بدر نجران..!
بدر نجران..!
تعالت أصوات مكابح “البوابير”، وهي توقف عجلاتها الكبيرة، ليتقافز من عليها بذعر، قيل أنها عشرة بوابير ، وقيل أكثر..تلفَّت الضحايا حول أنفسهم، يستكشفون المكان الجديد، وكأنهم جلائبَ في سوق للعبيد، يسأل الواحد منهُم صاحبه:
-أهذه نِهمْ؟
فيجيبه المذعور الآخر:
-بل قالوا لي أنها الجوف!
يهمسُ ثالث من وراءهم ، وقد أدخلَ نصف سبابته في أنفه وقال:
-إنها الحديدة يا بهائم.
ويقطعُ تهامسهم صوتَ ضابطٍ سعودي، وقد اعتلى سطحَ أحد الأطقم، وفي يده ميكرفون صغير:
-يا رجال، لا تتفاجأوا بالمكان، فكلنا ضد الحوثي، من وارسوا إلى الرياض..
همسَ الثاني في أذن الأول وقال:
-وماهي وارسو؟
أجابه بصوتٍ خفيض:
-وارسوا يا ثور التي ظهر فيها وزير خارجية الفنا…عفوا..عفوًا..وزير خارجية الشرعية بجوار نتنياهو.
-ومن هو نتنياهو؟
-ارقد ارقد..خلينا نسمع..هل هناك زلط والا بس “هدرة ووهدرة للوسط”
يرد عليه وقد بدت عليه ملامح الطمع:
-على ربك يصدقوا هذه المرة..قد لي ستة أشهر في مارب ما شفت ريال.
يرتفع صوت الضابط السعودي:
-تلفتوا حولكم..فلستم وحدكم، فهناك السوداني والسنغالي والكولومبي والبحريني والسعودي وال… وكادَ أن يسرد بقية الجنسيات المرئية غير المرويَّة..
أكملَ حديثه، بعدَ أن همس في أذنه رجلٌ أشقر الشعر، حليق الشارب واللحية، لا يبدو عليه أثر السفر:
-نريد أخذ الثأر لإخواننا البريطانيين الذين قتلهم اليمنيين ..عفوًا الحوثيين.. غدرًا وخيانة وهم في القاعدة العسكرية المحمية..نريد أخذ الثأر للضباط والجنود السعوديين في عسير وجيزان..نريد أخذ الثأر للقادة اليمنيين بحيبح والأربعة الذين معه في البيضاء..نريد أن نأخذ الثأر لإخوانكم المشايخ في البعسيسة.. اقتربَ منه أحد الضباط اليمنيين من ذوي الكروش المنتفخة وقال باستحياء(العبيسة يا فندم).
رد الضابط السعودي بعد أن حرك وسطه بطريقة ملفتة وقال مبتسمًا:
-البعسيسة أو العبسيسة..المهم نأخذ الثأر.
ثم رفعَ رأسه إلى السماء، وأطلق يده على طولها إلى الأعلى وقال:
-انظروا كم هي الطائرات التي سترافقكم في هجومكم..ثم أنزل يده وأشار إلى عشرات المدرعات، ومئات الأطقم المتوقفة وقال:
-وانظروا إلى هذا العتاد الضخم، والذي جئنا به خصيصًا لدحر الحوثي من أرضنا المباركة.
سلَّمَ الميكرفون لضابطٍ أسوَدْ، ذا منخرين عريضين، وعيون حمراء، وكرشٍ متدلية..فقال بلا بسملة ولا تحية:
-يازول نحنا جينا نغاتل، ما مهيم جينا لشنو..أصُّو ما تهرب، كان شنو ما كان، يجيك طيران مسير..طيران مطير..طيران مخير..طيران مجنزر..أصُّو ما تتحرك من مكانك..تموت تاكلك الكلاب..تاكلك القطط..أصُّو ما تتحرك..أي زول يهرب الطيران السعودي زاتو بيلاحغو ويقتلو..خلاص مافي رحمه..كفاية اللي سواهو الحوسي فينا في جيصان..تزكروا يا اخواننا عصمان وعمسيب، وكاروري، وداموك وعليلة وطايوقة، وجقر والدغور والبعشوم، والدعيته، وود حناية، وود جياش، وخطاب وود غريبة..
أخذ الضابط السعودي الميكرفون بعد أن وجد سلسلة السودانيين القتلى لن تتوقف وقال:
-أنا عارف كلكم بتسألوا أين الفلوس؟
صاحَ الجاثمون كالبغال بصوت واحد:
-أيوه أهم شيء الفلوس.
أجابهم:
-الفلوس بعد المعركة، ومن تقدم غنم..وأريد أقلكم شيء مهم..طيراننا قصف هذه المسافات التي أمامكم بآلاف الغارات، وستجدون الطريق سالك فلا تخافوا.
كان الطيران يحلق، ويقصف بشدة على أهدافٍ بعيدة.. وانتظم الجنود في كتائب متعددة يتدارسون خطط الهجوم الكبير والواسع، والذي كما يقول القادة لم يحدث مثله، وسيكون الكاسح الماسح …
وفي الطرف الآخر..فوق ربوةٍ عالية، بجوار صخرة كبيرة..كانت هناك حلقة قرآنية تردد آيات الله، على ألسنة يمنية خالصة مخلصة رطبة.. بعدها تم تدارس الموقف..تحدث أحدهم:
-لقد ورد تفصيل اجتماعهم، في معسكر البقع(قبالة نجران) وحشدهم الكبير، وما دار بينهم… واصحابنا في أتم الاستعداد.
هز القائد رأسه وكأنه رادرا يمسح الفضاء كله وقال:
-وما إفادة الصقور؟
أجابه مجاهد آخر بنصف ابتسامه:
-تم رصد الإحداثيات بدقة 100%
يمسكُ القائد المجاهد اليمني جهازة ويضغط أحد الأزرار ويقول أربع كلمات لا أكثر:
-كلا سوف تعلمون!
وما هي إلا خمس ثوان..حتى يشق السماء صاروخ بدر 1 بي، وينطلق في مسار مستقيم، وبعد لحظات..يرن جهاز القائد بصفير متقطع، ومنادٍ ينادي:
-تم الأمر وأنجز الطلب، والحرائق في كل شبر في المكان.
لقد هبط الصاروخ هبوطًا اضطراريًا وعاجلاً، حين اشتمَّ روائحَ الخيانة، وشاهدَ ألوان المهانة..تتمدد على مساحةٍ واسعة..في أرض نجران الطاهرة..
هبطَ بحممه وشظاياه الملتهبة ليطهر الأرضَ من رجس الحثالات، ويحوِّل تلك اللحوم التي نبتت من سُحتٍ إلى شواءٍ شهي للسباع والضباع، تطاير الصاروخ في كل مكان ليلتهم مئات المرتزقة وعشرات المدرعات والآليات..اختلط الأبيض الأجنبي، بالأسود المتذبذب، بالأسمر الرخيص…
مزق الصاروخ جمعهم المشتت، وأفنى عتادهم المستورد، ونثر كروشهم المنتفخة، وهشم جماجمهم الخاوية…
بعد اشتعال الحرائق، وحفلة النار الواسعة…
هبطت عشرات الطائرات المروحية، وأقبلت سيارات الإسعاف في طوابير طويلة، لتجمع شتات ما مزقه بدر، وتلملم ما أحدثته نار سقر…
فسلام الله على الأيد التي صنعت، وعلى الأعين التي رصدت، وعلى الأزنُد التي سددت.