بعد فصام بين شارع يمني حر ونظام تحت الوصاية.. ثورة أيلول تضع اليمن على جادة فلسطين والقضايا الكبرى شعبياً ورسمياً
بعد فصام بين شارع يمني حر ونظام تحت الوصاية.. ثورة أيلول تضع اليمن على جادة فلسطين والقضايا الكبرى شعبياً ورسمياً
يمني برس:
لم يكن يخفى على الكثيرين أساليب المراوغة والمداهنة التي انتهجها النظام السابق إزاء قضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، التي ظلت بالنسبة للشعب اليمني قضية مصيرية لا يمكن التفريط بها. وكان النظام السابق بقيادة علي صالح يدرك هذا الأمر جيداً، فلم يكن له أن يتجرأ بالمجاهرة في الميل إلى التفريط بتلك القضية والانخراط في ركب التطبيع الذي كان معداً سلفاً ويُسعى إليه في الخفاء حتى تحين اللحظة التي يعتقدونها مناسبة للإعلان عنه جهاراً. ولذا ظل ذلك النظام يراوغ في العلن بأن موقفه ثابت من قضية فلسطين، وينثر من حين لآخر كلاماً معسولاً في هذا الصدد يخفي به ما يجري تحت الطاولة من تعاقدات وصفقات، مضياً في التطبيع مع الكيان الصهيوني.
طرق ملتوية لتجاوز الرفض الشعبي
كان الرفض الشعبي الكبير هو الهاجس الأكبر لدى علي صالح، إذ كان معروفاً، ولايزال، أن الشارع اليمني ينتمي إلى القضية الفلسطينية، وسبق أن قدّم الشهداء في سبيلها. ولهذا السبب، اتجه صالح إلى مدّ جسور العلاقة مع «إسرائيل» عبر طرق ملتوية، أبرزها العلاقة مع الجالية اليهودية في أمريكا والتي جاءت عن طريق يهود ذوي أصول يمنية. أما السبب الرئيس للعلاقة، فكان البحث عما يُرضي الإدارة الأمريكية، ويلفت نظرها إلى إمكانية أن يؤدي صالح دوراً محورياً في المنطقة.
لا يمكن تحديد تاريخ تلك العلاقة، إلا أنها تجلت عقب احتلال إريتريا -بتحريض ودعم «إسرائيلي»- لجزيرة حنيش، قبل أن تعيدها بتحكيم دولي؛ فرأى صالح حينها أنّ عليه إبراز موقف ليّن مع تل أبيب، وإيصال رسائل ودّية بأنه لن يكون في الضفة المقابلة.
هرولة صالح نحو التطبيع كسبيل وحيد لتوريث نجله
كما رأى أن السبيلَ الوحيدَ لاستقرار حكمه، وتوريثه لنجله من بعده، هو الهرولة نحو الولايات المتحدة التي بدورها ستقوده نحو التطبيع مع «إسرائيل». لكن الأمر في اليمن نظراً لصلابة الموقف الشعبي كان صعباً ويحتاجُ لخطوات تدريجية، وفقَ كلام صالح نفسه الذي ورد في محضر لقائه برؤساء الجاليات اليهودية في أمريكا، خلال رئاسة بيل كلينتون، عام 2000، ومعه رئيس وزرائه حينها عبدالكريم الإرياني، الذي كان يوصفُ بأنه الذراعُ اليُمنى لصالح.
ظلت تفاصيل هذا اللقاء غامضة إلى أن كُشف عنها في صنعاء مطلع 2019، وتم إنتاج فيلم وثائقي حول تلك الحادثة وغيرها.
كان صالح في ذلك اللقاء قد قضى على موقف اليمن وأعلنها صراحةً بإمْكَانية الاعتراف بـ»إسرائيل» والتطبيع معها، قائلاً: «نحن نتطلع لسلام شامل وعادل، وليس هناك صعوبات أن يكون بيننا وبينكم منافع سواء معكم كجاليات أَوْ يمكن أن تتطور مع الحكومة الإسرائيلية».
ولتثبيت موقفه أكثر، يوضح صالح لرؤساء الجاليات اليهودية بأنه منفتح على «إسرائيل»، لكن هناك صعوبات تتعلق بموقف الإسْلَاميين في اليمن والهجوم الإعلامي الذي قد يتعرّضُ له في حال خطا هذه الخطوة الكبيرة. ولذلك طرح فكرة أن يتم المضي بالأمر بخطوات تصاعدية، إذ يقول: «كلما أردنا التقارُبَ يتم عمل فقاقيع إعلامية».
أول مهمة لصالح «إسرائيل»
وهنا كشف عن خطوة خطيرة مبرراً مخاوفَه من الإعلام: «في مرة كنتُ في باريس والتقيت الرئيس فايتسمان ولم تمضِ 10 دقائق إلا وراديو إسرائيل يعلن المقابلة» (عيزر فايتسمان هو رئيس إسرائيل للفترة من 1993 إلى 2000).
في ذلك اللقاء تم تكليفُ صالح بأول مهمة لصالح «إسرائيل».
أخبره رؤساءُ الجاليات اليهودية أن لديهم مشكلةً أن إيران ألقت القبضَ على 13 يهودياً بتهمة التجسّس لصالح «إسرائيل»، فرد صالح على الفور أنه في تلك الفترة سيزور إيران بعد 15 يوماً وسيتحدث مع الحكومة الإيرانية بشكل وُدي ويقنعهم بأنه ليس مصلحة إيران احتجازهم وأنه لا فائدةَ من ذلك.
كل شيء بثمنه!
ورداً على سؤال حول إمْكَانية أن يقيمَ علاقةً مع «إسرائيل»، حرك صالح غريزتَه للحصول على المنافع المالية مقابل الموقف، قائلاً: «مصر استطاعت أن تحصُلَ على فوائد من أمريكا بعد اتّفاقية كامب ديفيد، والأردن دعمتموها. اليمن حتى الآن لم تحصل على دعم للديمقراطية أَوْ حتى التحَـرّك باتجاه الحكومة الإسرائيلية فكل شيء بثمنه».
ويستمر صالح في توضيح التضحيات التي يقدِّمُها في سبيل الحفاظ على التواصل مع «الإسرائيليين»، موضحاً لرؤساء الجاليات أن «الإرياني وحكومته يتعرّض لهجمة إعلامية من قبل الإسْلَاميين نتيجةَ تواصلهم مع الإسرائيليين وينظمون حملات إعلامية ضد الرئيس ورئيس الحكومة».
لم يكن صالح يعلَمُ أن محضرَ لقائه برؤساء الجاليات اليهودية سيخرُجُ للعلن في يوم ما؛ ولذلك تحدَّثَ دون حرج، معبراً عن ذاته وتطلعاته، ومجدّداً التأكيدَ على شرطين للتطبيع مع «إسرائيل»: الدعم الأمريكي والمال.
كان واضحاً أنّ علي عبدالله صالح يسعى إلى توطيد العلاقة مع اللوبي اليهودي، ليقرّبه خطوات باتجاه الإدارة والمؤسسات الأمريكية، عارضاً لهم بعض الخدمات، بالتقريب بينهم وبين الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين، بالنظر إلى العلاقة التي تربطه بالرجلين، وكذلك بالعمل للإفراج عن 13 «إسرائيلياً» تم اعتقالهم في إيران بتهمة التجسّس.
أنتج ذلك اللقاء حضوراً لبعض عناصر اللوبي اليهودي في صنعاء، إما من خلال العمل في السفارة الأمريكية وإما بواسطة الاستثمارات الأجنبية وبعض المنظمات.
ثمة محضر آخر تم الكشف عنه خلال لقاء جمع صالح ببوش الابن عام 2007 في البيت الأبيض. جزء من الحديث دار حول فلسطين، وأعلن صالح الاستعداد للتطبيع مع «إسرائيل» ضمن ما تسمى «مبادرة السلام العربية» التي أطلقتها السعودية، واعتبر أن تنفيذها سيخمد ما نسبته 70% من بؤر الصراع، وسيتم احتضان الدولة السورية وحركات المقاومة، كما أنها ستقطع الطريق أمام إيران.
وباندلاع «الربيع العربي» وسقوط نظام صالح في اليمن، تعثّرت مساعيه في التطبيع مع «إسرائيل»؛ لكن إعادة إنتاج النظام برعاية سعودية ضمن «المبادرة الخليجية»، فتحت الباب على مصراعيه أمام واشنطن، التي سارعت إلى محاولة تدمير الجيش اليمني وتعطيل قدراته الباليستية تحت مبرر «إعادة هيكلة القوات المسلّحة».
وبالرغم من خروجه من السلطة، ظل صالح يطرح مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى في ظلّ العدوان على اليمن؛ إذ قال في مقابلة مع قناة الميادين في 2015، وهو لايزال حليفاً لـ»أنصار الله»، قبل أن ينقلب عليهم: «إن الحل لمعالجة أزمات الدول العربية هو التطبيع مع إسرائيل». كان هذا التصريح ناتجاً من قناعة تشكّلت خلال فترة حكمه، ودليلاً على عدم حرجه من إظهار موقفه إزاء التطبيع.
إعادة البوصلة
في الوقت الذي ينبطح فيه الأعراب ويُشهرون إفلاسهم القيميّ والأخلاقي والقومي، ويختارون السقوط في مشاريع التطبيع والتقسيم، وتحويل بوصلة العداء لإيران ومحور المقاومة، تأتي ثورة الحادي والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2014، لتعيد البوصلة نحو فلسطين، بعد أن كان النظام السابق قد حرفها نحو «إسرائيل».
اصطدم المسار الأمريكي بانتصار ثورة 21 أيلول/سبتمبر 2014، التي أعلنت توجّهها نحو دعم المقاومة الفلسطينية ومناهضة الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
من الوهلة الأولى، أبدى نتنياهو مخاوفه من صعود «أنصار الله» إلى السلطة، وتمحورت تلك المخاوف حول الوصول إلى باب المندب، وتلتها تصريحات ومواقف تتجدد بين الحين والآخر.
ومن ضمنها الدعوة الصادقة التي أطلقها قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي لكل الأحرار، في إطار مواجهة مؤامرة تجزئة المعركة، داعياً إلى واحديّة النضال رغم المسافات الجغرافية بين الدول العربية والإسلامية.
لقد شدّد السيد عبدالملك الحوثي، مراراً وتكراراً، على استعداد اليمن لإرسال آلاف المقاتلين لدعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية في مواجهة العدو «الإسرائيلي».
هذا الموقف أتى تعبيراً عن حالة شعبية تحضُرُ في الساحات بمسيرات مليونية حين يتعلق الأمر بفلسطين. وبمثابة رسائل لتل أبيب والمجتمع الدولي على التمسك بقضايا الأمة ودعمها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وتؤكّد أيضاً تمام جهوزية اليمن في وجه أي حربٍ قادمة قد يشنّها الكيان الصهيوني على لبنان.
مبادرة سيد الثورة
في مارس 2020، أطلق سيد الثورة مبادرة للنظام السعودي بإطلاق سراح اثنين من طياريه، تم أسرهما في ما يعرف بحادثة طائرة التورنيدو، مقابل إطلاق سراح معتقلي المقاومة الفلسطينية في سجون نظام بني سعود، رغم وجود أسرى من أبطال الجيش واللجان الشعبية في سجون العدوان.
ترحيب منقطع النظير بالمبادرة
لقيت هذه المبادرة صدى كبيراً في الشارع العربي، ومباركة وارتياح الفصائل الفلسطينية التي ثمنتها عاليا، ودعت في الوقت نفسه النظام السعودي للإفراج عن المعتقلين.
كما سارعت حركة المقاومة الإسلامية حماس إلى مباركة المبادرة والترحيب بها؛ وجاء في بيان لها بتاريخ 26 مارس 2020:
تابعت حركة حماس باهتمام المبادرة المقدرة التي أطلقها السيد عبدالملك الحوثي مساء اليوم الخميس بخصوص مبادلة الأسرى لديهم مقابل إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين في المملكة العربية السعودية.
وإننا إزاء هذه المبادرة الذاتية فإننا نقدر عاليا روح التآخي والتعاطف مع الشعب الفلسطيني ودعم صموده ومقاومته، ونعبر عن شكرنا على هذا الاهتمام والمبادرة.
كما أننا نجدد مطالبتنا المستمرة للإخوة في السعودية بضرورة الإفراج العاجل عن جميع المعتقلين الفلسطينيين من سجون المملكة، وعلى رأسهم الدكتور محمد الخضري أبو هاني، فالحركة لم تأل جهدا في التواصل مع القيادة السعودية على مدى قرابة عام كامل، وآخرها دعوة رئيس المكتب السياسي للحركة الأخ المجاهد إسماعيل هنية لملك السعودية الملك سلمان بن عبدالعزيز للإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين الذين لم يسببوا ضررا للمملكة، واحترموا أصول الضيافة في بلد شقيق دون مقابل أو شرط، فلا ذنب اقترفوه ولا جرم قاموا به.
تجديد المطالبة ورفع الصفقة
وفي 20 مايو 2020، جدد السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي عرضه للنظام السعودي بشأن إطلاق المختطفين الفلسطينيين في سجونه، مؤكدا استعداده لرفع سقف صفقة التبادل لتشمل طيارين وتسعة ضباط سعوديين.
وقال السيد عبدالملك، خلال كلمته في مهرجان قادة محور المقاومة بمناسبة يوم القدس العالمي: «نجدد عرضنا للنظام السعودي بشأن إطلاق المختطفين الفلسطينيين بالاستعداد لإطلاق طيار آخر و5 ضباط وجنود سعوديين».
(نشوان دماج – صحيفة لا)