لقد اعتدنا أن نقف دقيقة صمت تكريماً لشهداء الوطن والأمة: أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر. ولكني اليوم أدعو إلى الوقوف دقيقة صمت في القرن الواحد والعشرين على الحقيقة الشهيدة،
ولهذا أدعو كلّ من لديه أخلاق واعتراف بأن قيمة الروح البشرية قيمة واحدة بغضّ النظر عن العرق أو اللون أو الجنسية، وبغض النظر عن الموقع الجغرافي الذي صدف أن تواجدت به أن يقف دقيقة صمت على روح الحقيقة، ذلك لأن ما شهدناه في الأسبوع الماضي من جنون ممنهج ومنظّم وتجييش إعلامي لا سابقة له في كلّ وسائل الإعلام العالمية قد جعل من الحقيقة شهيدة، بل أم الشهداء، تقضي فيقضي معها آلاف الأبرياء، ويُقتلون ظلماً وعدواناً دون أن يعترف أحد بالجريمة المنكرة التي ارتُكبت بحقّهم. لا نكاد نصدّق نحن الموجودون في مركز الحدث، والذين عانينا كلّ ما عانيناه على يد عصابات مجرمة، لا نكاد نصدّق الحملة الدولية التي تجاهلت، وعلى مدى سنوات، شهداءنا وأطفالنا الأبرياء لتصوّر المسألة اليوم وكأنّ هؤلاء المجرمين هم الضحايا، وهم ما زالوا يقصفون المدارس والمشافي والمدنيين في دمشق بنيران حقدهم الحارقة دون أن يدين أعمالهم الإجرامية أحد من المتنطّعين للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والإعلام الحرّ والضمائر الحيّة وإلخ… من مفاهيم إنسانية سامية حوّلها الساسة الغربيون إلى شعارات فارغة تغطّي جشعهم الاستعماري لثروات العرب وأحقادهم الدنيئة.
لم يناد أحد من «العالم المتحضّر» بوقف القصف على عاصمة يقطنها خمسة ملايين إنسان، بل صمتوا صمت القبور، فمنذ عام 2012 قصف عملاء إسرائيل من إرهابيي الغوطة يومياً سكان دمشق بأكثر من 80014 قذيفة وصاروخاً، زوّدتهم بها السعودية وإسرائيل وتركيا وقطر، أدت إلى مقتل وجرح أكثر من 11200 من المدنيين من سكان دمشق في مختلف الأحياء، منهم أكثر من 1524 طفلاً شهيداً من أطفال دمشق الأبرياء، وقد ركّز الإرهابيون قصفهم على المدارس وفي أوقات دخول أو خروج التلاميذ من مدارسهم، هذا ناهيك عمّن أصيبوا بإعاقات دائمة، ولم نسمع طوال هذه السنوات إدانة لهذه الأعمال الإجرامية ولم نرَ حملة إعلامية تندّد بالإرهاب وتدعو لاستئصاله. والسبب هو أن هذه الحرب الدائرة تستخدم من قبل من أشعلوا فتنتها منذ عام 2011 لتحقيق أهداف إقليمية ودولية.
والهدف الراسخ والأساس هو تصفية القضية الفلسطينية، وإلغاء حقّ العودة للشعب الفلسطيني والتحالف المعلن مع حكّام دول الخليج المهووسين بالطائفية الوهابية إلى حدّ التحالف مع أعداء العرب والإسلام لمواجهة إيران بما يتوافق مع السياسة الإسرائيلية المعادية للتوجّهات الإيرانية الدّاعمة لحقّ العرب في فلسطين، ومحاولة تجريدها من مكانتها العلمية والعسكرية والسياسية في المنطقة كي تستفرد الهيمنة الإسرائيلية بالمنطقة برمّتها.
علّ أحد أهم أدوات هذه الحرب هي اختلاق الأكاذيب والترويج لها كحقائق في أذهان المتلقين في أرجاء المعمورة، ولا شكّ أن التاريخ سيكشف، حتى أكثر مما نسمع ونرى، نحن الذين نعيش يوميات هذه الحرب في سورية. فها هو طلال سلو، الناطق الرسمي والعسكري لقسد، يعترف اليوم أن قوات قسد بالتعاون مع الأميركيين «لم يقاتلوا داعش في الرقة، بل كانت مسرحية القصد منها تدمير الرقّة وتهجير أهلها العرب»، وأكد قائلاً: «لم نقاتل داعش، بل نقلنا أربعة آلاف عنصر إرهابي منهم مع عوائلهم إلى دير الزور وريفها بالاتفاق مع الإدارة الأميركية، وأظهرنا صوراً لمدنيين عرب سوريين من الرقة، ونازحين على أنهم من داعش».
لا شكّ أن الجغرافية السورية، وعلى امتداد سنوات الحرب على سورية، ملأى بالمسرحيات المشابهة، والتي تمّ وضعها على المخطّط لتحقيق الأهداف التي رسمتها غرف موك في المنطقة وفي مراكز القرار في واشنطن وإسرائيل، وأتباعهما حكّام دول الخليج، وغيرها من حكّام الخنوع والخيانة القومية لأمّتهم وشعوبهم ودينهم، والهدف الأساس هو ما أعلنه ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في ذكرى النكبة، ذكرى احتلال فلسطين، ومحاولة إيقاف الصعود الروسي ليحتلّ بجدارة قطباً عالمياً يتّسم بالالتزام بالشرعية الدولية، واحترام سيادة وقرارات الدول المستقلّة.
لقد كتبنا حين قصف الأميركيون الرّقة أن الهدف هو التطهير العرقي وتهجير أهلها العرب، وذلك قبل أن يعلن طلال سلو ذلك مؤخراً بالصوت والصورة.
واليوم نقول إن هدف هذه الحملة الإعلامية الكونية حول الغوطة الشرقية هو إبقاء العصابات الإرهابية لعملاء إسرائيل في الغوطة ليحقّقوا حلم مشغّليهم الصهاينة بقصف العاصمة دمشق وقتل المزيد من السوريين خدمةً لمخططات الولايات المتحدة وإسرائيل وحكّام دول الخليج، والذين استهدفوا سورية بهدف إلغاء موقعها وموقفها المقاوم، والذي هو اليوم الضمانة الوحيدة لإعادة انبعاث المقاومة والصمود على امتداد الجغرافية العربية.
لقد عادت الولايات المتحدة في عصر ترامب دولة استعمارية وحشية، تضع الميزانيات الضخمة المدعومة بسخاء الجزية السعودية، وترسم الخطط لتقسيم الدول العربية ومنع إعادة الأمن والسلام لمصادر قوة العرب في سورية والعراق، ونشر قواعدها العسكرية في هذين البلدين، ومنع أي تواصل بين شعبيهما، والوقوف حاجزاً في وجه الوجود الروسي في المنطقة، وفي وجه استقرار روسيا كقطب دولي يكسر الهيمنة الأميركية، التي استفردت بالشأن الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإذا كانت دولنا وشعوبنا غير قادرة على مواجهة الميزانيات العسكرية الضخمة للولايات المتحدة، أوَلسنا قادرين في عصر التقنيات أن نستخدم كلّ الوسائل المتاحة ليكون صوت الحقيقة التي نعايش أعلى من صوت الأكاذيب التي يختلقون؟ هل يُعقل أن نقف دقيقة صمت على استشهاد الحقيقة بدلاً من تجنيد جيوش إعلامية على كلّ وسائل التواصل لنقلب كذبهم عاراً عليهم وخسارةً لهم؟ أولَم يحن الوقت اليوم لطريقة تفكير جديدة وأساليب عمل متطوّرة تجابه وتقوّض مقولاتهم المنافقة، والتي لا تصمد أبداً في وجه من ينشر الحقائق ويسلّط الضوء عليها، ويجعلها متاحة لجماهير الأرض كافة.
المعركة طويلة ولا بدّ من اجتراح الأدوات المناسبة لها والجديرة فعلاً بالانتصار للحقّ وأصحابه.