فعّل تحالف العدوان على اليمن عملياته العسكرية باتجاه مدينة الحديدة منذ أسبوع، علماً أن القوات الملتحقة بـ«التحالف» لم تتوقف عن جهدها العسكري منذ بداية الهجوم على الساحل الغربي أوائل شهر رمضان الماضي. وسائل الإعلام والمسؤولون الخليجيون قالوا إن تصعيد العمليات العسكرية هدفه إسقاط الحديدة، بعد تمنّع وفد صنعاء عن الحضور إلى مشاورات جنيف الأسبوع الماضي. وهذا ما أكده، أمس، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، في تغريدة على «تويتر»، اعتبر فيها أن «تغيّب الحوثيين عن مشاورات جنيف دليل آخر على أن تحرير الحديدة هو ما يلزم لإعادتهم إلى رشدهم والانخراط بشكل بنّاء في العملية السياسية».
بالنسبة إلى دول الخليج المُنخرِطة في الحرب على اليمن، السبيل الوحيد لجلب صنعاء إلى التفاوض هو إخضاعها عسكرياً، وإجبارها على تسوية سياسية تُملَى من خلالها الشروط الخليجية المعروفة، والتي على أساسها تُشنّ الحرب. والتسوية، بالمفهوم الخليجي، هي يمن مهزوم وتابع، مُقيَّد القوة والإرادة السياسية، ومنزوع السلاح الدفاعي، إضافة إلى تجفيف مصادر ثروته الطبيعية والاقتصادية، والسيطرة على موقعه الحيوي والاستراتيجي بدعوى الحفاظ على الأمن الملاحي والإقليمي، وقد أضاف مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، نهاية الأسبوع الماضي، الأمن الأوروبي من ضمن تأثيرات الأزمة اليمنية. بمعنى آخر، يريد الخليج فرض نموذج عدن الراهن على صنعاء وبقية المحافظات اليمنية. وهو نموذج الفوضى، والفلتان الأمني، وغياب القانون، والبسط على الأراضي العامة والخاصة من دون وجه حق، وفقدان مظلة الأمان الاجتماعي، والتجاهل السياسي، وانهيار الوضع الاقتصادي، وسطوة العصابات المسلحة التي تتقاتل في ما بينها على أبسط الأمور وأتفهها. وما التصفيات الجسدية، والقتل من أجل القتل، وتخيير كوادر المجتمع الدينية والمدنية والنخبوية والسياسية والعسكرية والأكاديمية بين الإذعان والخضوع أو القتل، وخطف الأطفال واغتصابهم ومن ثم قتلهم، إلا تجلّيات لذلك النموذج، الذي لا تتوقف بشاعته عند حدود ما سبق، بل تتعدّاها إلى تعمّد إيقاف الخدمات الضرورية في الحياة، والتجويع، والإذلال الرخيص، والتلاعب بلقمة العيش ورغيف الخبز، والتحكّم في مرافق البلد البحرية والجوية والبرية.
استمرار الرهان على إخضاع اليمن وقيادته السياسية ينمّ عن جهل بطبيعة المعركة
تجدّد معركة الحديدة دليل على أن «التحالف» بات لا يملك خيارات، وهو يفعّل خيارات سابقة على رغم فشله المدوّي فيها. واضطراره للتصعيد هو محاولة للخروج من الجمود، وهروب من تهمة عبثية الاستمرار في الحرب على رغم التكلفة المعنوية والمادية الباهظة. وتُظهر تصريحات قرقاش حراجة الموقف الخليجي، والشعور بالضيق نتيجة الإخفاق الميداني وانسداد الأفق السياسي، حدّ تعليق الآمال على أي خرق عسكري ولو محدود، رغم أن الحرب سجال وكرّ وفرّ، وتتقلّب نتائجها بين ساعة وأخرى. وتندرح تصريحات قرقاش، أيضاً، في سياق يحكم النمط المتعجّل في إدارة المعركة. والحقيقة أن الاستعجال في الترويج لخروقات ليست ذات قيمة فعلية على أنها انتصارات كبيرة، يكشف عن جهل هؤلاء الأمراء والمسؤولين بطبيعة الشعب اليمني، وقيادته التي أحسنت إدارة ملحمة الصمود العسكري والسياسي والاجتماعي في وجه تحالف تُعتبر دوله من أغنى دول العالم، بالاستفادة من موارد القوة وردم مواضع الضعف لديه. واستطاعت أيضاً إدارة البلد بالحدّ الممكن، في ظروف اقتصادية وسياسية صعبة للغاية، وفي ظلّ حصار محكم يمنع وصول العون، بما فيه المساعدات الإنسانية، من الدول الصديقة أو الحليفة إلى اليمن، وهذا ما أكدته التقارير الدولية وآخرها تقرير خبراء الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان نهاية الشهر الفائت.
كذلك، استمرار الرهان على إخضاع اليمن وقيادته السياسية، وجلبها إلى المفاوضات بالشروط الخليجية من خلال إحداث خروقات عسكرية في الجغرافية اليمنية، ينمّ أيضاً عن جهل بطبيعة المعركة، وعجز عن فهم الحقائق التاريخية التي تؤكد أن اليمن عصيّ على السقوط مهما تكاثرت عليه الجيوش، ولن تكون حشود الخليج من الجيوش المستأجرة وما توافر لها من إمكانات استثناءً. وبغض النظر عما إذا حصل خرق في مثلث الكيلو 16 جنوب شرقي مدينة الحديدة، وسيطرت عليه القوات الغازية، أم لم يحصل، بل لو حصل وتوسّع الخرق إلى أبعد من ذلك، فإنه لن يغيّر شيئاً في المعادلة السياسية، وسيطول انتظار الأمراء والمسؤولين الخليجيين كثيراً. وإذا كان موقفهم «ثابتاً»، كما ختم أنور قرقاش تغريدته، من أن «التغيير في الحسابات ضروري لحل سياسي ناجح في اليمن»، فإن موقف اليمن عادل وشجاع، وشرعي بالمفهوم الإنساني والقِيَمي، وهو أكثر ثباتاً ورسوخاً بالاستناد إلى التضحيات العظيمة لرجاله ونسائه وأطفاله، ولم يعد بمقدور أحد التنازل عن هذه الحقوق مهما تعاظمت التضحيات.