على مدار 70 عاماً على الأقل، ومنذ الحرب العالمية الثانية، يتم التعامل مع الدولار باعتباره عملة الاحتياطي النقدي العالمية، حيث تستخدمه الشركات الخاصة في المعاملات الدولية، وتحتفظ به البنوك المركزية بكميات كبيرة ويعدّ تداول السندات الأمريكية هو الأكبر في العالم، كل هذه النتائج جعلت من الاقتصاد الأمريكي يستفيد من عملته في التحكم بالدائرة الاقتصادية العالمية، إلا أن عدداً من الأحداث المتتالية دفع عدداً من المحللين للتساؤل إلى أي مدى سيبقى الدولار العملة المهيمنة على الاقتصاد العالمي، وما إذا كان مرناً بما فيه الكفاية ليتجاوز الأحداث المستقبلية.
في 13 سبتمبر 2018 أكد الرئيس بوتين في كلمة على هامش منتدى الشرق الاقتصادي، أن الانتقال للتعامل بالعملات الوطنية مع الدول الأخرى ليس مسألة سياسية، وإنما اقتصادية، وأضاف هناك خطر عند استخدام العملات الوطنية في التجارة، لكن ألا توجد مخاطر عند استخدام الدولار؟ 20 تريليون دولار الدين العام الأمريكي، وهذا يشكّل ضغطاً على الدولار، ماذا سيحدث في المستقبل؟ لا أحد يعلم، إذ لا توجد إجابة على هذا السؤال، هناك مخاطر في كل مكان، ويجب تقليصها، لذلك من الضروري تنويع حساباتنا وأنشطتنا.
قلق بوتين عبّر عنه أكثر من مرة قادة العالم، حيث كثرت الدعوات مؤخراً للابتعاد عن العملة الأمريكية في التجارة الخارجية والحدّ من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، نظراً لسياسة العقوبات التي تتبعها واشنطن وحرب الرسوم الجمركية التي تنتهجها مع دول العالم، هذه التصريحات دفعت إلى التساؤل عن إمكانية حذف الدولار من المعاملات التجارية؟ بعبارة أخرى ما هي القدرات والقيود لاستخدام العملات الوطنية في المعاملات التجارية وحذف الدولار منها؟
القيود على المبادلات بالعملات الوطنية
إن أهم وأبرز القيود لحذف الدولار من المبادلات والمعاملات التجارية بين البلدان هو الخلفية التاريخية للدولار الذي يعدّ عملة الاحتياطي النقدي العالمية، في الواقع، وفي سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أسست أمريكا عام 1944 نظام الصرف الأجنبي، عرف بنظام بريتون وودز وظل هذا النظام متماسكاً حتى أوائل السبعينات، حيث وقعت الأزمة الاقتصادية في أمريكا ما دفعها إلى إعادة النظر في هذا النظام والتخلي عن الكثير من التزاماتهم تجاهه، ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يعتبر الدولار العملة الأولى في العالم، ومن هنا إنّ حذف الدولار من المعاملات المالية في العالم صعب جداً ولا تستطيع دولة واحدة باستخدام عملتها الوطنية حذفه.
ومن ناحية أخرى، أظهرت التجربة أن العقبات التي تعترض تنفيذ المعاهدات النقدية الثنائية كثيرة، وهي تنقسم إلى قسمين، القسم الأول يرتبط بالمباحثات السياسية والاقتصادية التي ستحدث قبل توقيع الاتفاق بين البلدين، إضافة إلى خوف أحد الأطراف من توقيع هكذا معاهدات خاصة مع دولة عملتها الوطنية غير ثابتة، أما القسم الثاني من العقبات فيتعلق بتوقيع اتفاقية تبادل العملات وفتح الحسابات المتبادلة بين البلدين، وهنا فإن أغلبية التجار لا يبدون رغبتهم بالتعامل بهذه الاتفاقيات التي يرون فيها مخاطر كثيرة على مصالحهم ويرغبون في العمل على أسس ثابتة ومطمئنة، ونذكّر هنا ما قاله ألكسندر غابويو حول الاتفاقية الروسية الصينية: أنه ” حتى الآن غير معروف عدد الشركات الصينية والروسية التي ستلتزم بهذه الاتفاقية، خاصة أنها مليئة بالمخاطر”.
القدرة على حذف الدولار من التبادلات التجارية
يمكن اعتبار الإرادة العالمية لمكافحة تجاوزات دونالد ترامب واستخدام الدولار كوسيلة لممارسة الضغط الأمريكي على البلدان الأخرى أهم قدرة على استبدال العملات الوطنية في البورصات بدلاً من الدولار، ففي الوضع الراهن، وبسبب السياسات الراديكالية والحرب الاقتصادية التي يعتمدها ترامب مع القوى الاقتصادية الكبرى، هناك إجماع على ضرورة الخروج من الضغوط الاقتصادية الأمريكية، والتي جزء كبير منها يتعلق بالسياسة النقدية من خلال استخدام الدولار.
من ناحية أخرى، تعدّ الأزمة المالية العالمية السابقة واحدة من أهم الأسباب التي تدفع الحكومات جدياً إلى التفكير بسحب الدولار من المعاملات التجارية والمعاهدات النقدية، وعلى سبيل المثال، بعد الأزمة المالية في عام 1997 التي ضربت جنوب شرق آسيا (دول منظمة أسيان إضافة الى الصين وكوريا الجنوبية واليابان)، عُقدت عدة اجتماعات لدراسة أسبابها وإيجاد حلول من أجل إنقاذ اقتصادات الدول من أي أزمة اقتصادية مشابهة في المستقبل، وتوصّل المجتمعون إلى اتفاق باعتماد العملات المحلية في المبادلات التجارية من أجل تخفيف أثر العملات القوية كالدولار واليورو على اقتصادات بلادهم.
الاستفادة من الاحتياطي النقدي في المنطقة، وذلك عبر استنساخ فكرة الاتحاد الأوروبي في مختلف مناطق العالم، مثل غرب آسيا، أمريكا الجنوبية وشرق آسيا حيث سيتفق الجميع على اعتماد عملة جديدة موحدة بعد التوصل إلى اتفاق فيما بينها وستقوم هذه الدول بالتعامل بهذه العملة في معاملاتها التجارية والمالية، وهنا يرى اقتصاديون أنها خطوة مهمة على طريق حذف الدولار من المعاملات المالية.
إذن هناك إمكانية لحذف الدولار من سوق المعاملات التجارية، إنما يحدث ذلك تدريجياً وليس دفعة واحدة، واستناداً إلى حقيقة أن الخبراء الاقتصاديين في الصين وروسيا قد اقترحوا في الوقت الحالي أن تتم مبادلة بعض السلع الأساسية للمعاملات بالعملة الوطنية مثل اليوان أو الروبل، ومن بين هذه السلع النفط حيث تبلغ قيمته التجارية السنوية 14 تريليون دولار، وهي تجري على أساس الدولار، وبالنظر إلى أن روسيا هي أكبر مصدّر للنفط والصين هي أكبر مستورد له، سيكون لقيامهم بهذه الخطوة أثر كبير على الدولار وسيشكل صدمة هائلة لقوة واشنطن المالية.
ختاماً.. ووفقاً لأحدث البحوث الاقتصادية، فإن نهاية سيطرة الدولار على الأسواق العالمية لن تتأخر، وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الأمريكي “باري انشيغرين”، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا والمتخصص في أنظمة التبادل العالمي، في كتابه الذي يحمل عنوان “متى تعمل العملات العالمية: الماضي والحاضر والمستقبل؟” أن أيام الدولار، كعملة الاحتياطي النقدي، ستنتهي “قريباً وليس على المدى الطويل”.