ظهرت أهمية شبوة من خلال نزول الشركة العراقية والشركة الإنجليزية- الإيرانية للتنقيب في شبوة عام 1946، وبعد تهديد الإمام للمناطق نفسها الغنية بالنفط سارعت بريطانيا لإرغام السلطان الكثيري على عقد معاهدة حماية عام 1939 معها، بعد أن هددته بالتدخل لصالح السلطان القعيطي في النزاع الناشب بينهما، فوقعت المعاهدة وادعت بريطانيا تبعية المنطقة لسلطنة الكثيري الخاضعة لحمايتها، وانتهى الخلاف البريطاني مع الإمام إلى عام 1939 بإخلاء الجانبين منطقة شبوة، وأن تكون “منطقة غير ذات إدارة حكومية ودون تدخل أي من الفريقين في شؤونها”، وهو الاتفاق نفسه الذي تم بين الإنجليز والأتراك سابقاً.
بالتزامن مع النزاع اليمني البريطاني على منطقة شبوة ومحيطها أسس الإمام للمقاومة الشعبية في الجنوب ضد الاستعمار، وبدأت الانتفاضات القبلية في تلك الفترة من العوالق وردفان وغيرها، فقد كان هناك روابط بين قبائل العوالق والأئمة الزيدية، فقد كان ثوار العوالق يلجؤون إليهم في العديد من المواقف، وقد وجدوا دعم الأئمة للعوالق ضد الإنجليز، وهناك العديد من الكتابات والمساجلات بين الأئمة في صنعاء وشخصيات ثائرة في العوالق.
فعلى سبيل المثال الثائر مذيب بن صالح بن فريد العولقي كان من دعاة توحيد شطري اليمن، وكانت بينه وبين الإمام يحيى وابنه أحمد لقاءات، وقد خرج من البيضاء على رأس جيش من شمال الوطن دخل إلى مرخة (في محافظة شبوة حاليا) سنة 1934، فصبت الطائرات البريطانية حممها على المنطقة وكانت معركة غير متكافئة من حيث التسليح، مما اضطرهم للعودة إلى البيضاء ثانية، وقد قال الشيخ مذيب عند دخوله صنعاء في جمع من العوالق الزامل التالي:
قال الفريدي راس قومه
سلام يا دار السعادة
يا دار يحيى بن محمد
ذي قوّم الدنيا جهاده
كما يقول مطلع قصيدة قالها العوالق عندما دخلوا صنعاء معزين في الإمام يحيى:
يا اهل حميد الدين عظم الله أجركم
في الشيبة الصمصوم أمير المؤمنين
ويقول الدكتور علوي بن فريد في إحدى كتاباته متحدثاً عن موقف الإمام ودعمه للعوالق: “بعد تراجع ثورة العوالق العليا الأولى التي أشعلها الإمام بقيادة الشيخ مذيب، تراجعت أيضاً الثورة الثانية في العوالق السفلى عام 1936، التي دعمها الإمام بقيادة آل باعزب، كما استنهض الإمام قبيلة القطيب في ردفان عام 1938. فهاجمت القوات البرية الإنجليزية وسلاح الطيران قرى قبيلة قطيب في ردفان فهدمت بيوتهم وأحرقت مزارعهم وقتلت منهم 42 شخصا وجرحت 100 آخرين”. وهناك العديد من التمردات والعمليات المتفرقة التي دعمها الإمام يحيى لا يتسع المقام لذكرها.
علاقة انقلاب 1948 بتقسيم اليمن
إن كثيراً من الحقائق والمعطيات تثبت أن الاستعمار البريطاني قد قام بالتعاون والتنسيق مع تنظيم الإخوان المسلمين المتمثل في “حزب الأحرار اليمنيين” وعبدالله الوزير من أجل إسقاط حكم الإمام يحيى، وقد كان الواسطة هو أحمد الأصنج، عم الأستاذ عبدالله الوزير، حيث استغل الإنجليز سعي الأمير علي الوزير للاستعانة بالإنجليز بعدن لعونه بالرجال والسلاح، ليكون ابن عمه عبدالله إماماً، وأنه سيعقد معهم معاهدة يكون لهم منها الأفضلية.
وهذا هو الهاجس الأكبر بالنسبة للإنجليز، وهو السعي في تثبيت الحدود الشطرية وضمان وجود سلطة حليفة في الشمال لا تدعم أو تمول الحراك التحرري ضد الاستعمار في الجنوب، فهي تسعى إلى التحرك تحت مظلة اتفاق 1934 لتجديده وتثبيته وضمان ديمومته، فهو بذاته لا يكفي، لأنه اتفاق رخو لا يضمن لبريطانيا الغطاء القانوني المطلق والدائم لتقسيم اليمن، وإلا لما نصت المذكرة التي أعدتها وزارة الخارجية البريطانية إثر انقلاب 1948 الذي أدير من عدن كثمرة لذلك التنسيق المشترك والذي أودى بحياة الإمام يحيى، حيث نصت المذكرة التي جاءت رداً على حاكم عدن “ريجنالد شامبيون” الذي طالب النظام البريطاني بالاعتراف بالانقلاب بفعل أن قائد الانقلاب عبدالله الوزير متواجد حينها في عدن قد قدم الوعود للإنجليز بأنه سيعقد معهم معاهدة يكون لهم منها الأفضلية، فكان مما تضمنته مذكرة الخارجية البريطانية: “إذا كان على بريطانيا مساعدة الثورة الآن والاعتراف بها فورا فعلينا أن نضرب الحديد وهو ساخن. ونطلب السماح بتمثيل دبلوماسي بريطاني في صنعاء ورسم الحدود بين اليمن ومحمية عدن على أساس معاهدة صنعاء 1934… إلخ”، لكن الحكومة البريطانية وجدت أن “الانقلاب لم يستقر تماما”، فتراجعت عن نية الاعتراف الرسمي.
ومن الشواهد أيضاً التي تعكس التورط المباشر للجانب البريطاني أنه سبق عملية اغتيال الإمام يحيى محاولة فاشلة قبل شهر من اغتياله، ولم تعلم بريطانيا أن العملية فشلت وأذيع من عدن بيان الثورة وأرسل الحاكم البريطاني لعدن تعازيه الشخصية إلى سيف الإسلام إبراهيم بن يحيى حميد الدين، كما تبنت العملية الجمعية اليمنية الكبرى (الاسم الجديد لحزب الأحرار)، معلنة أن عبدالله بن الوزير بويع بالإمامة خلفا للإمام. وحدثت هذه الفضيحة لأن الرجل الذي اختارته “الجمعية اليمنية الكبرى” ليشق طريقه داخل قصر الإمام ليقوم باغتياله قد نجح في دخول القصر، إلا أنه قبض عليه بواسطة حارس مخلص من حرس القصر اسمه عامر عنبر، قبل أن يصل إلى غرفة الإمام، ولكن الرجل هرب من القصر عبر السور مروراً بحي بير الغرب، فظن زملاؤه الذين رأوه يهرب أنه نجح وبالتالي ظن الإنجليز وتنظيم الأحرار أن العملية قد نجحت.
ولا ننسى أن نعرج على الدور المحوري لتنظيم الإخوان المسلمين في انقلاب 1948 (ثورة الدستور)، إذ إن تنظيم الأحرار في عدن هو الذي تبنى العملية والذي على رأسه رموز محسوبة على الإخوان (مثل أحمد محمد النعمان والقاضي عبدالرحمن الإرياني والقاضي محمد محمود الزبيري)، وقد كان المنظم والمنظر لتلك الثورة هو الفضيل الورتلاني (من الجزائر) أحد أعلام جماعة الإخوان المسلمين، وكان مرتبطاً بأدق تفاصيل عملية اغتيال الإمام يحيى، حيث أعد علي السنيدار ومحمد الكبوس سيارة من سيارات شركة الفضيل الورتلاني التي أنشأها في اليمن، عليها خمسة أشخاص مسلحين وكان يقودها أحمد ريحان، لتعترض موكب الإمام يحيى وتجهز عليه عند قرية حزيز جنوب العاصمة، وبعد الانقلاب ووصول عبدالله الوزير ورموز حركة الأحرار من عدن (وهم من الإخوان) إلى صنعاء تم تعيين الفضيل الورتلانى (مهندس الثورة) أول مستشار عام للدولة، وأصبح مؤسس الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا والفريق عزيز المصري من المستشارين العموميين للحكومة، وأعلنت إذاعة صنعاء أن الإمام الجديد تفضل وعين أحد المصريين (مصطفى الشكعة) مديرا للإذاعة اليمنية وباقي زملائه مذيعين، وهم من الإخوان، لتعمل الإذاعة أربع ساعات يومياً.
وقد فشل الانقلاب في النهاية بعد أن استطاع الأمير أحمد، نجل الإمام يحيى، الوصول إلى حجة قادماً من تعز، وقام بتحشيد القبائل من حاشد وبكيل واقتحم صنعاء وقضى على الانقلاب وأعدم معظم قادته، وهناك الكثير من التفاصيل لا يتسع المقام لذكرها هنا، حتى لا نخرج عن موضوعنا الأساسي المتعلق باستمرار المساعي البريطانية لتقسيم اليمن، الذي أسست له وزرعت جذوره منذ العقد الأول للقرن العشرين، وعلاقة الأحداث والتطورات المتلاحقة بمشروع التقسيم هذا.
بريطانيا تشترط تخطيط الحدود قبل أية مفاوضات
بعد وصول الإمام أحمد إلى دفة الحكم خلفاً لوالده التزم هو أيضاً باتفاقية 1934 لتجميد الصراع الحدودي، وبالتالي استمرار تجميد التصادم المباشر بين القوات اليمنية وبين المحميات البريطانية في الجنوب اليمني. وقد عمد في بادئ الأمر إلى استخدام المسار الدبلوماسي مع الإنجليز، فأرسل إليهم وفداً للتفاوض والتعاون، وحين شعر المستعمر بهذه المرونة من الإمام أظهر التصلب في موقفه بأن امتنعت بريطانيا عن الدخول في أية مفاوضات ما لم يتم تخطيط أو ترسيم الحدود بين اليمن الحرة وبين ما تسميه بريطانيا “المحميات”، واقترحت أولاً تشكيل هيئة من الجانبين لتخطيط الحدود بموجب المعاهدة التركية البريطانية المعقودة في لندن سنة 1914. ورد الوفد اليمني بأن التخطيط أمر لن يكون، وأن المعاهدة التركية -إن صح وقوعها- فإن الأتراك ليس لهم الحق في التصرف بشيء كانوا يعتبرون فيه غاصبين، وبهذا فشلت المفاوضات وأرجئت إلى أغسطس 1950.
في أغسطس عاد الوفد اليمني مجدداً إلى لندن. وفي أول اجتماع قدم الوفد مذكرة تتضمن على 10 مواد تمثل رغبة الإمام في تحسين العلاقات مع بريطانيا والتعاون معها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، بشرط شمول السيادة اليمنية على جميع المناطق التي وضعتها بريطانيا تحت نفوذها.
ولكن الجانب البريطاني أصر على تشبثه بالاتفاقية التركية، وكرر طلبه ضرورة تخطيط الحدود، وكادت أن تفشل المفاوضات. وللخروج بماء وجه لها قام الطرفان بتجديد معاهدة سنة 1934 (بقاء الأمور على ما هي عليه) مع بعض التفاهمات الشكلية حول التعاون الاقتصادي وتبادل التمثيل السياسي… إلخ.
موجة جديدة من الانتفاضات في الجنوب
لما رأت بريطانيا أنها فشلت في إقناع وفد اليمن بتخطيط الحدود، سلكت طرقاً أخرى لتحقيق مآربها، مثل تكثيف الدعم للمعارضة التي تحتضنها في عدن وتمكينها في مايو 1951 من تشكيل تنظيم جديد في عدن تحت اسم “الاتحاد اليمني”، وكذلك إثارة القلاقل والتحرشات على طول المناطق الشرقية اليمنية، محاولة بذلك أن تضغط على اليمن للدخول في مفاوضات حول هذا الشأن… واستمرت في خطتها هذه إلى سنة 1954، السنة التي حدثت فيها بعض الاشتباكات بين القوات اليمنية والقوات الإنجليزية في عدة مناطق. وفي المقابل فإن التحرشات البريطانية قد جعلت الإمام يستكمل السياسة البديلة التي لجأ إليها والده الإمام يحيى بعد معاهدة 1934، وهي استنهاض القبائل الجنوبية ودعمها بالمال والسلاح لمقاومة الاستعمار وجعل من تعز والبيضاء مأوى للثوار وعائلاتهم، وخاصة من تعرضت قراهم للقصف والتدمير.
ومن الشواهد على هذا المسار الذي انتهجه الإمام ما ذكره الدكتور علوي بن فريد في كتاباته متحدثاً عن موقف الإمام ودعمه لثوار العوالق: “للحرية ثمن وقد دفعته قبائل الربيز بكل إباء وشمم، حيث تواصلت الحرب عليها من عام 1952 وحتى عام 1956، ثم تجددت حتى عام 1959، حيث رحّلوا عائلاتهم إلى البيضاء وظلوا يقاتلون في ساحات المعركة دون كلل أو تردد حتى تم طرد القوات البريطانية نهائياً من وادي حطيب عام 1961م، وقد وقف الإمام أحمد موقفاً شجاعاً ومعه عاملاه على البيضاء، صالح بن ناجي الرويشان والشامي، اللذان دعما الثورة في الجنوب بالمال والسلاح لمقاومة الاحتلال البريطاني”.
ونتطرق هنا لبعض تلك الثورات والانتفاضات ضد الإنجليز، والتي تولى الإمام أحمد توجيهها ودعمها:
• استنهاض القطيب في ردفان عام 1954، حيث وفدت بعض قبائل القطيب إلى الإمام فأمدها بالسلاح والمال، فقامت بريطانيا في المقابل بإعطاء المشايخ الموالين لها الأسلحة والمال، وظهر خلاف حاد بين القبائل، فالمرتبطون بسلاح الإمام يحاولون ضرب المراكز البريطانية، والعكس بالنسبة للموالين لبريطانيا، وحصلت عدة اشتباكات ومناوشات انتهت بتدخل الطيران البريطاني الذي أحدث دماراً هائلاً في المنطقة.
• مقاومة الربيز للزحف البريطاني تجاه مناطقهم، حيث قاموا باعتراض ومهاجمة قافلة عسكرية بريطانية مكونة من ضباط وجنود عرب وإنجليز، عام 1952، ولم تتمكن من بناء مركز عسكري لها في حطيب، وبعد فشل الإنجليز في إخضاع قبيلة الربيز توجهوا إلى نصاب، وأقاموا لهم مركزا فيها.
• ثورة آل ديان في أبريل 1956، التي انتهت بتدخل الطيران الملكي البريطاني لمساندة قوات حرس الحكومة، والتي هدمت بعض بيوت آل عبدالله وآل صالح (آل ديان) الذين رفضوا دفع 4000 ريال “فرانصة” لحكومة عدن، وذلك تأديبا لهم. كما قام سلاح الطيران البريطاني بقصف مدفعي وصاروخي لحصن خورة.
• الربيز في الكور: تمكن ثوار الربيز من القضاء على قوة عسكرية بالكامل كانت في طريقها إلى “امرباط” عام 1956، مما اضطر الإنجليز للاستعانة بقوات جوية لإجلاء الحرس الحكومي من “امرباط”، وبعد تلك المعركة المهينة للقوات البريطانية كثفت غاراتها الجوية على جبال الربيز في كور العوالق.
• انتفاضات باكازم في العوالق السفلى، التي بدأت في عام 1954، وتصديهم للعديد من الحملات العسكرية رغم تعرضهم لحرب إبادة من الطيران البريطاني، إلا أنها لم تثنهم عن اعتراض الدوريات البريطانية وقتل جنودها حتى أواخر العام 1959 وبداية العام 1960.
• ثورة العوالق عام 1954، وغيرها الكثير من الانتفاضات المسلحة التي كان حزب الرابطة يتبنى بعضها في العديد من مناطق الجنوب، مثل الصبيحة والضالع ويافع والعواذل ودثينة وباكازم وبيحان. وقد مكن الإمام حزب الرابطة من فتح مكتب له في تعز، ولكن علاقته مع الإمام ومع الحراك العربي الثوري بشكل عام ساءت في الأخير، بفعل مطالباته باستقلال الجنوب العربي كدولة مستقلة. ويرى الكثير بصمات سعودية أمريكية خلف هذا التوجه، وقد انشق الكثير من قادة الحزب، وخاصة المتمسكين بالهوية اليمنية وبخيار الوحدة اليمنية.
بعد انتصار الثورة المصرية 1952 وتبنيها شعارات قومية تنادي بالثورة والوحدة العربية لقيت استحسان النظام الملكي في اليمن، فتفاعل معها وتحمس أكثر لدعم الثورات الجنوبية في 1954، فأخذت السياسة البريطانية تعمل باتجاه خلق كيانات إقليمية في المستعمرات يتولى الحكم فيها من ترضى عنهم بريطانيا، تمهيداً لمنحها شكلاً من أشكال الاستقلال، وبالتالي قطع الطريق أمام الحركات الوطنية المطالبة بالتحرر التام من الاستعمار البريطاني. وقد كان الإعلان الأول لهذه الخطوة في العام نفسه الذي زادت فيه الثورات في جنوب اليمن زخماً واشتعالاً، أي بداية عام 1954، في خطاب ألقاه الوالي البريطاني على عدن آنذاك، السير توم هيكنبوثام، في اجتماع دعا إليه سلاطين ومشائخ بعض ولايات ما كان يسمى “محميات عدن الغربية”.
وكان اتجاه الإنجليز -كما كشف عنه خطاب السير هيكنبوثام- هو العمل على إقامة اتحاد فيدرالي يضم محميات عدن الشرقية، وآخر يضم محميات عدن الغربية، مع الإبقاء على مدينة عدن بمثابة كيان قائم بذاته، ومنحه حكماً ذاتياً في إطار الكومنولث البريطاني. ولم يتأت تنفيذ المشروع إلا بعد سنوات، بفعل استمرار الكفاح في الجنوب، وأيضاً بفعل الخلافات على رئاسة الاتحاد. ولكن الإدارة الاستعمارية والت جهودها بوسائل الترغيب والترهيب حتى أعلن هذا الاتحاد رسمياً في عام 1959.
الإمام أحمد واليمن الكبير
لقد كان من أهداف الإمام أحمد غير المعلنة هو التخطيط لإقامة دولة اليمن الكبير، التي تشمل جنوب اليمن وشماله مع جيزان ونجران وعسير، وكذلك مسقط وعمان مع إمارات ساحل عمان المتصالح (دولة الإمارات حاليا). وهناك ما يؤكد هذا التوجه لدى الإمام أحمد، فقد كتب الأستاذ “ستوكي” في تعليق له: “خلال شتاء 1959، فاجأت مفوضية المملكة المتوكلية اليمنية في واشنطن موظفي وزارة الخارجية المهتمين بالشؤون العربية، بإرسالها لهم بطاقة تهنئة فاخرة وغير عادية بها خريطة كبيرة للجزيرة العربية تمثلت فيها العاصمة اليمنية صنعاء بجوهرة صغيرة تحيطها منطقة مظللة تحدد المدى الذي تشمله أقاليم المملكة المفترضة. وقد شملت هذه المنطقة بالإضافة إلى اليمن -كما توضحها الخرائط المعروفة في ذلك الوقت- عدن وكل محمية عدن وظفار ومسقط وعمان وشاطئ الإمارات المتصالحة وجزءاً كبيراً من الربع الخالي ونجران وعسير”.
وبالتالي، لا نستغرب عندما نلحظ أن الحركة الوطنية في الجنوب، المدعومة من الإمام أحمد، قد تبنت هذا التوجه، فحزب الرابطة احتوى برنامجه على هذه الخريطة تحت مسمى “الجنوب العربي”، ومن بعده برنامج الجبهة الوطنية المتحدة تحت مسمى “اليمن الكبرى”، وهما المكونان اللذان لقيا دعما مباشرا لأنشطتهما من قبل نظام الإمام أحمد، وتحديدا عندما كانا يتبنيان شعار الوحدة.
مع أن الرابطة أثيرت حولها الكثير من الشبهات، إذ تدعي أنها مع وحدة اليمن والمحميات إضافة إلى عمان ومسقط تحت مسمى الجنوب العربي، في حين كان لديها حساسية غريبة من الهوية اليمنية برمتها، وحتى الوحدة التي تدعيها كانت تريد قبلها نيل الاستقلال أولا ثم التفكير في الوحدة ووفق شروط… إلخ.
لقد كان الجناح اليساري داخل الحركة الوطنية في الجنوب أكثر تمسكا بالهوية اليمنية، وهذا هو سر التعاطف الكبير الذي حظي به من نظام الإمام أحمد والتسهيلات الكبيرة التي وفرها لنشاطه، ففي عام 1955 عندما نظم المستعمر انتخابات للمجلس التشريعي، قبل حزب الرابطة المشاركة فيها، غير أن الجناح اليساري داخل الحزب رفض أن يشارك فيها، لأن الانتخابات تستثني المواطنين الشماليين الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان عدن. وبفعل مشاركة الرابطة في الانتخابات أصبحت سياستها محكومة بالتصور البريطاني لمستقبل الجنوب بعد الاستقلال.
وبعد رفضه للانتخابات قام الجناح اليساري داخل الرابطة بتشكيل كيان جديد، وهو الجبهة الوطنية المتحدة برئاسة عبدالله باذيب، فنالت الجبهة الدعم من النظام الوطني في الشمال، ولعبت دوراً بارزاً في مناهضة سلطات الاستعمار، ومحاربة التيار العدني الانفصالي، وطالبت بوحدة شاملة بين الجنوب والشمال ومسقط وعُمان في إطار جمهورية ديمقراطية مستقلة استقلالاً تاماً، حيث كان طموحهم هو إحياء وخلق اليمن الكبرى، الأمر الذي أدى إلى ملاحقة أعضائها، فتم اعتقال قائدها عبدالله باذيب، ونفي محمد عبده نعمان إلى صنعاء، فيما أسقطت الجبهة كلا من عُمان ومسقط من برنامجها.
وفي عام 1959 قام رئيس الجبهة (عبدالله باذيب) بزيارة مفاجئة للإمام أحمد في تعز لمعرفة رد فعله إزاء برنامج الجبهة لتحرير الجنوب وإدماجه نهائيا في اليمن الكبرى، فصدر أمر بنفي رئيس الجبهة إلى الشمال، وبالرغم من أن برنامج الجبهة لم يكن عملياً أو قابلاً للتطبيق المباشر، إلا أنه مثل خطراً حقيقياً في وجه التفكير البريطاني طويل المدى في ذلك الوقت، وكما قال أحد المسؤولين البريطانيين: “إن تفاهمنا مع الوطنيين اليمنيين سيعني تنازلنا عن عدن والجنوب العربي لليمن”.
ومنذ وصول عبدالله باذيب إلى تعز مكنه الإمام أحمد من إشعال حرب دعائية ضد السلطات الاستعمارية في اليمن، عبر قناة إذاعية افتتحت لهذا الغرض في الإذاعة المتوكلية، وسميت “ركن الجنوب المحتل”، وكذلك دعمه الإمام لإصدار صحيفة “الطليعة” لتؤدي الدور نفسه أيضاً. كما نشط أيضا في مقابلة وتنظيم الثوار من رجال وقادة القبائل الهاربين إلى تعز، وكذلك التكفل برعاية اللاجئين إلى عدن.
رغم أن من المعروف أن الجبهة كان لها نشاط سياسي وإعلامي وفكري، إلا أنه أثناء موجة الانفجارات في مستعمرة عدن عام 1958 تبين أن أحد أقارب عبدالله باذيب قد شارك مباشرة في تهريب المتفجرات إلى عدن، وقد قتل أحد الضباط البريطانيين بسبب قيام أحد الثوار بإلقاء قنبلة على سريره. وقد استمرت الانفجارات حتى يوليو 1958 عندما أعلنت حالة الطوارئ، حيث إن الرابطة وشيخ يافع السفلى محمد العيدروس قد جعلوا من تعز والقاهرة منطلقاً للتنسيق وإدارة هذه العمليات، وحينها كان حزب الرابطة قد جمد دعواته الانفصالية، وكان ينادي بالوحدة اليمنية استغلالا لدعم الإمام أحمد للنشاط التحرري في الجنوب.
ويقال إن سلطان لحج كان من أشد المتأثرين بجمال عبدالناصر والشعارات القومية، وأنه كان يريد إعلان سلطنة لحج جزءاً من اتحاد الدول العربية التي تضم الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) والمملكة المتوكلية اليمنية، داعيا الآخرين إلى اتباع الطريقة نفسها والتحول من الحماية البريطانية إلى الحماية المصرية.
وبالتالي فإن رفض سلطان لحج الانضمام إلى الاتحاد الذي وضعه الاستعمار دفع الإنجليز لتحريك قوة كبيرة للسيطرة على لحج. وبينما كان هو في لندن قامت بعزله وتنصيب أحد أقاربه بدلا عنه، فتوجه جيش السلطنة إلى تعز للمشاركة في تأسيس الحركة الوطنية لتحرير الجنوب، وكان عددهم 15 ضابطاً و300 جندي.
ولأن الرابطة أصبحت قريبة من الإمام وأصبح رئيسها (محمد علي الجفري) بجوار الإمام أحمد في تعز، وبالتعاون مع سلطان لحج علي عبدالكريم، اندلعت انتفاضات محاذية للحدود الشطرية مع اليمن الشمالي الحر، وأعمال إيذائية في أماكن أخرى، ووزعت المنشورات الآتية من لحج والتي تحرض السكان على قتل البريطانيين وعملائهم.
لقد حاول حزب الرابطة أن يقنع الإمام بأن الاستعمار البريطاني يتخذ من إصرار الإمام ذريعة لرفضه منح الاستقلال، وأن الحركة الوطنية في الجنوب أصبحت ناضجة ولم يبق إلا الجلوس مع البريطاني للتفاهم بشأن الاستقلال، حيث كان حزب الرابطة رغم رفضه لحكومة ما تسمى اتحاد إمارات الجنوب العربي التي أنشأها المستعمر في فبراير 1959 إلا أنه كان يملك نفوذاً وعلاقات داخل قيادات ومسؤولي الاتحاد.
ولكي يسحب الإمام هذه الذريعة من يد الرابطة، أرسل مبعوثاً إلى حاكم عدن أوضح له رغبة الإمام في التخلي عن ادعاءات أسلافه في المحميات إذا ما كانت المقترحات الاتحادية الفيدرالية تسعى إلى ضمان استقلال المحميات في الحال. إلا أن البريطانيين رفضوا العرض. وكانت خطوة الإمام تلك هي لكشف وتعرية حقيقة هذه الخطوة البريطانية التي جعلت معظم المشايخ والسلاطين يقبلون باتحاد إمارات الجنوب العربي، فانخرطوا فيه باعتباره نواة للاستقلال، وبالتالي قام الإمام بفضح نوايا المحتل وتعريته وأن هذه الخطوة ليست إلا مناورة من المحتل لكي يقطع الطريق أمام الحركة الوطنية التحررية والمد القومي الثوري.
وبالعودة إلى مصير الحركة الوطنية، المتمثلة في حزبي الرابطة والجبهة الوطنية المتحدة، فقد تراجع دور حزب الرابطة بعد خلافه مع نظام الإمام أحمد في أواخر العام 1959، ولاحقا اتخذ أسلوباً سلمياً، في النضال وظل متمسكا به وأصبح أكثر تشددا باستقلال الجنوب كدولة منفصلة عن الشمال وأصبح شيئا فشيئا أكثر قربا من السعودية.
أما الجبهة الوطنية المتحدة فقد توقف نشاطها في العام 1960 ليتأسس تنظيمان انبثقا منها، الأول هو الاتحاد الشعبي الديمقراطي برئاسة عبدالله باذيب، الذي ينادي بالوحدة الوطنية اليمنية وتحقيق الاشتراكية العلمية، ويقال إنه عدل رؤيته قبل ثورة 26 سبتمبر بفترة بسيطة بضرورة إسقاط النظام الملكي “الرجعي” في الشمال كضرورة لتتحرك الحركة الوطنية في الجنوب تحت رعايته بافق تقدمي، وقد لقي الاتحاد معارضة من قبل القوى الأخرى بسبب منهجه الشيوعي، وممن كان يعادونه أيضاً حركة القوميين العرب، الطرف الأبرز داخل الجبهة القومية، إلا أن الماركسيين قاموا بمساعدة ومساندة قادة الجبهة القومية داخل الحركة العمالية من أجل السيطرة على المؤتمر العمالي أثناء فترة الكفاح المسلح، وشيئا فشيئا تمكن الماركسيون من الاستحواذ على القرار داخل الجبهة القومية، وخاصة بعد الاستقلال، وصولاً إلى تبنّي الاشتراكية العلمية، وأصبحت الجبهة حليفاً صلباً للاتحاد السوفيتي، وعدلت تسميتها لاحقا إلى “الحزب الاشتراكي اليمني”. أما التنظيم الآخر الذي انبثق من الجبهة الوطنية فهو حزب الشعب الاشتراكي، بقيادة عبدالله الأصنج، وقد ارتبط اسمه بالنضال السياسي ودعم الحركة العمالية والنقابية، وكان متحفظا بشأن الكفاح المسلح، وهناك حديث عن علاقة قوية له مع حزب العمال البريطاني، وقد شكل لاحقا أهم مكون داخل جبهة التحرير المدعومة عربيا من مصر والسعودية والكويت.
وهكذا شيئا فشيئا تحول النضال من نضال وطني في الخمسينيات إلى قومي إقليمي بعد ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن، ثم تم سحب البساط شيئا فشيئا حتى أصبح النضال في النصف الثاني من الستينيات نضالاً أممياً كان فيه للاتحاد السوفييتي والصين والمعسكر الاشتراكي الباع الأطول، بالإضافة إلى تأثيرات واختراقات محدودة للأيادي الفرنسية وغيرها ممن كانت تدعي تعاطفها مع القضايا العربية والتحررية.
(محمد القاسم – صحيفة لا)