انكشاف الانحطاط والتوحش
انكشاف الانحطاط والتوحش
يمني برس/متابعات/
عندما تخاذل العرب والمسلمون، أنظمة وشعوبا عن نصرة غزة، تحديدا أولئك المطبعون، واللهيثون للحاق بقطار التطبيع، تحرك الضمير الإنساني مناصرا لمظلومية غزة، ومتحديا لعنف الأنظمة الصهيوغربية، التي واجهت تحركات المحتجين، الرافضين استمرار وتتابع أفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والواقع إنه لمن المخجل، بل ومن المخزي، أن يتحرك لنصرة أهل غزة من هم على بعد الالاف الأميال، ولا تربطهم بهم سوى رابطة الإنسانية، ويتخلف من هم مشتركون مع غزة وأهلها في الجغرافيا، واللغة والتاريخ والمصير المشترك، وقبل ذلك، وبعد ذلك، وفوق ذلك، يرتبطون معهم برابطة الدين، الذي أوجب عليهم النصرة لإخوانهم في قوله تعالى ﴿إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ فلماذا ينصر غزة البعيد ويخذلها القريب؟
إن من ينصر غزة اليوم، وعلى بعد الالاف الاميال، ويواجه قمع الأجهزة الأمنية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، تأبى إنسانيته الصمت في مواجهة الظلم، وهذه هي الفطرة السليمة للإنسان السوي، بغض النظر عن دينه أو معتقده، وقد سبق للإمام علي عليه السلام، الإشارة الى ذلك في عهده لواليه على مصر، الاشتر النخعي وهو يوصيه في الناس بقوله، (… إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) بمعنى أن اختلاف الدين لا يمكن أن يكون مبرراً للظلم والاجحاف، فإذا لم يكن الدين هو الرابط، فإن الإنسانية هي رابطة مشتركة بين البشر، وهذه هي الفطرة السليمة للإنسان السوي، وهي من حرك المحتجين من طلاب الجامعات في الغرب، للمطالبة بوقف الظلم والاجرام بحق نظرائهم في الخلق في قطاع غزة، هذا من جانب، ومن جانب أخر، فإن هؤلاء المحتجين طالما سمعوا وقرأوا عن مناصرة الأنظمة الحاكمة في بلدانهم، خلال عقود خلت من الزمن لحقوق الانسان في مواجهة الأنظمة المستبدة، وخصوصا في البلدان العربية، وهم بالتأكيد كانوا يقابلون المواقف المعلنة لأنظمة الحكم في بلدانهم بكل ارتياح وفخر، لكنهم وجدوا أنفسهم اليوم أمام حقيقة صادمة، وتناقض صارخ، فأنظمة الحكم في بلدانهم التي افتخروا بمواقفها، حسب الترويج المعلن من جانبها ولعقود من الزمن بالدفاع عن حقوق الانسان، بجميع صورها سواء تلك المتعلقة بحقوق الأطفال، أو حقوق النساء، أو حقوق الأقليات، أو غيرها من الصور التي ابتدعتها القوى الاستعمارية الغربية، وأبدعت في الترويج للدفاع عنها في مواجهة الحكام المستبدين.
وهاهم شباب الجامعات الغربية المحتجين يشاهدون بأم أعينهم، يوميا وعلى مدار الساعة أنظمة الحكم في بلدانهم، كيف اشتركت في إهدار أسمي حقوق الإنسان الفلسطيني في قطاع غزة (الحق في الحياة) وهو ما أصابهم بالصدمة والذهول، فكيف لهم أن يصدقوا فعلا أن أفعالا شنيعة كهذه يمكن أن تصدر عن أنظمة الحكم في بلدانهم، التي زعمت ولعقود من الزمن الدفاع عن حقوق الانسان، وهي في حقيقة الامر تنتهك حقوق الانسان بوحشية مفرطة، فمن هم في قطاع غزة من صغار وكبار ونساء ورجال، يتعرضون لجريمة إبادة جماعية، ما كان لمرتكب أفعالها المباشرة ليجرؤ على ارتكابها، لولا الاسناد والإصرار والدعم بالمال والسلاح والمواقف السياسية من جانب أنظمة بلدانهم الاستعمارية الصهيوغربية.
ولم تقتصر أفعال جريمة الإبادة الجماعية، المرتكبة في قطاع غزة على مجرد استهداف عدد محدود من البشر، بل إن الواضح تماما، أن كل مظاهر الحياة في قطاع غزة تعرضت للتدمير، حتى لا يجد من بقي على قيد الحياة من السكان ما يأويه، أو يسد جوعه، أو يروي عطشه، أو يداوي جراحه، وسيكون الأمر بالنسبة لبقائه حيا مسألة وقت، ليواجه مصيره المحتوم وهو الموت، والواضح أن المحتجين من شباب الجامعات في الدول الغربية، قد استخلصوا من مشاهداتهم مدى إصرار الأنظمة الحاكمة في بلدانهم على تنفيذ إبادة جماعية بحق كل من يصر على البقاء في قطاع غزة.
ولكل ذلك فلم يكن أمام الشباب المحتجين من خيار، سوى التعبير عن انسانيتهم في مواجهة التناقض الكبير الصادم، الذي كشف حقيقة أنظمة الحكم في بلدانهم، التي سبق أن انطبعت الصورة في أذهانهم عنها أنها أنظمة ديمقراطية، تعلي من شأن حقوق الانسان، وتدافع عنها، لكن الحقيقة التي صدمتهم أن أنظمتهم ليست مستبدة فحسب، مثلما كانت تصف هي أنظمة الحكم في بلدان الشرق الأوسط، لكنها أنظمة متوحشة ولا حد لوحشيتها، وهو ما حرك الطلاب المحتجين في الجامعات الامريكية، وامتدت موجات الغضب والاحتجاج لتشمل جامعات أخرى في عدد من الدول الغربية.
وهذا التحرك الطلابي الإنساني، واجهته الأجهزة الأمنية في الدول الغربية بعنف مفرط، بهدف قمع هذه التحركات الطلابية ووأدها في مهدها، فأدى ذلك القمع الى تصعيد الاحتجاجات، وإصرار الطلاب المحتجين على التعبير عن غضبهم، وإدانتهم لمواقف أنظمة بلدانهم، المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية، بحق سكان قطاع غزة، ومن شأن تصاعد قمع الأجهزة الأمنية للمحتجين، أن يؤدي الى نتائج عكسية تماما، يترتب عليها تصعيد الاحتجاجات الطلابية، لتتجاوز النطاق الجغرافي للجامعات الى نطاقات أوسع، فالطلاب ليسوا فئة اجتماعية منقطعة الصلة عن غيرها من فئات المجتمع، بل على العكس من ذلك، فالطلاب المحتجين لهم اتصال وارتباط وثيق بالمجتمع، ففيه أباءهم وأماتهم واخوتهم واخواتهم، وقرابتهم بمختلف الدرجات وكذلك أصدقائهم.
وأولئك جميعا سيتحركون لمساندة الطلاب المحتجين في مواجهة قمع الأجهزة الأمنية، وسيشكل هذا التحرك العام عامل ضغط مهم على أنظمة الحكم في بلدانهم، وسيجبرونها على الرضوخ لمطالبهم، وإذا ما تصاعدت الإجراءات القمعية من جانب الأجهزة الأمنية، فقد تتصاعد الاحتجاجات، وقد لا تتوقف إلا بإزاحة الحكام المجرمين من سدة الحكم، كما حصل في احتجاجات الربيع العربي سنة 2011م، لنكون بعد أكثر من عقد من الزمان بصدد ربيع غربي، خصوصا بعد أن أدرك الطلاب المحتجون زيف أنظمة الحكم في بلدانهم، في ترويجها للدفاع عن حقوق الانسان، وهي في الوقت الراهن لم تتقبل مجرد تعبير الطلاب عن غضبهم بصورة سلمية.
أما عن خذلان غزة وأهلها من القريب عربيا واسلاميا وجغرافيا وتاريخا ومصيرا، فإن لذلك أسباب متعددة، أدت جميعها الى تثبيط حركتهم بسبب الخوف من قمع السلطات، وبسبب ترويج تلك الثقافة المغلوطة التي تقوم على وجوب طاعة ولي الامر، وعدم مخالفة توجيهاته وتوجهاته، فأصبحت المكونات الاجتماعية لشعوب الامة العربية مخدرة تماما بفعل ذلك التدجين الذي استمر لعقود من الزمن، وتولى كبره علماء السوء، خدمة للحكام، وقد تجسدت نتائجه السلبية مؤخرا في صورة ترفيه وانفتاح على المنكرات، والتي تكلف علماء السوء في تبريرها، لتبدو في مستقبلها مماثلة لما هو سائد في الشعوب الغربية في ما يعرف بالحريات الشخصية، وهي انحلالية اباحية، فهناك حرية الزناء، والحرية المثلية، وحرية تعاطي المسكرات، والحرية في جميع المنكرات.
وقد أتضح مؤخرا، أن الأنظمة الغربية التي أباحت لشعوبها كل الحريات، التي نتيجتها انحطاط أخلاقي وقيمي، لا تبيح لشعوبها حرية حقيقة للتعبير عن الرأي، والاحتجاج على تصرفات تلك الأنظمة، وهو ما يعني أن تشجيع تلك الأنظمة للحريات الإباحية، ما هو الا من أجل تتويه وتمييع وتضييع وتخدير شعوبها، لتتفرغ تلك الأنظمة الاستعمارية الإجرامية التي عمادها الرسمالية المتوحشة، لتنفيذ سياساتها واجنداتها على مستوى الداخل والخارج، وعلى حين غفلة من شعوبها، ولان الأنظمة الحاكمة في الشعوب العربية تدرك يقينا أنه لم يعد مجديا الاستمرار في إقناع الشعوب بوجوب طاعة ولي الأمر في صيغتها التقليدية، ومن ثم لا بد من محفزات جديدة تتوه وتخدر بها هذه الأنظمة شعوبها، كما هو عليه الحال بالنسبة للأنظمة الغربية.
ولذلك جلبت الأنظمة العربية لشعوبها الانفتاح، وما ينطوي عليه من حريات شخصية انحلالية، وهي مسألة مقبولة، ومرحب بها على ما يبدو في الشعوب العربية، القائمة على ثقافة ( وجوب طاعة ولي الامر وإن أخذ مالك وجلد ظهرك) وهذا الانفتاح المنشود، ما هو إلا انحراف أخلاقي بكل تأكيد، وهذا الانحراف ما كان للشعوب العربية المسلمة أن تقبل به، لو لم يسبقه انحراف ديني، مات معه حتى الجانب الإنساني لدى الشعوب العربية والإسلامية، وليس مستغربا اليوم تخاذل الشعوب العربية وصمتها وقعودها عن نصرة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بل والأدهى من ذلك والأمر، صمت هذه الشعوب عن اشتراك أنظمة الحكم فيها، في جريمة الإبادة الجماعية، بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، التي ترتكب أفعالها منذ ثمانية أشهر القوى الاستعمارية الصهيوغربية.
والحقيقة أن حالة الشعوب العربية أشد سواء من حالة الشعوب الغربية، فإذا كانت الأنظمة الغربية، وكما ذكرنا أنفا قد روجت للحريات الشخصية لشعوبها، وروجت لحقوق الانسان، والدفاع عنها في مواجهة الأنظمة الاستبدادية حول العالم، وهو ما ترتب عليه تكريس ثقافة الدفاع عن حقوق الانسان في ذهنية الشعوب الغربية، وحين وجدت هذه الشعوب أن أنظمة حكمها، هي من تنتهك وتهدر حقوق الانسان استدعت فورا ما ترسخ في ذهنيتها من ثقافة الدفاع عن حقوق الانسان، فتحركت لتجسد هذه الثقافة على أرض الواقع.
أما الشعوب العربية فإن الثقافة التي ترسخت في ذهنيتها هي ثقافة (وجوب طاعة ولي الامر)، والتي تقتضي عدم الاعتراض على تصرفات الحكام، مهما كانت ماسة بحقوق وحريات الاخرين! وحين تحرك الحكام العرب، ليمنحوا شعوبهم حوافز انفتاحيه انحلالية، نظير طاعتهم العمياء، وجدت هذه الشعوب ان ما يحصل في غزة، يعد منغصا لمستقبلهم الترفيهي الانحلالي.
ولذلك فالشعوب العربية لا ترى إلا ما يراه حكامها، الذين يتمنون سرعة انتهاء ما يحدث في غزة ولو اقتضى الأمر تهجير جميع سكانها، أو ابادتهم ليبدأ مرثون الحريات الترفيهية الانفتاحية الانحلالية، التي تشرف عليها في أهم بلد عربي واسلامي هيئة تسمى (هيئة الترفيه) قامت على انقاض هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا التناقض الصارخ، دفع الشعوب العربية إلى الصمت، بينما دفع التناقض الذي تكشّف للشعوب الغربية إلى التحرك، ولعل الجواب على السؤال السابق، قد اتضح بشكل مفصل، ولم يعد أمرا مبهما، نصرة غزة إنسانيا على بعد الالاف الاميال، وخذلانها عربيا ودينيا في نطاق جغرافي متصل!
المصدر: صحيفة المسيرة