جوهر الثورة يكمن في التغيير وقد يكون إما تغييراً جذرياً راديكالياً عميقاً يمس النسق الاجتماعي وروابطه الاقتصادية وانعكاساته السياسية والايديولوجية ككل، أو تغييراً فوقياً يقف عند حدود المستوى السياسي والنخبة السياسية الحاكمة . الأولى وهي الثورة الاجتماعية باعتبارها سلسلة من عمليات التحول التاريخية التراكمية المتدرجة تنتهي بتجاوز النظام الاجتماعي القديم وعلميات التحول، هذه عادة لا تكاد تخلو من لحظات وقفزات ثورية مولدة ثورات سياسية ثورات تحرر، وطني-اجتماعي، حراك إصلاحي تصحيحي… وتكتمل الثورة مع أحداث تحول ينقل المجتمع من وضع اجتماعي واقتصادي إلى آخر أكثر رقياً من سابقه، كما في الثورة الفرنسية التي نقلت المجتمع الفرنسي من مجتمع اقطاعي إلى مجتمع رأسمالي، وكما في الثورة الروسية البلشفية التي نقلت روسيا من مجتمع زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي متقدم.
الثورة الاجتماعية في اليمن اتخذت صفة الفعل المستمر والمتواصل بدءاً من 26 سبتمبر وما قبلها وما بعدها مروراً بثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م، ثم حركة التصحيح للشهيد الحمدي، ثم إعلان الوحدة اليمنية إلى 11فبراير, وصولاً لـ 21 سبتمبر. فهي لحظات ثورية وحركات إصلاح سياسي ووطني مهما تفاوتت نتائجها والتطورات التي جلبتها تأتي ضمن سلسلة التحولات البنيوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تهدف لإحداث نقلة نوعية تتجاوز البنى التقليدية للمجتمع اليمني وبناء الدولة الديمقراطية العادلة والمجتمع المدني الحديث، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة والتنمية المتوازنة التي بداتها ثورة سبتمبر 1962م لكن لم تستطع لأسباب كثيرة اكمال مشوارها. لذلك لا يمكن عزل ثورة سبتمبر 2014م عن المسار العام لسلسلة التحولات الاجتماعية والسياسية الممتدة في منتصف القرن الماضي لتحقيق واستكمال ذات الاهداف .
.
نجحت ثورة سبتمبر1962م في الإطاحة بنظام الإمامة السياسية وإحلال النظام الجمهوري إلا أنها عجزت عن إلغاء العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، وعلى حد وصف “جولوفكايا. ايلينا.ك” – مؤلف كتاب “التطور السياسي للجمهورية العربية اليمنية 62-1985 “- انقلاب 26 سبتمبر 1962م ثورة برجوازية سياسية فوقية لم تكن سوى حلقة خاصة ضمن المسار العام والطويل المدى للثورة البرجوازية الاجتماعية.( )
نتيجة للضغوط التي واجهتها ثورة 26سبتمبر وبدافع الحاجة لاكتساب المزيد من القوى الاجتماعية إلى صفوف الثورة والجمهورية، لجأت القوى الثورية المسنودة من الجيش المصري إلى الاستعانة بالقوى التقليدية وإغراء المشايخ للانضمام للثورة ومنحهم امتيازات ومالية ووظيفية.
بعد1967م تغلبت النخب القبلية والبيروقراطية العسكرية في الجمهورية العربية اليمنية وتم إقصاء القوى الاجتماعية والسياسية الحديثة، من السلطة، والدولة، ومن الجيش والأمن، والإدارة، وغدت هي القوة الفعلية المهيمنة على مفاصل الدولة وعلى مواقع السلطة العليا، والتجارة والمال، وتحولها تدريجياً ليس إلى قوة عسكرية تقف في موازاة إمكانات بناء مشروع الدولة الوطنية الحديثة بل إلى قوة اقتصادية ومالية وتجارية كبيرة لا تجد مصلحة في بناء الدولة الوطنية العادلة.
تمكنت القوى التقليدية من إزاحة القوى الثورية والحداثية التي تعد الحامل السياسي لمشروع الدولة الحديثة (القوى الحداثية كانت برجوازية سياسية فوقية لا تتمتع بالوزن الاجتماعي للقوى التقليدية) وبعد أن تمكنت من احتلال المواقع القيادية العليا في الجهاز الحكومي والإداري عملت على كبح عجلة التحديث ووقفت بحزم ضد أي محاولة لكسر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي إفراغ الثورة من مضمونها الاجتماعي التقدمي..
كما عملوا على تقويض المشروع التصحيحي للحمدي لبناء الدولة الوطنية وتحريرها من مراكز النفوذ، وعلى هامش الدولة تكونت جماعات مصالح ومراكز نفوذ تعملقت على حساب الدولة-، وبنت شبكة مصالح واسعة تتقاسم الامتيازات النفطية والتوكيلات الاحتكارية وطورت أدوات للهيمنة تضمن من خلالها إعادة انتاج نفسها والالتفاف على آليات الديمقراطية الشكلية، الأمر الذي فاقم من أزمة الوصول لدولة المواطنة، وأدى لتكريس التفاوت الاجتماعي و ضمور الطبقة الوسطى وإفقار غالبية فئات الشعب وانعدام الاستقرار السياسي، وغياب التوافق الوطني، و فشل الإدارة السياسية؛ و تآكل شرعية وسلطة الدولة، وضعف سيطرتها على كل الجغرافيا اليمنية؛ والعجز عن فرض سلطة القانون، وانتشار السلاح المتوسط والثقيل خارج الأجهزة الرسمية، وتكون كيانات شبه عسكرية من الجماعات والأحزاب والقبائل؛ والدخول في متوالية هندسية من الصراعات والفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتقويض السيادة الوطنية وتحول اليمن لساحة استقطاب إقليمية ودولية..
جاءت ثورة فبراير وكان امامها خياران وعلى حد الدكتور «ياسين سعيد نعمان» الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني، إن ثورة فبراير أمامها خيار واحد “إما النجاح الكامل أو الموت داخل المضيق”.
ذبحت ثورة فبراير من الوريد الى الوريد وعلى يد من فرضوا انفسهم اوصياء عليها وماتت في المضيق على حد تعبير ياسين .
الفصيل المنشق عن النظام -الذي غير موقعه السياسي لا موقفه السياسي من التغيير الناجز- والذي هو جزء من تركيبة النظام القديم في المشترك ويتشابه مع النظام لحد التطابق في خصائصهما ومصالحهما الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
هذا الفصيل التحق بالثورة الشبابية الشعبية لكن مع احتفاظه بكامل امتيازاتها السلطوية والاحتكارية، وبعد أن التحق بها تولى قيادتها وفرض وصايته عليها باسم حمايتها، و افرغتها من مضامينها الثورية وأخذها كورقة لتصفية حساباته مع رأس النظام السابق ولعبت بها ورقة تفاوضية في “المبادرة الخليجية”.
الاحزاب والقيادات التي صعدت للسلطة باسم الثورة لم يكن أداؤها مستوعباً لمنطق الأزمات وتداعياتها ومخاطرها، ولا لحالة السخط المتفاقمة على سياساتهم المنصرفة عن الجماهير، وعن المضامين الاجتماعية لثورة فبراير، وسلسلة السياسات الاقتصادية الكارثية التي تبنتها للتواؤم مع مصالح الاقتصاد الرأسمالي والصفوة السياسية، وعدم التفاتها لما تمثله من عدوان سافر على مصالح الطبقات الشعبية المفقَرة ..الى ان فاجأهم زلزال 21 سبتمبر “المفاجئ لكل الأطراف والخارق للعادة على حد وصف المبعوث الأممي جمال بنعمر!
ثورة سبتمبر تصارع من اجل تحقيق اهدافها وتواجه صعوبات كبيرة ومن المبكر جداً الحكم على المنجز الثوري،.لكن مهما يكن حتى لو تم افشالها وحتى لو اسقطوا القوى الثورية وعلى راسهم انصار الله فان التغيير لن يتوقف لانه اصبح ظرورة لا يمكن تجاوز ومحاولة كبح مسار التغيير لن يوقفه والضغط انما يولد انفجارات تتسع دائرتها اكثر واكثر .والاسهل سواء للإقليم او للداخل هو الاستجابة للحاجة للتغير .