من «بشت» الأمر بالمعروف إلى «بذلة» الترفيه.. كيف تحولت السلفية السعودية؟
يمني برس| شفقنا:
يا أمة الثقلين.. إن إمام الزمان يبارككم ويغفر ما تقدم من ذنبكم وما تأخر، ويبلغكم أن الشريعة قد بطلت؛ لأن ساعة الحشر قد حانت. *الحسن الثاني بن محمد بن كيا بزرك آميد
كان شيخ الجبل، الحسن بن الصباح، عالمًا بالفلك والحساب والهندسة، وأحد دعاة الفرقة الإسماعيلية، يميل إلى نزار بن الخليفة المستنصر الفاطمي، ويرى بولايته، ويدعو لها، وعليه: لما سُجن نزار، ليتولى أخوه المستعلي بالله الحكم في عام 1094، أسس ابن الصباح فرقة «الحشّاشون»، التي عُرفت بأنها أول فرقة جهادية في الإسلام، ويقال إنّ قوامها كان 20 ألف مقاتل. فاستولت على قلعة «ألموت» في بلاد فارس، وروعّت محيطها بالاغتيالات، ونشرت الرعب في كل المناطق التي غزتها من فارس إلى بلاد الشام، وكانت العامل الأساسي في القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين، علاوة على خطرهم الداهم الذي استمر يصارع القوى السنية المحيطة بهم، مثل الزنكيين والأيوبيين والخوارزميين، فضلًا عن الغارات الكبيرة التي كانت تقوم بها هذه المجموعات على المناطق المحيطة.
فهل لهذا التاريخ ظلالٌ في حاضرنا؟ لنكمل التقرير.
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. العصا لمن عصى
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءٌ من كيان هذه الدولة التي قامت على تَحكيم الكتاب والسنة على منهج سَلَف الأمة. *الشيخ أحمد الزومان
في عام 1940، وبعد ما يقرب من أربعة عقود من تأسيس الدولة السعودية الحديثة، استُحدثت هيئة رسمية مكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعرف أيضًا بالشرطة الدينية، أو رجال الحسبة، وتعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية في الأسواق العامة والطرقات والحدائق، والحيلولة دون وقوع المنكرات الشرعية، والتي منها الممارسات التي تظهر عدم الاحترام للدين الإسلامي، بدعمٍ كامل من الحكومة السعودية، وبصلاحيات كاملة تتيح لهم اعتقال الأشخاص، وإقامة الحدود الشرعية؛ مما جذب إليها العديد من المنتسبين غير المؤهلين؛ لما وجدوه من ميزات يتمتع بها رجال الحسبة داخل المملكة.
وكانت فروع هذه المنظمة تنتشر في جميع المدن والمناطق داخل المملكة، ويبلغ قوام منتسبيها حوالي 4 آلاف منتسب، ويوجد غرفة للتوقيف في كل مركز من مراكزها. ويرى المنتسبين لهذه الهيئة أنهم الفرقة الناجية التي قد حَسُن إسلامها، وأن كل من يحلق لحيته، أو يطيل ثوبه، أو يفتح باب محله التجاري أثناء الصلاة، فاسق يستحق الجلد؛ فطبقوه دون رادع من الدولة في حوادث كثيرة.
ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين إمامٍ صادقٍ قائمٍ في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية عن سائر الفرق بهذه النكتة، وهي: أن لهم إمامًا، وليس لغيرهم إمام. *الشهرستاني في الحديث عن الحسن الصبّاح، في كتابه الملل والنحل
كان الحسن بن الصباح يختار عناصر جيشه من بين الفِتية، ويدرّبهم تدريبًا شاقًّا؛ «فيصبحون أطوَع له من أصابعه، وكانت الأسر الإسماعيليّة تتبرّع بأبنائها لترسلهم إليه؛ حتّى يجاهدوا في سبيل توسيع الدعوة». وكان من عادات «الحشّاشين» في تنفيذ الاغتيالات التنكّر بملابس الصوفيّة، أو ارتداء ثياب النساء والشحّاذين، أو الانتظار في صفوف المصلّين. وكان كثير من الزعماء والقادة والقضاة المسلمين لا يباشرون أعمالهم، كما تؤكد دراسة للشيخ عبد الله بن خليل الحمد التميمي، «إلّا وهم يرتدون قمصان الزرد حمايةً لأنفسهم من خناجر الحشّاشين المسمومة».
مشعلو الحرائق ومطفئوها
ذكر تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عام 2016 أن النقاد ينظرون إلى ما تصدّره المملكة العربية السعودية من نهج للإسلام المتشدد والمتعصب والأصولي المعروف باسم الوهابية على أنه السبب الرئيس في تغذية التطرف العالمي، وفي زيادة «الإرهاب». ففي عالم الإسلام المتطرف، ووفقًا لرأي وليام ماك كانتس، الباحث بمعهد بروكينجز، يُعتبر السعوديون «مشعلي النار ومخمدوها في الوقت ذاته»؛ إذ إنهم يروّجون صورةً مشوَّهة جدًا للإسلام، ترسم خطوطًا حادة بين عددٍ قليل من المؤمنين الحقيقيين وبين كل الآخرين، من مسلمين وغير مسلمين، وذلك من خلال التغذية الأيديولوجية للجهاديين الذين يمشون على خطا الجهاد العنيف.
وبحسب التقرير ذاته، فهناك إجماعٌ على أن القوة الأيديولوجية الهائلة للمملكة العربية السعودية قد تسبَّبت في تشويه التقاليد الإسلامية المحلية في الكثير من البلاد عبر الإنفاق الباذخ الذي يُقدر بعشرات المليارات من الدولارات على التوسع الديني طوال نصف قرن، وأن هذه «التنظيمات الإرهابية» خرجت من عباءة الوهابية السعودية.
فبالنسبة إلى أقلية صغيرة في العديد من البلدان، فإن نسخة الإسلام السني السعودية الإقصائية، وتشويهها لصورة أتباع الديانات الأخرى من اليهود والمسيحيين، والمسلمين الشيعة والصوفيين ومتبعي المذاهب الإسلامية الأخرى، قد جعلت بعض الناس عرضة لإغراء «تنظيم القاعدة» و«الدولة الإسلامية» وغيرها من الجماعات الجهادية العنيفة.
فلقد فرض الله عليكم الشريعة لكي تستحقوا الجنة، وقد استحققتموها، وهي من اليوم لكم. *الحسن الثاني بن محمد بن كيا بزرك آميد
ولقد كان كسب أنصار جدد، والسيطرة على قلاع أخرى في المنطقة، الهدف الذي يضعه ابن الصبّاح نصب عينيه، ويسعى لتحقيقه، ولذلك استمر في إرسال الدعاة إلى القرى المحيطة، وإرسال المليشيات لأخذ القلاع عن طريق الخدع الدعائية، وإن فشلوا لجأوا إلى الطرق الدموية والمجازر.
واستطاع أن يضرب ضربته الكبرى، ويغتال الوزير الشهير، نظام الملك الطوسي، بعد عدة أسابيع من وفاة السلطان ملكشاه؛ لتكون هذه العملية بداية طويلة لسلسلة من الاغتيالات التي قامت بها طائفة الحشاشين ضد ملوك وأمراء ورجال دين، ولم يتمكن السلاجقة من القضاء على الإسماعيلية الباطنية أو الاستيلاء على قلعة «ألموت»، وظلت الباطنية يدًا خفية تغتال رموز أهل السنة بلا رحمة لمدة قرنين.
عندما يتعرّض الفرد إلى كم هائل من الأفكار والأقوال تقلل من قيمة الآخر كإنسان، فسيمسي في النهاية عرضةً للتجنيد من المجموعات الإرهابية، فما بالك إذا عُرضت عليه هذه الأفكار والأقوال على أنها كلام الله؟ *ديفيد أندرو وينبرج، زميل أول في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن
لا يتجلّى أثر المملكة السعودية في نشر «التطرف» حول العالم، والتنظيمات الإسلامية المسلحة، في شخص زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن وحده؛ فـ15 من أصل 19 مهاجمًا ممن نفذوا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) كانوا سعوديين، كما أرسلت عددًا من الانتحاريين إلى العراق بعد الغزو في عام 2003 يفوق العدد الذي أرسله أي بلد آخر، فيما زودت «داعش» بمقاتليين سعوديين يبلغ عددهم 2500 مقاتل.
وفي عام 2015 نشر تنظيم «داعش» الكتب التي اعتمد عليها في مدارسه؛ ليأتي من بين 12 عملًا من أعمال علماء مسلمين، سبعة أعمال لمحمد بن عبد الوهاب، مؤسس المدرسة الإسلامية الوهابية السعودية في القرن الثامن عشر، فيما اعترف الشيخ عادل الكلباني، الإمام السابق للحرم المكي، في مقابلة تلفزيونية، أن «داعش، استمدوا أفكارهم من كتبنا الخاصة، ومبادئنا الخاصة».
فزّاعة التطرف: السحر الذي انقلب على الساحر
لا أحد يستطيع تعريف هذه الوهابية، فليس هناك ما يسمى بالوهابية. *الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي
في لقاءه مؤخرًا مع مجلة «ذي أتلانتك»، قال ولي العهد السعودي: «إن دعم بلاده للمتطرفين قبل عام 1979 جاء من أجل دحض الشيوعية التي انتشرت في كل مكان مسببة التهديد للولايات المتحدة وأوروبا، وكادت تصل إلى مصر، وأن المملكة اضطرت لاستخدام كل السُبل من أجل التخلص من الشيوعية». فيما سبق وأن ألقى باللوم على الثورة الإيرانية في حديث له مع صحيفة «الجارديان»، قال فيه: إن الثورة الإيرانية تسببت في تعزيز الأنظمة الدينية في جميع أنحاء المنطقة، مؤكدًا أنه حان الوقت للعودة إلى الإسلام المعتدل المنفتح على العالم وجميع الأديان.
ليبدو للعيان أن ولي العهد يعاني من حالة إنكار، فتاريخ التطرف في المملكة لا يبدأ بالثورة الإيرانية كما يزعم، بل كان نتيجة لاستخدام الدين في تعزيز وترسيخ سلطة النظام السعودي؛ الأمر الذي منح رجال الدين الحرية في السيطرة على كل شيء في السعودية، بدءًا من المناهج المدرسية إلى قوانين النظام العام. وخلال عقود عملت الأسرة المالكة على استرضاء هذه المؤسسة الدينية؛ خوفًا من تكرار حادث خطير (مثل حصار مكة من قبل مسلحين محسوبين على التيار الديني عام 1979)؛ مما ساعد ذلك النظام الحاكم على إنشاء نظام استبدادي لا يمكن التشكيك فيه.
السعودية.. من «بشت» الأمر بالمعروف إلى «بذلة» الترفيه
وعليه؛ فقد تحررتم من نير الشريعة. وكل ما كان محرّمًا صار محللًا، وكل ما كان فرضًا، أصبح محرمًا! *الحسن الثاني بن محمد بن كيا بزرك آميد
لما مات الحسن الصبّاح، خلفه كيا بزرك آميد، الذي كان أكثر تسامحًا وأقلَّ دموية من الصبّاح؛ ليخلفه من بعده ابنه محمد بن كيابزرك الذي كان مهتمًّا بالدعوة للإمام، وفرض الاحترام الخارجي للفرائض الإسلامية، ثم حدث التمرُّد الكبير الذي زلزل أركان الإسماعيلية النزارية، على يد الحسن الثاني بن محمد، والذي تولى الحكم في عام557هـ / 1162م، وبدأ بالتخفيف عن الناس اتباعهم الحازم للشريعة، ثم ادّعى على رؤوس الأشهاد بعد عامين ونصف من توليه الحكم، وتحديدًا في رمضان 559هــ، أنَّه إمام العصر، وابن الإمام السابق، ومن ثمَّ أعلن قيام القيامة، وتعطيل الشريعة، وإباحة المحرمات، وتحرير أتباعه من أعباء الدين؛ فتهلل الناس، ونادوه بالمخلّص، وشرعوا يعزفون بالمزاهر والنايات، ويشربون الخمر نهارًا جهارًا في احتفالاتٍ دامت 10 أيام وعرفت بعيد القيامة.
في سبتمبر (أيلول) الماضي ولأول مرة في تاريخ المملكة التي تمنع النساء من المشاركة في الأحداث العامة أو حضور المباريات الرياضية منعًا للاختلاط بين الجنسين، وتُعد واحدة من أكثر البلاد تشددًا في الفصل بين الذكور والإناث في المدارس والجامعات وكافة أنشطة الحياة الأخرى، سُمح بالاختلاط بين الرجال والنساء في استاد الملك فهد الدولي بالعاصمة الرياض إبان احتفالات اليوم الوطني السعودي.
الأمر الذي لم يتوقف داخل أسوار استاد الملك فهد؛ إذ خرج المحتفلون رجالًا ونساءً إلى الشوارع يحملون الأعلام السعودية، في تظاهرة احتفالية غاب عنها رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المعروفون داخل المملكة؛ ليتبع ذلك بعد حوالي أسبوع عودة الطرب إلى التلفزيون السعودي الرسمي عبر إذاعة حفلة غنائية للمطربة المصرية أم كلثوم، في تطور نوعي ملحوظ غاب عقودًا عن المملكة.
فيما أعلنت هيئة الترفيه التي استحدثها الأمير الشاب كجزء من رؤية 2030 التي تهدف إلى عدم الاعتماد على الاقتصاد النفطي عن إقامة حفلات غنائية لمطربين ومطربات عرب وأجانب داخل المملكة، منها حفلات غنائية للمطربة بلقيس (للنساء فقط)، وعبادي جوهر، ونبيل شعيل، بالإضافة للفنان السعودي الكبير محمد عبده، وقام الموسيقار اليوناني «ياني» بإقامة أربع حفلات موسيقية ما بين جدة والرياض، وأحيا الفنان العراقي كاظم الساهر حفلتين في جدة والرياض أيضًا.
كما أعلنت الهيئة أيضًا عن السماح بفتح دور للعرض السينمائي داخل المملكة، والموافقة على إصدار التراخيص للراغبين في دخول هذا القطاع بعد أربعة عقود من غلقها.
وفي فبراير (شباط) الماضي أطلقت الهيئة العامة للترفيه روزنامتها الخاصة بعام 2018، واحتوت على عدد غير مسبوق من الفعاليات الحيّة هذا العام، يصل إلى 5 آلاف فعالية متنوعة، ما بين عروض حية ومهرجانات، وحفلات غنائية وفنية، موزعة على 56 مدينة في جميع أنحاء المملكة السعودية، كما كشف رئيس الهيئة عن البدء في بناء دارًا للأوبرا بمدينة جدة.
قبل أيام حضر الشيخ عادل الكلباني، إمام الحرم المكي السابق، وإمام أحد مساجد الرياض حاليًا، افتتاح أول بطولة رسمية للعبة «البلوت»، والتي ينقسم حولها علماء الدين؛ إذ يرى البعض أنها نوعٌ من أنواع القمار المحرَّم، ويرى الآخرون أنها لعبة شعبية مباحة، وألقى الكلباني خطبة وصفها البعض بأنها خطبة عصماء على حوافّ طاولات الميسر و«الكوتشينة»، حثَّ فيها المتسباقين على البعد عن الحقد والبغضاء، والتنافس بشرف.
وعندما ضجَّت مواقع التواصل الاجتماعي بانتقاد الشيخ بعد تداول صورًا له وهو يوزِّع أوراق اللعب على بعض المتنافسين الذين قاسموه الطاولة من لاعبي كرة القدم السعودية المشاهير: يوسف الثنيان، وفهد الهريفي، ومحمد الدعيع، وأنه سقط من أعينهم، رد عليهم الكلباني قائلًا: ما أبركها من ساعة. فيما ذكره البعض بفتوى الشيخ ابن باز، والذي حرم لعبة البلوت، وإن كانت بلا عوض.
وتماشيًا مع الانفتاح الذي يدعو له ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أعلنت المملكة في فبراير (شباط) الماضي ترخيص لعبة البلوت أو ما يعرف بالكوتشينة أو الورق، وتخطت هذا الترخيص إلى إقامة بطولة رسمية للعبة التي ظلت محرَّمة لعقودٍ طويلة، على أن يحصل الفائز في البطولة على جائزة قدرها نصف مليون ريال سعودي، بالإضافة لكأس يحمل اسم البطولة، بينما يحصل صاحب المركز الثاني على 250 ألف ريال، والثالث على 150 ألف ريال، و100 ألف لصاحب المركز الرابع.
أما من رفض من الإسماعليين هذه القيامة، وتمسك بفرائضه، فقد استخدم الحسن الثاني ضدهم أشد العقوبات، من أجل تحريرهم قسرًا من الشريعة!
عندما تم تقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تهلل الكثيرون ممن كانوا يرون في رجال الحسبة شرطة مجتمعية ودينية تحد من حريتهم الشخصية، لكن كثيرين أيضًا رأوا في ذلك نهاية العالم وقرب قيام الساعة؛ باعتبار أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصون الأعراض، وتحافظ على هيبة الدين، وتمنع «تفشّي الفسوق».
أما بعد إقامة الحفلات الغنائية في المملكة، والسماح للنساء بقيادة السيارات، وتفشِّي الاختلاط بين الرجال والنساء في الساحات والمتنزهات، فيبدو للبعض أن روح الحسن الثاني بن محمد بن كيا بزرك آميد قد حلّت على المملكة في جسد ابن سلمان؛ فأبطلت الشريعة، وجعلت كل ما كان محرمًا لعقود طويلة حلالًا.