نص الدرس الثالث من محاضرات السيد عبدالملك الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 1443هـ
نص الدرس الثالث من محاضرات السيد عبدالملك الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 1443هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
الدرس الثالث من محاضرات السيد عبدالملك من دروس عهد مالك الأشتر
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
كنا وصلنا في الدرس في عهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” إلى مالكٍ الأشتر، إلى الحديث عن أسس العلاقة مع المجتمع، وأول عنوانٍ في هذه الأسس كان هو: الرحمة، والرحمة من أهم القيم الإيمانية الإنسانية، التي هي أساسٌ للتعامل فيما بين المؤمنين، وأساسٌ مهمٌ جداً تقوم عليها العلاقات بين المجتمع البشري، ويأتي الحديث عنها في القرآن الكريم حديثاً واسعاً، والله “سبحانه وتعالى” هو الرحمن الرحيم، وهو أرحم الراحمين، ولهذا تأتي قيم الرحمة في توجيهاته وفي تعليماته من منطلق رحمته، بل إنَّ كل توجيهاته وتعليماته وما شرعه لنا هو من منطلق رحمته “سبحانه وتعالى”، فالرحمة هي قاعدةٌ أساسيةٌ للتعامل فيما بين أبناء الأمة.
ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم عن مواصفات المؤمنين المواصفات الأساسية المهمة: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، ويقول “سبحانه وتعالى”: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: من الآية17]، يقول عن نبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[آل عمران: من الآية159]، قال عنه أيضاً: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: من الآية128]، فالرحمة هي من الأسس المهمة التي يقوم عليها التعامل، تقوم عليها العلاقة في واقع المؤمنين، في واقع المجتمع المسلم، وأيضاً هي في موقع المسؤولية آكد، وأكثر أهمية، ولهذا أتت كعنوانٍ أوليٍ في مقام التعداد للأسس، أسس العلاقة مع المجتمع من موقع المسؤولية، كيف تكون مشاعر موجودة في وجدان الإنسان، في قلبه، ثم تفيض هذه المشاعر في أدائه العملي، في سلوكياته، في تصرفاته، وأن يحذر، فلا يكون متوحشاً في موقعه في المسؤولية، متوحشاً في أسلوبه في التعامل مع الناس؛ لأنه صار في منصب معين، أصبح له سلطة معينة، يكون حذراً من ذلك.
وأتى التحذير بالتالي عن كل ما يمكن أن يؤثر سلباً على نفسية الإنسان، وعلى مشاعره، فيتحول إلى متوحش، عديم الرحمة، أتى التحذير من الغرور، والعجب، والكبر… وكل المؤثرات النفسية التي تبعد الإنسان عن قيم الرحمة، ومشاعر الرحمة تجاه الناس، والرحمة بقدر ما هي مشاعر تكون مشاعر قوية في وجدان الإنسان؛ إنما لتتجلى أيضاً في سلوكياته، في أعماله، في تصرفاته من خلال اهتمامه بأمر الناس، عنايته بشأنهم، حرصه عليهم ألَّا يظلموا، ألَّا يقهروا، ألَّا يذلوا، ألَّا يضطهدوا، من خلال تألمه على معاناتهم وأوجاعهم، من خلال عفوه وصفحه في تعامله معهم عن كثيرٍ من الأمور التي يمكن فيها العفو والصفح… وهكذا تتجسد في الواقع العملي بشكلٍ واضح.
ثم يقول “عليه السلام”: ((أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ وَيَتُوبَ))، مع قيم الرحمة في موقع المسؤولية، هناك أيضاً العدل، نحن مأمورون بإقامة القسط حتى على أنفسنا، مثلما قرأنا في الدرس الأول قول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}[النساء: من الآية135]، فالإنسان في موقع المسؤولية، في منصبه، أو في سلطته، مهما كان موقعه، مهما كان منصبه، لابدَّ أن يكون منصفاً، يبذل الحق من نفسه، إن صدر منه ظلم، أو خطأ، أو تجاوز، أو إساءة، لا يتكبر ويترفَّع عن الإنصاف، ويأنف من الإنصاف، محتجاً بمنصبه، وأن ذلك سيقلل من أهميته، ومن هيبته، ومن مقامه، ومن منزلته لدى الناس، يجب عليه أن يكون منصفاً، الإنصاف هو التزام إيماني وأخلاقي وإنساني، وله قيمته، التصور بأنه يحط من مكانة الإنسان، أو من مقام الإنسان، هو تصورٌ خاطئ، من وساوس الشيطان والشياطين: شياطين الإنس والجن، الذين قد يوسوسون للإنسان أن بذله الحق على نفسه ومن نفسه، أو من أقربائه وخواصه، أو ممن له بهم علاقة خاصة وارتباط خاص، أنه سيقلل من أهميته ومن مكانته، هذه وساوس شيطانية على الإنسان أن يحذر منها، الله “سبحانه وتعالى” هو الذي يمنح العزة، وهو الذي يمنحك أيضاً الود في قلوب عباده، ولذلك لا تكترث بوساوس الموسوسين أبداً، احرص على ألَّا تلوث نفسك، وألَّا تُحَمِّل نفسك الأوزار، وكن أحرص الناس على أن تخلِّص نفسك من أي مظلمة، وأن تنصف في أي مقامٍ يتطلب الإنصاف، وأن تبذل الحق، أن تكون حقانياً، إنساناً يبذل الحق على نفسه، من دون تردد، من دون أنفةٍ ولا كبرياء.
((أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ))
لأن البعض من الناس قد يحتمي به خواص أهله، أقرباؤه، أقرباؤه يستندون إليه، يستندون إلى منصبه، إلى موقعه، إلى سلطته، إلى نفوذه، فيمارسون الظلم بحق الآخرين، أو عليهم حقوق للآخرين، فيرفضون أن يؤدوا ما عليهم من الحقوق للآخرين، ويمتنعون بالاستناد إليه، إلى موقعه، إلى نفوذه، إلى سلطته، وهو يوفر لهم الحماية، ويؤمِّن لهم الحماية، فيكون شريكاً لهم في ظلمهم.
((وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ))
من تميل معه وتحبه، له بك ارتباط وعلاقة خاصة، وعلاقة قوية، بأي شكلٍ كانت هذه العلاقة، هي ارتباط استغله ذلك الآخر، استغله في أن يمارس ظلماً بحق الآخرين، أو أن يغمطهم من حقوقهم، وأن يرفض أداء حقوقهم، بالاستناد إلى حمايتك.
فمسألة الإنصاف مسألةٌ أساسيةٌ ومهمة؛ لأنها من العدل، من أهم ما في العدل الإنصاف.
((فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ))
البديل عن الإنصاف هو الظلم، إن لم تكن منصفاً، تكن ظلوماً، الظلم مسألة خطيرة جداً.
((فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ))
عندما تظلم أحداً من عباد الله، وأنت مستنداً إلى منصبك، إلى سلطتك، إلى نفوذك، وتأمن جانب أولئك المظلومين، تتصور أنهم لن يقدروا على أن يضروك، أو أن يأخذوا منك الحق، أو أن ينصفوا لأنفسهم منك؛ فتكون بالتالي جريئاً عليهم، وتكون غير مبالياً بهم، فأنت قد ورطت نفسك ورطةً عظيمة، ورطةً كبيرة؛ لأنك أصبحت في خصومةٍ مع الله “سبحانه وتعالى”، مع ربك، رب العالمين، مع ملك السماوات والأرض، القوي العزيز، القهار الجبار، وأصبحت في وضعيةٍ خطيرةٍ جداً؛ لأنك عرَّضت نفسك لغضب الله، لسخط الله، لانتقام الله.
إذا كنت قد أمنت جانب من ظلمته؛ لأنه من المستضعفين، أو لأنك جريءٌ عليه، فأنت أصبحت في ورطةٍ كبيرة، عرَّضت نفسك للانتقام من الله “سبحانه وتعالى”، سيكون هو الذي يخاصمك، والذي ينتقم منك، ولن تستطيع أن تحمي نفسك، ولا أن تقي نفسك من انتقامه، من سخطه، من غضبه، من عذابه، حالة خطيرة جداً على الإنسان.
((وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً، حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ))
من خاصمه الله فلن يستطيع أن يفوز بالمعركة، ولا أن يقي نفسه من سخط الله، ولا أن يدفع عن نفسه عذاب الله، لا بالمبررات التي قد يسوقها ليبرر ما فعله، ليبرر عدم إنصافه، ليبرر ممارساته الظالمة، لا يمكن لأحدٍ أن يغالط الله، أو أن يخبئ الحقيقة، ويغطي على الحقيقة ما بينه وبين الله “سبحانه وتعالى”، الذي هو على كل شيءٍ شهيد، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو المحيط بكل شيءٍ علماً.
البعض من الناس مثلاً قد يستند فيما يمارسه من ظلم وهو في منصب معين، أو سلطة معينة، إلى التبريرات، وإلى الأدلة المزيفة، التي يحاول أن يقنع بها الآخرين، والحجج الملفقة، التي يسعى من خلالها لتبرير ما فعل، أو لتبرير امتناعه عن أداء الحق، قد يسوق التبريرات، والحجج الملفقة، والأدلة المزيفة، ولكن لا يمكنك أن تفعل ذلك مع الله “سبحانه وتعالى”، ولا أن تغالطه، هو سيسقط ويبطل ويدحض حجتك وتبريراتك السخيفة، التي تحاول بها أن تغالط، أو تبرر.
((وَكَانَ لله حَرْباً))
كنت في حربٍ مع الله، أنت العبد الضعيف العاجز تكون في خصومة، وأصبحت مشكلتك لم تبقى مع فلان، أو فلان، ذلك الإنسان الذي اعتبرته إنساناً بسيطاً، واستهنت به، وكنت جريئاً عليه؛ لأنه مستضعف، أصبحت مشكلتك مع الله “سبحانه وتعالى”، هذا أمر خطير جداً على الإنسان، وبقيت في محل المؤاخذة والانتقام الإلهي، كنت في حربٍ مع الله ومشكلتك مستمرة، أنت مُعَرَّضٌ في كل لحظة لأن يأتيك الانتقام الإلهي، والعقوبة من الله “سبحانه وتعالى”.
((حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ))
تقلع عن ظلمك، وتتوب إلى الله “سبحانه وتعالى”، حتى تتوب إليه وتقلع عمَّا أنت عليه من الظلم، أو الاستمرار في الامتناع من أداء الحق.
ولذلك عندما يكون الإنسان في موقع مسؤولية، في منصب، في أي منصب، صاحب سلطة، في أي مجال من مجالات العمل، في القضاء، أو في الأمن، أو في الجيش، أو في الأعمال الإدارية الأخرى، المتعلقة بحقوق الناس، بشؤونهم، فأكبر محذورٍ يحذر منه هو الظلم، ليكن متنبهاً لذلك، ليكن حريصاً كل الحرص على أن يقي نفسه، وأن يحافظ على نفسه من التورط في الظلم، فهو أكبر محذور في موقع المسؤولية، الظلم بكل أشكاله: في المجال الأمني، في مجال القضاء، في مجال القضاء الأمر خطير جداً، البعض من الناس يرتكب مظالم كثيرة من موقعه في القضاء، في أي منصب، في أعمال قد تستغلها للابتزاز المالي، أو أخذ حقوق الناس، أو أكل أموالهم بالباطل، أو أي شكلٍ من أشكال الظلم، ما تنال به الناس في أبدانهم، أو في حياتهم، أو في أمنهم، أو في أموالهم، في حقوقهم، في أعراضهم، المسألة خطيرة جداً، الظلم خطيرٌ جداً.
في القرآن الكريم كم فيه من آيات تحذر من الظلم! كم فيه من وعيد للظالمين! الله لعن الظالمين في القرآن الكريم: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية18]، معناه: أنه يطردهم من رحمته، كما لعن الشيطان، طرده من رحمته نهائياً، وأصبح ملعوناً، مطروداً من رحمة الله “سبحانه وتعالى”، خسيئاً، مدحوراً، مذموماً، الظلم حالة رهيبة جداً وخطيرة، والوعيد شديد في القرآن الكريم للظالمين.
((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ))
حتى على مستوى العاجل، الظلم عواقبه وخيمةٌ جداً في الدنيا وفي الآخرة، في الآخرة نار جهنم، قبل ذلك سوء الحساب، ثم نار جهنم والعياذ بالله، وأن تخسر الجنة، أن تخسر رضوان الله، أن تخسر السعادة الأبدية، وتحبط كل أعمالك الأخرى، مهما عملت من أعمال أخرى، وأنت مصرٌّ على ظلم، ومقيمٌ على ظلم، لا يقبل الله منك شيءٌ من أعمالك، لا من صلاتك، ولا من صيامك… ولا أي عملٍ من أعمالك.
ثم إضافةً إلى ذلك: العقوبات العاجلة في الدنيا، الظلم كما قال الإمام عليٌّ “عليه السلام” عنه: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ))، هو أول الذنوب وأكبر الذنوب في التسريع لزوال النعم، ونزول النقم والعياذ بالله، فالإنسان إذا كان في نعمة، نعمة العز، نعمة اليسر في ظروفه المعيشية، نعمة المكانة المحترمة، نعمة الأمن، النعم المعنوية والنعم المادية، فالظلم سببٌ لزوال النعم، لأن يسلب الله منك نعمته، أن يغيِّر نعمته عليك بسبب استمرارك وإصرارك وإقامتك على الظلم، لم تتخلص، لم تنصف.
وأيضاً التعجيل بالنقم، التعجيل بنقم الله، بالعقوبات العاجلة، وهناك دروس عجيبة في التاريخ، في التاريخ المعاصر، والتاريخ الماضي، كيف كانت عاقبة الظالمين، البعض من الظالمين كانوا ملوكاً، أو كانوا رؤساء، أو كانوا سلاطين، كانوا في مقام قوة، وتمكين، وسلطة، وقدرة مادية هائلة، ونفوذ كبير، وسيطرة، وجبروت، ومهابة في نفوس الناس، وباستمرارهم على الظلم، وإقامتهم على الظلم، ومبالغتهم في الظلم؛ خسروا كل شيء، وتغيَّرت كل أحوالهم، وأذلهم الله، وأخزاهم الله، وعوجلوا بالعقوبة الإلهية، بالانتقام الإلهي، كم من الملوك، من الزعماء، ممن كانوا يمتلكون قدرات ضخمة، وإمكانيات كبيرة، وجيوش جرارة… إلى غير ذلك، وإمكانيات مادية كبيرة، ونفوذاً كبيراً في واقع الناس، ومهابة وأنصاراً، وأحباء… وغير ذلك، خسروا كل شيء في نهاية المطاف.
((فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ))، الله هو رب الناس، وهو ملكهم، وهو الرحيم بهم، لا يتخلى عن عباده، لا يترك عباده، تتصور أنَّ ذلك الإنسان المستضعف الذي كنت جريئاً عليه؛ لواقعه الضعيف، تتصور أنه إنسان هناك، ليس له من يهتم به، من يدفع عنه ظلمك، إساءتك، امتناعك من أداء الحق، فتكون بذلك جريئاً، ولا مبالياً، ومستهتراً، ومستبسطاً للمسألة، [مَنْ هو]، فلا تكترث به، ولا تأبه لحاله، تكون النتيجة خطيرة جداً، لا تنتبه أنك أصبحت في مشكلة مع الله، وخصومة مع الله، وأنَّ الله سيؤاخذك وسيعاقبك.
فنجد من القيم المهمة جداً، ومن أسس التعامل من موقع المسؤولية، إلى جانب الرحمة: العدل، العدل، الرحمة والعدل، من أهم ما في العدل: الإنصاف، بذل الحق، حتى من نفسك، وحتى من أقربائك، وحتى من أصحابك، وحتى ممن ((لَكَ فِيهِ هَوًى)): من تميل معه، من تربطك به علاقات خاصة، ((مِنْ رَعِيَّتِكَ)).
((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ))
في التدبير لشؤون العمل، وأمور الناس، وفي برامج العمل، وسياسات العمل، وخطط العمل، يجب أن يكون ذلك مبنياً على أساس الاهتمام العام، الاهتمام بالناس بشكلٍ عام، بحسب مسؤوليتك، وبمستوى مسؤوليتك، هذا شيءٌ مهم، لا تتوجه كل اهتماماتك إلى فئة محدودة من الناس، وتترك البقية، فئة محدودة من الناس، مثلاً: من تربطك بهم علاقة خاصة، وصداقة خاصة، فيتوجه كل اهتمامك نحوهم، وتتنصل عن الباقين، تترك الآخرين، ممن هم في نطاق مسؤوليتك، ولا تلتفت إليهم.
أو فئة من أبناء المجتمع، تتصور أنهم هم الأهم، مثلاً: ينحصر كل اهتمامك نحو كبار المجتمع، الوجهاء مثلاً من المجتمع، فيتوجه كل اهتمامك نحوهم، كل دعمك لهم، كل ما تقدِّمه إليهم، وتترك بقية المجتمع، بقية الناس في نطاق مسؤوليتك.
لو اتجه الإنسان على هذا الأساس: أن يكون له أشخاص فقط محدودين يهتم بهم، يوجِّه كل اهتمامه نحوهم، ويترك البقية، فهي سياسة خاطئة وفاشلة، وهي أيضاً من الحيف، من الجور؛ لأن الإنسان- وبحسب مسؤوليته، وبمستوى مسؤوليته- يجب أن يعمل بشكلٍ عام، أن يتوجه اهتمامه في خططه العملية، في تدبيره العملي، في اهتماماته الواسعة بشكلٍ عام، بقدر الاستطاعة والإمكان، وهذا يدخل في كل مجالات العمل، مثلاً: الاهتمامات الثقافية، مثلاً: الاهتمامات الخدمية، مثلاً: الاهتمامات فيما يتعلق بالإحسان، بحلِّ مشاكل الناس، بالاهتمام بشؤونهم وأمورهم، وبحسب المسؤولية ومستواها، أن يكون هناك توجه عام، واهتمام عام، ولكن مع مراعاة الحق؛ لأن كل سياساتك وتدبيرك وتصرفاتك من موقع المسؤولية، يجب أن تعتمد فيها على الحق، ألَّا تتجاوز الحق من أجل استرضاء الناس، وأن تلحظ ((أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ))، يعني: ما يعم الناس، ولكن مع مراعاة العدل، كلما عمَّ، وكلما كان أجمع، كلما كان على مستوى أوسع، يصل إلى نطاقٍ واسعٍ من الناس، فهو أهم، ((أَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ))؛ لأن رضاهم مهمٌ جداً، ولكن في إطار الحق، والعدل، والرحمة، وإطار هذه القيم المهمة، بما لا يتجاوز الإنسان شيئاً منها.
((فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ))، لو تمكَّن الإنسان من موقعه في المسؤولية أن يحوز رضا فئة محدودة من الناس، ممن أصبحوا خواصاً له، وعلى علاقة وارتباط خاص به، أو من أعيان ووجهاء المجتمع، ثم سخط عليه بقية الناس؛ فلا قيمة في واقع العمل لرضا تلك المجموعة المحدودة في مقابل السخط العام عليه، سخط العامة هو المهم، هو الأكثر تأثيراً، هو الذي يؤثر على عملك، على نجاحك؛ لأن مسؤوليتك تتجه نحوهم، والتأثير إن كنت حسبت حساب التأثير، وتوقعت أنَّ لأولئك الذين اختصصتهم باهتمامك، ووجَّهت إليهم كل عنايتك، أنهم من ذوي التأثير في الساحة، فأنت بذلك خسرت الأكثر تأثيراً، وهم الجمهور من الناس، الذين تأثيرهم أكبر، تأثيرهم في كل الأمور، حتى في مسألة نجاح العمل، واستقرار العمل، واستقرار الأمر بكل الاعتبارات، ولهذا قال: ((فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ))، يعني: يَذهَبُ به، يجعله لا قيمة له، لا قيمة له، مهما كان رضاهم عنك وهم قلة قليلة، ومجموعة محدودة، ماذا سيفعلون لك؟ يفقدون هم حتى التأثير في واقع الناس.
((وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ))؛ لأن تركيزك على الاهتمام العام، وتوجيهك للإمكانات والقدرات لإفادة الناس على مستوى أوسع وأعم، قد يسبب سخط الخاصة، إمَّا أولئك الذين كانوا قد تقرَّبوا منك، وارتبطوا بك بعلاقات خاصة، يؤملون من خلالها أن يحصلوا منك على مكاسب مادية، وإمكانات ونفوذ، وإمَّا البعض مثلاً من أعيان المجتمع، الذين كانوا يؤملون أن يكون لهم اختصاص بالاهتمام بهم على حساب الناس، وأن تتوجه كل عنايتك نحوهم على حساب الناس، فقد يسخطون منك، ويستاؤون منك، ولكن لا يؤثر سخطهم شيئاً، عندما تكون الحالة السائدة في الواقع هي حالة الرضا، رضا الناس، رضا الجماهير بشكل أوسع، حالة الرضا من جانبهم هي الأهم، الأهم لنجاح العمل، الأهم لاستقرار الأمر، الأهم في معيار المسؤولية والعدل والحق، هي الأهم.
((وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ))، أثقل مؤونة؛ لأن مطالبهم كثيرة، الخاصة من ارتبطوا بك ارتباطاً خاصاً لأطماع، وأهواء، ومصالح شخصية، أو من بعض الوجاهات التي تصبح عندها هذه النظرة: أنها الأحق بكل شيء، وأنَّ المفترض أن تحظى هي بالعناية الخاصة دون بقية المجتمع، ولا تفكر إلَّا بنفسها، هذه النوعية من الناس هم الأثقل مؤونة، يعني: كلفتهم كبيرة، مطالبهم كثيرة، احتياجاتهم كثيرة.
((وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ))، ومعونتهم قليلة؛ لأنهم لا يسخون بأن يقدِّموا، هم يرون لأنفسهم الحق في أن يحصلوا على كل شيء، وأن تُقَدَّم لهم كل الإمكانات، وأن يحظوا بعناية خاصة، ولا يرون على أنفسهم الحق أن يقدِّموا، أن يبذلوا، أن يعطوا، أن ينفقوا، فهم أقلُّ معونة على مستوى التقدِّمة في المال، في الإمكانات، أو الجهد العملي، في المواقف المهمة التي تستدعي التحرك الجاد والتضحية، يرون أنفسهم هناك بعيداً.
((وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ))، عادةً ما يكونون ممن يكرهون الإنصاف من أنفسهم؛ لأنهم يرون لأنفسهم الامتيازات الخاصة، والحق في أن يكون لهم خصوصية في كل شيء، وأنهم أرفع من بقية المجتمع، وأهم وأعظم شأناً؛ وبالتالي يأنفون من الإنصاف، ويتكبرون من الإنصاف.
((وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ))، يعني: بالإلحاح الشديد؛ لأنهم يسألون بتأكيد وضغط، وأيضاً من واقع شعورهم وتصورهم أنهم يستحقون كل شيء.
((وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ))؛ لأنهم يعتبرون لأنفسهم الحق في كل شيء، فإذا أعطوا؛ لم يشكروا، أو كان شكرهم قليلاً، يعني: لا يرون لك جودةً ولا قيمةً، ولا يرون لك جميلاً فيما تعطيهم، يعتبرون أنفسهم يستحقون أكثر مما تعطيهم أصلاً.
((وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ))، فهم لا يتفهمون الظروف، يعني: حتى لو اعتذرت إليهم بأنَّ هناك- فعلاً- ظروفاً حقيقية، وفي الواقع- مثلاً- هناك ظروف صعبة، وواقع صعب، لا يتفهمون الظروف أبداً، ويسخطون عليك.
(وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ))، عندما يكون هناك أحداث كبيرة، أو تحديات كبيرة، أو مخاطر كبيرة، أو شدائد كبيرة، فهم أقل أو أضعف الناس صبراً عند ذلك.
ليس هناك في هذه المواصفات كلها: أثقل مؤونة، يعني: كلفة، أقل معونة، أكره للإنصاف… إلى آخره، (مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ)، فليسوا في عطائهم، ولا في دورهم، ولا فيما يقدِّمون بمستوى غيرهم من الناس، هذه مشكلتهم، يرون لأنفسهم الحق قبل كل الناس، ولكنهم ليسوا في مستوى بقية الناس في أن يروا على أنفسهم الحق وأن يسهموا، فهذه النظرة وهذا التقييم مهم؛ لأن الإنسان قد يتصور أنهم هم أهل التأثير، والذين ينبغي الاعتماد عليهم، والذين ينبغي التعويل عليهم، والأمل فيهم، وبناءً على ذلك يوجِّه إليهم كل الإمكانات، ويترك الناس، ويوجِّه إليهم كل الاهتمام، ويقصِّر في حق الناس، فتكون النتائج معكوسة، عندما تأتي الأحداث، أو التحديات، أو الأخطار، يكونون هم أقل الناس اهتماماً، أقل الناس مساندةً، أقل الناس عطاءً وتضحية، والناس غيرهم الأجدر منهم بالاهتمام، والذين ينبغي أن يعتمد عليهم، ولهذا قال: ((وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ)): جماهير الأمة، جماهير الأمة، الناس، المجتمع، عليهم يعتمد في إقامة الدين، بجهودهم، بعطائهم، بتضحيتهم، بجهادهم، بمواقفهم، وهم الرصيد العظيم؛ لأنهم جماهير واسعة، تستطيع أن تعتمد عليها في المواقف الكبيرة، والتحديات الكبيرة، والأخطار الكبيرة، بدلاً من أن تعتمد على مجموعة بسيطة، أو فئة محدودة من الناس، تؤثرها بكل شيء على حساب الآخرين.
((وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ))؛ لأن المجتمع يُعتَمد عليه، عنده قدرة أكثر، تحمل أكبر، عطاء أوسع، في التصدي للأعداء.
((الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ)): كن قريباً منهم بحيث تسمع لهمومهم، لمشاكلهم، تهتم بهم، ترعاهم أكثر، تتفاعل معهم أكثر، ((وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)).
((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ، فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ))، في تعاملك مع ما يرفعك إليك من مساوئ الناس، البعض لديهم طبيعة يحبون دائماً أن يتتبعوا عورات الناس، معائب الناس، مساوئ الناس، وينقلونها، ويرتاحون بذلك، طبيعة لدى البعض، يرتاح في أن ينقِّب، أن يبحث بحثاً دقيقاً حتى لمعرفة عيب هنا، أو خطأ هناك، ويأتي ليرفعه إليك، وأنت في موقع المسؤولية إذا تعاملت مع كل ذلك بتفاعل، وتقرِّب هذه النوعية من الناس، وتشجِّعهم، فهو أسلوبٌ خاطئ، لا تشجِّع هذا النوع من الناس.
البعض الآخر يتصور أنها طريقة عمل صحيحة، يعني: أنَّ المسؤولية تفرض عليه أن يهتم بهذا الشكل، بهذه الطريقة من الاهتمام، أن ينقِّب، أن يبحث بكل دقة ليستخرج العيوب والمساوئ، وليعثر عليها.
والبعض من الناس يندفع إلى ذلك بدافعٍ انتقامي، يعني: لديه رغبة في أن ينتقم، وأن يصفي حسابات من أشخاص معينين، أو أسر معينة، وهو يعرف أنك لن تتفاعل مع رغباته الشخصية، أو مع قضاياه الشخصية التي ليس فيها ما يبرر أن تعاقب أولئك من أجله؛ وبالتالي يبحث لهم عن عيبٍ آخر، عن مشكلةٍ أخرى، يحاول أن يستفزك من خلالها لتعاقبهم، ودافعه إلى ذلك هو حب الانتقام، دافعه مسألة أخرى، مشكلة أخرى، قضية أخرى، وهذا يحصل في الواقع، تصفية الحسابات، أساليب الانتقام من خلال الوشايات، من خلال البحث عن قضايا أخرى، كثيراً ما يحصل ممن يتوجهون ويسعون للانتقام الشخصي بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة.
فعندما يكون الإنسان في موقع المسؤولية يكون حذراً متنبهاً من هؤلاء الناس، لا يقرِّبهم، لا يعتمد عليهم، لا يشجِّعهم على هذه الأساليب؛ لأنه ليس المطلوب نبش وإخراج المعائب والمساوئ، مسؤولية الإنسان في موقع المسؤولية أن يسعى لتطهير ما ظهر منها، أمَّا ما لم يظهر، فليحاول أن يستر، وليحاول أن يعالج بطريقة أخرى؛ لأن الإسلام لا يعتمد على أسلوب العقاب كأسلوب وحيد في إصلاح المجتمع، وفي تقويم سلوك المجتمع، الإسلام يعتمد أسلوب التربية بشكلٍ أساسي، وبشكلٍ كبير، التربية الإيمانية والقيمية والأخلاقية، وكذلك التعليم الصالح المفيد، المعالجات بطريقة اجتماعية، بأساليب متنوعة وحكيمة، والأسلوب العقابي هو الحالة الاستثنائية عند الضرورة القصوى، فما ظهر؛ يجب أن يكون الموقف منه موقفاً حاسماً، وما كان خفياً؛ فليس المطلوب التنقيب عنه، والبحث عنه، والاستخراج له بكل وسائل التتبع والتنقيب.
((فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ))؛ لأنه من المهم أن تكون الأجواء العامة أجواء خير، لا تتحول كل السلبيات إلى ظواهر تطغى في الساحة في حديث الناس، للأسف في هذا الزمن مع مواقع التواصل الاجتماعي يحصل خلل كبير في هذا الجانب، بل افتراءات، وليس فقط إخراج البعض من مساوئ الناس الخفية، وإظهارها إلى العلن، بل الافتراءات، افتراء الكثير والكثير مما ليس له وجود أصلاً، ولذلك يكون الإنسان حذراً في هذه الأمور.
هو يقول هنا: ((فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ))؛ لأن كل إنسان فيه قصور، عنده أخطاء، حتى أنت وأنت في موقع المسؤولية، عندك قصور، وفيك أخطاء، يعني: لديك جوانب أنت مقصرٌ فيها، عندك أخطاء، فالله يستر عنك ويعينك على إصلاح عيوبك، على إصلاح نفسك، عندما تستر عباده.
((أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ)).
((أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ))
أنت من جانبك لا تعبئ نفسك بالعقد على الناس، ولا تتعامل معهم من واقعٍ نفسيٍ معقدٍ عليهم، اسعَ لأن تكون نفسك صافية، صافية لتتعامل مع الناس بنفسيةٍ ومشاعر صافية، وليست مشاعر معقدة؛ لأن هذا يؤثر على أسلوب الإنسان، على طريقة عمله مع الناس، من موقعه في المسؤولية.
ثم في واقع الناس أنفسهم، احرص أن يكون أداؤك العملي سليماً صحيحاً، لا ينتج الإشكالات بشكلٍ دائم، البعض مثلاً طريقتهم في العمل طريقة خاطئة، ليس فيها حكمة؛ لأنه مطلوب الرحمة، والعدل، والحكمة، في أسس التعامل مع المجتمع، أن تجمع (الرحمة، والعدل، والحكمة أيضاً) في أسلوب العمل وطريقة العمل، البعض من الناس أسلوبهم في العمل أسلوبٌ صداميٌ، وإشكاليٌ، واستفزازيٌ، يستفز الناس في كل عمل، طريقته في العمل حتى لو كان العمل في أصله عملاً صحيحاً، أو عملاً مطلوباً، لكن طريقته في تنفيذ ذلك العمل استفزازية ومسيئة، وتبعث في نفوس الناس حالة الاستياء والسخط، فيجب أن تكون الطريقة في أداء العمل حكيمة، لا تستثير الناس قدر الإمكان، لا تستفزهم، البعض من الأعمال تحتاج إلى تهيئة، إلى توضيح، إلى تبيين، البعض من الأعمال طريقة التنفيذ فيها خيارات متعددة، وقد يكون هناك من الأساليب ما يضمن التنفيذ من دون استفزاز، وأسلوب آخر مستفز، فاترك الأسلوب المستفز، ونفِّذ بتلك الطريقة التي لا استفزاز فيها.
أيضاً عالج كل الأحقاد الموجودة، إذا كان هناك أحقاد نتيجة تصرفات معينة، مشاكل معينة، ابذل جهدك واسع إلى أن تحل تلك العقد، لا تترك الحالة العامة تتحول إلى حالة مملوءة بالسخط، ومحتقنة بالتذمر، هذا متذمر، وهذا ساخط، وهذا مستاء، وهذا معقد، وهذا… ابذل جهدك، حلحل العقد، الإشكالات التي لها حلول معينة، اعمل على حلولها، طريقة العمل تكون حكيمةً، بما تتلافى فيها الكثير من الأساليب الاستفزازية والصدامية، وحاول أن تحل الإشكالات القائمة بقدر الاستطاعة.
وليس معنى ذلك أن كل الناس سيرضون عنك، الإنسان مهما كان عمله قائماً على أساس الرحمة، والحكمة، والعدل، لن يرضى عنه كل الناس، سيبقى هناك من هو ساخط، رضى الناس غايةٌ لا تدرك، رضى الجميع، أن يرضى عنك الجميع، هذا أمر صعب جداً، خاصةً في هذا الزمن الذي يتحول واقع المجتمع إلى واقع مقسم في الأساس بخلفيات سياسية، تصبح هي مصدر للتعقيد، أو عقائدية تصبح هي سبب للعقدة، لكنَّ للحكمة والرحمة والعدل الأثر في الجمهور في أوسع الناس، في أكثر الناس، أوسع مساحة من الناس من المجتمع سيكون لهذا الأثر الطيِّب في نفوسهم، وسيتفهمون عملك ودورك، وسيعينونك في القيام بمسؤوليتك، وسيكون لهذا أثراً إيجابياً على مستوى واسع.
((وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ))
كل أسباب العداوات ابذل جهدك في ذلك، إن كانت مشاكل قائمة في الواقع، اعمل على معالجتها، إن كانت تصرفات خاطئة، حاول أن تصححها، اسع لأن تكون منصفاً، اسع لأن يكون موقفك الحق واضحاً، أحياناً قد يكون هناك أيضاً نشاط سلبي في الساحة، نشاط سيء، فيه أكاذيب، فيه افتراءات، فيه تعقيد للناس، يجب أن يقابل ذلك بتوضيح، بقرب من الناس، مع المعالجات العملية لما كان من أخطاء حقيقية، الأخطاء الواقعية يجب التوجه الجاد والصادق والناصح لمعالجتها بكل جهد، وما زاد عن ذلك بسبب افتراءات وأكاذيب يسهل تفنيدها، يسهل إيضاح الحقيقة للناس، لا تحتفظ بالمشاكل والعقد، وتترك الساحة تتعبأ بالاحتقان، والتذمر، والمشاكل، والاستياء، وتتجاهل مشاعر الناس تقول: [عادي طز، من سخط سخط، من غضب غضب]، لا، هذه مسألة خطيرة جداً.
ميدان عملك، ميدان مسؤوليتك هم الناس، أنت مسؤولٌ نحوهم، مسؤوليتك تتجه نحوهم، مسؤوليتك تتعلق بهم، فلابدَّ أن تكون العلاقة بينك وبينهم علاقة إيجابية، وأن تبذل الجهد في ذلك، وأن تحرص على معالجة تلك الإشكالات، وإلا سيكون لها نتائجها السلبية فيما بعد، البيئة التي هي محتقنة، مملوءة بالتذمر والاستياء، يمكن أن تتحول إلى بيئة يشتغل فيها العدو، يفرِّق كلمة المجتمع، يثير الفتن، يشعل نيران الفتنة في أي وقت، ويكون لذلك تأثيرات سلبية.
((وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ))
يعني: تغافل، تغافل عن كل الأمور التي ليست واضحة، لا تتعجل في التعامل مع الأمور التي ليست مؤكدة، واتخاذ إجراءات قد تسبب مشكلةً كبيرة، ويتضح أن الموضوع لم يكن كما ظننت، أو كما ظنه البعض، فابنِ كل أمورك على أساسٍ صحيح، وعلى بصيرة، وعلى يقين، وعلى وضوح، وعلى تأكد، ولا تحاول أن تفتح مشكلة في موضوع ليس مؤكداً، ولا واضحاً، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ، من يسعى بالآخرين، يشي عليهم، النمامون الذين دائماً يحرصون على أن ينقلوا إليك ما يستفزك ويثيرك على الآخرين، لا تتعجل بتصديقهم، واتخاذ إجراءات بناءً على نقلهم، أول ما تفعله هو التحقق والتبين، هذه هي الخطوة الأولى تجاه ما ينقل إليك: أن تتحقق، أن تتبين، أن تتأكد، إذا استخدم الإنسان هذه الطريقة، فسيتفادى الوقوع في كثيرٍ من المشاكل والمظالم؛ أما إذا كان الإنسان متسرعاً عجولاً، وبالذات عندما يستفز؛ لأن البعض قد ينقل إليك ما يستفزك جداً، والبعض قد يكون أيضاً بارعاً في طريقة النقل، هذه مسألة ملحوظة، البعض أيضاً متقن لأن يستفزك، وأن يثير أعصابك، وأن يثير انفعالك، عنده خبرة، يعرف كيف يتخاطب معك، كيف يقدِّم الموضوع إليك، بطريقة- على ما بيقولوا- يولعك، يولعك، هذه قضية خطيرة جداً.
فعلى الإنسان في موقع المسؤولية أن يكون معتمداً بشكلٍ أساسيٍ على التبين، {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}[النساء: من الآية94]، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: من الآية6]، أن يتبين، أن يتأكد، ألَّا يتسرع، ولا يستعجل باتخاذ إجراء قد يكون ظلماً، قد يكون من نقل إليك نقل إليك أمراً لا أساس له من الصحة، أو قد يكون زاد فيه، وبالغ كثيراً، حتى قدَّم المسألة كبيرةً جداً، ومستفزةً غاية الاستفزاز، فكن حذراً.
((وَلَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ))
الذي يسعى دائماً يعجبه أن ينقل المعائب، وأن يثير الآخرين، هو في واقع الحال غاشٌ، يعني: ليس ناصحاً، ليس ناصحاً، لا تظن أنه من دافع اهتمامه وحرصه بادر ينقل إليك ما ينقله عن الآخرين، ما يشي به على الآخرين، وفي واقع الحال غاشٌ وإن تشبَّه بالناصحين.
طبعاً سيأتي في نفس العهد (عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر)، كيف يكون هناك مثلاً نظام يعتمد الإنسان فيه على أشخاص موثوقين، صادقين، ليس لهم مشاكل مع الناس، ويسعون لتصفية حساباتهم مع الناس في نقل الحقيقة، يعتمد عليهم في نقل الحقيقة، في التثبت، في التبين، في التدقيق في الواقع العام، في أداء المسؤولين… إلى غير ذلك، ((فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)).
((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً، يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَا جَبَاناً، يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَا حَرِيصاً، يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ، وَالْجُبْنَ، وَالْحِرْصَ، غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ))
التشاور مسألة مهمة جداً في أداء المسؤولية، والله يقول لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: من الآية159]، يقول عن المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: من الآية38]، التشاور مهم ومفيد، ولكن على من تعتمد في مشورتك، من الذين تستشيرهم، هناك معايير ومحاذير، قدَّم المحاذير؛ لأنها كافية في أن تتنبه.
يقول:
((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً))، لا تعتمد في التشاور على بخيل؛ لأنه كما قال الإمام عليٌّ “عليه السلام”: ((يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ))، فيثبطك عن كثيرٍ من الأمور المهمة التي فيها فضل، وفيها نجاح، وفيها خير، وأحياناً قد تكون من ضروريات الأمور، ولكنها تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى تمويل، وهو بخيل، مهما كان أهمية الموضوع، أو مهما كان فضله، سيثبطك عن ذلك، وسيشير عليك بأن تترك ذلك بسبب بخله، ((وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ))، دائماً يخيفك من الفقر، ويخيفك مما تقدم وتبذل.
((وَلَا جَبَاناً))، لا تعتمد على الجبان في المشورة، ((يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ))؛ لأنه سيخوفك، ويرجف عليك، ويهول عليك، وبعض الأمور تحتاج إلى جرأة وقوة وشجاعة وتوكل على الله “سبحانه وتعالى”.
((وَلَا حَرِيصاً، يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ))، الحريص الذي يجمع بين البخل والطمع، بخيلٌ طماع، فهو طماع يريد أن يحصل على الشيء بأي وجه، بأي طريقة حتى لو كانت ظلماً وجوراً، وبخيل فيما قد توفر، لا يريد عطاءه ولا إخراجه، فالحريص- كما قال- يزين لك الشره بالجور، ويزين لك أن تكون شرهاً في طريقة الحصول على الأموال حتى بالطرق الخاطئة، بالأساليب والوسائل والأساليب التي تعتمد عليها في استخراج المال، والحصول على المال والإمكانات، وهي ظالمة، تأخذ المال بغير حق، بما فيه ظلمٌ للناس، يزين لك ذلك، يزين لك ذلك ويقنعك بذلك، ويبرر لك ذلك، وسيمتلك من أساليب التبريرات والتلفيقات ما قد يقنعك بذلك، فاترك هذا النوع من الناس، لا تعتمد عليهم في مشورتك.
((فَإِنَّ الْبُخْلَ، وَالْجُبْنَ، وَالْحِرْصَ، غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ))
البخيل هو سيء الظن بالله، لا يثق بوعد الله القائل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، إضافةً إلى الكثير من الآيات المباركة، التي وعد الله فيها بالبركة والخير والرزق لمن ينفق، الجبان هو سيء الظن بالله، لا يثق بوعد الله بالنصر، ولا بوعد الله بالعون والتأييد، والحريص الذي جمع بين الطمع والبخل لم يثق بأن الله سيرزق وسيمن، وأن فضل الله واسع، وأن العطاء في محله سببٌ للحصول على الفضل من الله، وعلى الخير من الله، سببٌ للبركة من الله “سبحانه وتعالى”، كل أولئك جمعوا تلك الغرائز السيئة، والتي هي نتاجٌ لسوء الظن بالله “سبحانه وتعالى”.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛