صورة يمنية.. مزيج من طفل استحال أباً، وأب استحال طفلاً
بقلم / عناية جابر
حياةُ اليمني، وليس شخصهُ فحسب أو موته، دراميّة في أساسها. إنها صراعٌ ملحَمي للكائِن البشري في هذا العالم، صراعٌ مع الخارج وصراعٌ مع الداخل، وهي حياته ذات وتائِر نفسية ومعيشية وفكرية مُتفاوِتة مُتدرِّجة غالباً.
لنقُل إن الطفل اليمني الجاثي لصق جثّة والده، يقول لنا أنه لن يتركهُ مُسجّى وحيداً هكذا، وإنه – أي الطفل – في حالٍ من إشراع الأجنحة أو فتحها على المدى، ليرحل ووالده بعيداً عن عالمنا.
لنقُل إن مكوثه العنيد كما لو ابتهال، أو يأس كامل، مكوثه يتضمّن في داخله السكون، والدوران، والتململ.
الكاميرا التي تتلذّذ بنقلها لنا فجائع يمنية، تُرينا كم هي سهلة الدموع تجري من العيون، تجري أكثر ممّا تسيل، تجري وكأنها تغتسل من العيش والحركة، أو كما لو تعرّضت لتحويل أو ظهرت في نسخة ثابتة.
صوَرٌ يمنية في حركة موت واحدة مُتردّدة مُتتابعة كموجٍ صامت، كموجٍ عن جحيم في الذاكرة، أو ذاكرة تتفتّح أبداً في ظلٍّ رمادي، في طلاسِم لا نجد إجابة عنها ولا نجد شكلاً رحيماً.
الطفل المُرتمي على الصدر العريض لوالده الميت، مزيج من شكلٍ ولونٍ اندغما واندمغا حتى ضاعا في بعضهما.
إن الكتابة هنا، أو الختم على أمرٍ رأيناه، هو هذا المزيج من طفلٍ استحال أباً وأب استحال طفلاً.
تنقل الكاميرا السواد الغامِر، وفي كل الأحوال ما تفعلهُ هو هذه المقدرة على ترميد اللون، على إطفاء اللون، على تحويله إلى مادّةٍ من أشلاء مُتناثرة، تحويله إلى شيء، إلى شكلٍ يقولون إنه الموت.
بعض المُتجمهرين يقولون للطفل تعال إلينا واترك والدك إلى رحلته الأخيرة. لم أفهم لغة الطفل الرافِضة. لم أفهمها فهي ما جُعِلت للفهم، لكنني أعرف أنه أجابهم ليس بلغةٍ سائلة، ولا لغة تنشأ من جُمَل ومفردات. أجابهم الطفل بنحيبٍ مُحتشدٍ بالنُكران، أجابهم بكبرياء بسيطة وبدائية.
الطفل لصق جثة والده، غير معني بالكاميرا ولا بناسِ الكاميرا، ولا بالمُناشدات التي تُثقل لحظات ذهوله، ولا بالانفصال عن كثافة اللحظة. الطفل غير معني بالأيدي التي تريد انتشاله، فهي أيدٍ غريبة مُعلقّة في الفضاء الصغير، بينما والدهُ متروك لرقدته من دون سند وكأنه مُقتَلعٌ من آدميّته، من أبوّته، أو أنه محض دُمية منفوخة سمينة توازن قلقه، توازن قلق العالم الذي مع ذلك… صامِت.
لا يلتفتُ الطفلُ إلى الكاميرا. يُحدِّق فحسب في الدُمية التي بلا وجه، يُحدِّق في يدها المرفوعة وليست في موضعها وحركتها. الدُمية التي لن تعود إلى الحياة بدرجةٍ أكبر مما تُرينا إياه الكاميرا.
ما هي الأشياء الحقيقية وما هي الأشياء الخيالية التي تنقلها لنا الكاميرا عن اليمن؟ المُتفرِّج السيّىء يريد دائماً أن يرى إلى المزيد من الموت، المزيد من الميتات في الأفراح والأتراح، المزيد من الأجساد المُتناثرة والمُسجّاة، وهي اليمن مصدر لإذكاء الحال المرَضية للمُتفرِّج. حالات غدت مرَضية بسببٍ من التبذير الكبير بالموت. لقد غمر العالم الظلام وجُنَّ جنوناً مُطبقاً – وليحصل ما يحصل وبأبشع الصوَر – يقول المُتفرِّج القاعِد أمام شاشة التلفزيون.
ماذا يريد المُتفرِّجون السيّئون؟ يريدون “السطر الأخير” من الحياة التي تدور بعيداً عنهم، يرونها على الشاشات، يريدون لغة العالم السريّة التي تكتنه العنف، أو العبرة، العقار السياسي، وجهة النظر، الأقوى، ثم المزيد من الأموات.
المتفرّج السيّىء يجلس ويُطالب الكاميرا أن تُقشِّر له حياة الفقراء. أن تسحلهم. المُتفرِّج السيِّىء، عاشق للميتات التي تجري بعيداً عنه، هو عاشق للهياكل العظمية، للدم، للأجساد المُتآكلة، لمجموعة كليشيهات عن النهايات التي ينتشي في حدوثها.
المُتفرِّج السيِّىء مثلهُ مثل الصحافي اللاهِث إلى “سبَق” وريادة في الخبر مدعوماً بنوعٍ من الرَيبة العدائية، بنوعٍ من المتعة التخريبية الكامِنة في ذبح البشر، بالحاجة إلى الفظاعة واليأس والمهانة المُتنامية الممزوجة بالغرور والهلوسات، وبحُمى العزلة والشهوة مع التَوق إلى رؤية الموت بأمِّ العين.. ونقله لنا مُعزَّزاً مُكرَّماً.
الطفلُ اليمني يحمل والدَهُ على كتفه. ليس على كتفه. في حضنه. هو مُلزَم بحمله طوال حياته إن بقيت له من حياة، لسوف ما تبقّى له من عمر حمل الوالد والبيت واليمن. إن تسنَّى له أن يكبَر لسوف يحملهُ أينما ذهب، في الليل كما في النهار.
كل ليلةٍ بعد مجزرة الوالد مفرود الذراعين، كل ليلة بعد الآن، سوف يتقاسم الطفل سريره مع أبيه إلى أن يحين أجلهُ في عرسٍ ما، زقاق ما، سوق ما.
لا أحسبُ أن في “فرجة” كهذه لمُشاهد سويّ، سبراً لنوابض البني-آدميين، سبراً لتفاصيل حياتهم، للوعاتهم ودقائقهم الداخلية، لتطلّعاتهم وأحلامهم بوطنٍ سعيدٍ ما، وإن على أقلّ درجةٍ من السعادة.
أحسب أننا لا يجب أن نرى إلى موتِ اليمنيين وقد غدَونا في ألفةٍ معه إلى هذه الدرجة.
عندما يعرضون إلى صوَر الموت اليومي اليمني، وغير اليمني، لا أراه إلا وأنا غريبة عنه وفي جفلة ووهلة منه ومن مُسبّبيه. لا أراه إلا بقدرٍ كبيرٍ من هَلَعٍ وخوف.
حياةُ اليمني، وليس شخصهُ فحسب أو موته، دراميّة في أساسها. إنها صراعٌ ملحَمي للكائِن البشري في هذا العالم، صراعٌ مع الخارج وصراعٌ مع الداخل، وهي حياته ذات وتائِر نفسية ومعيشية وفكرية مُتفاوِتة مُتدرِّجة غالباً.
في اليمن عالم ورؤية خاصان، ويملك في داخله أكثر من صوتٍ، صوتُ الظلم وصوتُ البطولة. له أيضاً صوت الداخل المُنقسم والرؤية الصراعية.
على الكاميرا ألا تقترب من رقدة الطفل الذاهِل ووالده المُسجَّى، ففي الأمر افتضاح رخيص للإنسانية بكليّتها.
ثمة أخيراً مستقبل اليمن لا بدّ، ما يتخّطى التلمَذة الكئيبة للكاميرا ويُغيِّر في مسارها. قوّة ناسه، وشخصية عمارته وعمارة أولئك الناس ذوي البُنية الناحِلة والعزم، ما سوف يُتيح لليمن أن يحوِّل في الوقت البائس هذا، وذلك في تمثّل العناصر التي ترد عليه، ويُدرجها في لغة القرن ومنطقه وطريقته، فتغدو هذه “المذبحة” المُركَّبة والاستقطابية، أكثر قابلية للحياة. تلك أسطورة الشعوب التي تستدعي نقيضها.. والأرجح أن الذات المبتورة والضائِعة في الزمن، أحوج إلى مثل هذه الأسطورة.. ثم إن النصرَ قريبٌ ليس شيئاً نافِلاً.
المصدر : الميادين
كاتبه وشاعرة وصحفية لبنانية