المحاضرة الرمضانية الرابعة لقائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي (نص)
مصرع وإصابة عدد من المرتزقة في عدد من الجبهات
4 رمضان 1440هـ الموافق 9 مايو 2019م
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الحقُ المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ وباركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
وارض اللهم بِرضاكَ عن أصحابِه الأخيارِ المُنتجبين وعن سائرِ عِبادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وتقبّلَ اللهُ مِنّا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمالِ، اللهم اهدنا وتقبل منّا إنكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
في سياقِ الحديثِ عن أهميةِ الاستجابةِ للهِ سبحانه وتعالى والطاعةِ لهُ فيما وجَّهنا إليهِ وأمرَنا بِه والانتهاءِ عمَّا نَهانا عنهُ وما يُمثله ذلك من أهميةٍ بالنسبةِ لنا نحن باعتبارِه ُيشكلُ وقايةً لنا من كلِ ما نسعى بالفطرةِ إلى أن نتوقى منه من الشرِ والعذابِ والهَلاكِ والخُسران، وباعتبارِه أيضاً يُمثلُ الطريقَ في الوصولِ إلى ما وَعَدَ اللهُ بهِ سبحانه وتعالى من الخيرِ والفَلاحِ في الدنيا أولاً ولصلاحِ حياتِنا فيها، وللآخِرةِ لمستقبلِنا الأبدي والدائمِ الذي لا نهايةَ له.
جاءَ الحديثُ أيضاً عن الجزاءِ عن الوعدِ والوعيدِ الإلهي، والإيمانُ بوعدِ اللهِ ووعيدِه في الدنيا وفي الآخرةِ جانبٌ أساسيٌ من الإيمانِ وهو جزءٌ من الإيمانِ بالله سبحانه وتعالى، الإيمان بصدقِ وعدِهِ ووعيدهِ، الإيمانُ بعزتِهِ أنَّه العزيزُ وبحكمتِه أنه الحكيم، ولأنَّه العزيزُ ولأنَّه الحكيمُ جلَّ شأنُه فهو لا بدَّ أن يُجازيَ العُصاةَ، لا بدَّ أن يفرِّقَ بين المُحسِنِ والمُسيئ، والمطيعِ والعاصي من عبادِه.
وهو أيضاً الذي رَسَمَ لِعبادِه في هذهِ الحياةِ مَنهجاً ليسيروا عليهِ في حياتِهم ولم يخلُقْهُم عَبَثاً، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون ـ 115)، هكذا يقولُ اللهُ جلَّ شأنُه في كتابِه الكريم.
لو كانت الحياةُ هذهِ قائمةً على أساسِ الانفلاتِ والفوضى ولا جزاءَ ولا حِسابَ ولا عِقابَ لكانت عبثاً، لكانت عبثاً، اللهُ سبحانه وتعالى هو الحكيم وهو العزيز ولذلك كان للإيمانِ بالله جلَّ شأنُه، والإيمانِ بوعدِه ووعيدِه والإيمانِ بالآخرة والإيمانِ بأنَّ الله يُعاقبُ ويُجازي في الدنيا، والإيمانِ بِصدقِ نُذُرِهِ ما جاءَ من الإنذارِ عن طريقِ الرُسلِ والأنبياء وما جاءَ في كُتبِ اللهِ سبحانه وتعالى، والاعتبارِ بما يحدثُ في واقعِ هذهِ الحياة من مَصاديقَ للنذيرِ الإلهي من عقوباتٍ على مرِّ التاريخ لأُممٍ تحدّثَ القرآنُ الكريمُ عنها وعِبَرٍ يُشاهدُها الإنسانُ حتى في واقعِ حياتِه في عَصرِهِ وزَمنِه تجاهَ ما يُشاهدُ في واقعِ الحياةِ من أحداث، أمّا في هذا الزمنِ تُنقل لنا الكثيرُ من الأحداثِ عَبرَ شاشةِ التلفزيون، ونكادُ نتمكن من الإطلاعِ على كثيرٍ من الأحداثِ اليوميةِ وبالصوتِ والصورةِ وفيها الكثيرُ من العِبر والكثيرُ من الدروس.
مَرجِعُنا إلى اللهِ سبحانه وتعالى، نحنُ في هذه الحياةِ في قبضتِه وتحتَ سُلطانهِ ومَرجِعُنا إليِه، وللحسابِ والجزاءِ، والموتُ كما ذكّرنا اللهُ سبحانه وتعالى هو بدايةُ الرجوعِ هذا نحوَ اللهِ سبحانه وتعالى، ونهايةٌ للفرصةِ للعملِ في هذه الحياةِ وللإنابةِ إلى اللهِ سبحانه تعالى، هذا أهمُ ما في الموتِ، الموتُ يعني الموت في حدِّ ذاتِه لا يُعتبرُ عقوبةً ولا يُعتبرُ أمراً مخيفاً لأنه ليسَ بنفسِه عذاباً يُعذبُ اللهُ به الناسَ، يموتُ الأنبياءُ ويموتُ الصالحون ويموتُ الكُل، كلُ الناسِ يموتون، ولكن بالنسبةِ لمن أضاعوا هذه الحياةَ وفوّتوا هذه الفرصةَ فمعناهُ أنه أُغلقَ المجالُ أمامَهم نهائياً عن تداركِ ما فوّتوا وفرَّطوا فيهِ في حياتهِم وهنا الخسارةُ وهنا الخطورةُ الكبيرة.
الذين حَسبُوا حسابَ الرجوعِ إلى الله آمنوا بوعدِه ووعيدِه وبالجزاءِ في الدنيا والآخرةِ وبالتالي كانوا يخافون من عذابِ اللهِ سبحانه وتعالى إن فرّطوا أو عصوا اللهَ جلَّ شأنُه أو انحرفوا عن نهجهِ وتوجيهاتِه استفادوا من ذلك، خَشيتُهم من اللهِ وخوفُهم من عذابِه إن فرّطوا أو تورطوا بالعصيانِ كان له أهميةٌ كبيرةٌ في استقامتِهم، عدمُ غَفلتِهم عن الحسابِ والجزاءِ عن المستقبلِ الأبدي الكبيرِ كان له تأثيرٌ إيجابيٌ في استقامتِهم وبالتالي في نجاتِهم، وهذه هي ثمرةُ الخوفِ من اللهِ سبحانه وتعالى ثمرةٌ إيجابيةٌ ليست حالةً سلبيةً، حتى على نفسيةِ الإنسانِ لا تُمثل حالةً سلبيةً، اللهُ يقولُ لنبيِه صلواتُ اللهِ عليهِ وعلى آلِه {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الزمر ـ 13)، فهذه المخافةُ من عذابِ اللهِ سبحانه وتعالى كانت عاملاً مُهماً في الاستقامةِ وعاملاً مُهماً في النجاةِ شكَّلتْ وقايةً من الوقوعِ في عذابِ اللهِ سبحانه وتعالى.
في القرآنِ الكريم يأتي الثناءُ على فئةٍ من المؤمنين تميزَتْ باستشعارِها الدائمِ لِقُربِ لِقاءِ اللهِ سبحانه وتعالى، هؤلاء الذين يقولُ عنهم في القرآن الكريم {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة ـ 46)، يستشعرون بشكلٍ مستمرٍ قُربَ لقاءِ اللهِ سبحانه وتعالى فهم لا يعيشون الغفلةَ عن ذلك يدركون أنَه من المتوقعِ من المُحتملِ أن يكونَ لقاءُ اللهِ في هذا اليوم أو في هذه الساعةِ في الغدِ في كلِ يوم، وبالتالي هُم في حالةِ انتباهٍ ويقظةٍ واستشعارٍ لِقُربِ لقاءِ الله سبحانه وتعالى، يُهيئهم هذا لماذا؟ للاستعدادِ المستمرِ، للسعي لأن يكونوا في جُهوزيةٍ لهذا اللقاءِ، لهذا الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وأنَّهم إليه راجعون.
ويأتي الحديثُ عن الرجاءِ وعن الاستشعارِ لقُربِ لقاءِ الله الذي يترك أثراً عظيماً في جانبين، في جانبِ الانتباهِ من المعاصي، الانتباهِ لما يُسببُ سَخطَ اللهِ وعذابَ اللهِ وغضبَ اللهِ جلَّ شأنُه، والاهتمامِ أيضاً والسعي لما يُوصِلُ إلى ما وَعدَ بهِ من الجزاءِ العظيمِ والفوزِ العظيمِ والخيرِ الكبيرِ والأجرِ الكبيرِ، فَهُم يعيشون حالةَ الرجاءِ والأملِ والتطلعِ إلى ما عندَ اللهِ سبحانه وتعالى من الخيرِ العظيمِ والواسعِ إلى ما وَعدَ بهِ من رِضوانِه وجَنتِه والجَزاءِ الحَسَن، وأيضاً ما وَعَدَ بهِ في الدنيا من العِزةِ من النصرِ من الكرامةِ من الحياةِ الطيبةِ، فهم يعيشون الأملَ والأفُقَ الواسعَ في حياتِهم متطلعين إلى ما عندَ الله سبحانه وتعالى، آمالٌ واسعةٌ ولكن في مَحلِها، لا يعيشون وراءَ الوهمِ والسَرابِ والغُرورِ، آمالٌ مُتصلةٌ باللهِ جلّ شأنُه وبما عندَ اللهَ وبما وَعدَ بهِ اللهُ، وفي الوقتِ نفسِهِ أيضاً حالة من الحَذرِ والخَشيةِ تُساعد على الانضباطِ والاستقامة، وهذهِ هي الحالةُ الإيمانيةُ التي يعيشُ فيها الإنسانُ الرجاءَ والأملَ بالفوزِ العظيمِ لأن يَصلَ إلى أعظمِ خيرٍ وأكبرِ نعيمٍ وأعظمِ سعادة، وفي الوقتِ نفسِهِ أن ينجوَ من عذابِ اللهِ ويسعى للنجاةِ من سَخطِ اللهِ ومن عذابِ الله لأنَّه يُؤمنُ بوعدِ الله وتحتَ هذا العنوانِ كلُ الخيرِ الذي وَعدَ بهِ الله جلَّ شأنُه في الدنيا والآخرةِ، وبوعيدِه، ويَدخل في هذا كلُ العذابِ والانتقامِ الإلهي في الدنيا وفي الآخرة، نستجيرُ بالله من سخط الله.
الصِنفُ الآخرُ همُ الذين يعيشون حالةَ الغفلةِ أو ما قبلَ الغفلةِ، وأكثرُ من الغفلةِ التكذيبُ، البعضُ من البشر كذَّبوا بلقاءِ اللهِ كذَّبوا بالآخرةِ كذَّبوا بالجزاءِ اعتبروا هذه الحياةَ حياةً عبثيةً غيرَ هادفةٍ، وجودٌ هكذا لمجردِ أن نعيشَ في هذه الحياةِ في وضعٍ مادي بحت، وأن نتصارعَ في هذه الدنيا كبشرٍ يأكلُ القويُ منا الضعيفَ ونبقى نتنافسُ ونتنازعُ ونختلفُ ونلهو ونأكلُ ونشربُ كالأنعام.
هؤلاء الذين كذَّبوا بلقاء الله وكذَّبوا بالآخرة كانت نتيجةُ تكذيبِهم هي الاستمرارُ في الغفلة واللامبالاة والعصيان والانفلات، وهذا وِزرُه عليهم، هذا يُشكلُ خطورةً على الإنسان، التكذيبُ بالحقائقِ الثابتةِ والوقائعِ الآتية التي لا رَيبَ فيها لا ينفعُ الإنسانَ بشيء لا يُجديه {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} (القيامة ـ 5)، سعيُ الإنسانِ للتكذيبِ بهذهِ الحقيقةِ الكُبرى بالجزاءِ والحسابِ ليطمئنَ نفسَه في حالةِ الانفلاتِ والفوضى والمعاصي والاتِّباع للشهوات هي حالةٌ لا تنفعُ الإنسانَ بشيء إنما شكَّلت خطورةً كبيرةً عليهِ تُورطهُ تُنسيه الاستعدادَ لهذا المستقبلِ الكبيرِ وتُساعدهُ على الانفلاتِ والضياع، ثمَّ عندما يأتي العذاُب يندمُ الإنسان، والقرآنُ الكريمُ تحدَّث عن خسارةِ هذه الفئةِ من الناس، هذه الفئة أيضاً تشتركُ معها فئاتٌ أخرى من الذين لم يرتقِ إيمانُهم باللهِ ووعدِه ووعيدِه وبالآخرةِ إلى المستوى المطلوب، أي إيمان ضعيف، فعاشوا حالةَ الغفلةِ وحالةَ النسيانِ، وهذه الفئةُ كثيرة حتى بينَ المُقرِّين بوعدِ اللهِ ووعيدِه والمُقرِّين بالآخرةِ ولكن إقرارٌ بإيمانٍ ضعيفٍ وليسَ بيقينٍ وإيمانٍ قوي، هذه الحالةُ التي يعيشُ فيها الكثيرُ من الناسِ هي حالةُ الغفلة والنسيان، أيضا تشكلُ خطورةً كبيرة على الإنسانِ فلا يستعد ولا ينضبط ولا يلتزم ولا يتعامل بمسؤولية ويَحسب حسابَ أعمالِه وما يترتبُ عليها من الجزاء، حالةٌ خطيرةٌ جداً، اللهُ جلَّ شأنُه حذَّر منها في القرآن الكريم قال جلَّ شأنُه {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (الأنبياء ـ 1،2،3)، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، بات قريبا، الوقتُ قريب، الإنسانُ حتى في حياتِه هذه هي حياةٌ محدودةٌ، حياةٌ محدودة تنقضي وعندما تصلُ إلى نهايتِها يُدرك الإنسانُ كم أنها كانت محدودةً وكم كانت خسارتُه في تفويتِ الاستفادةِ منها وكم كانت خسارتُه فادحةً عندما أضاعَ الفرصةَ، ثمَّ الحياة بِكُلِها، حياة على مستوى أمةٍ أو جيلٍ أو على المستوى البشري، أما في واقعنا نحنُ ونحنُ في آخرِ الزمانِ فالمسألةُ أكثرُ اقترابا والآخرةُ باتت قريبةً والحسابُ ليس أمرا سهلا، الحسابُ على الأعمال، الحسابُ على ما عَمِلناه في هذه الحياةِ من سيئاتٍ وما لم نعملهُ في إطارِ مسؤولياتِنا وواجباتنِا، والحسابُ على كلِ ما عَمِلَ الإنسانُ إنْ خيراً فخير وإن شراً فَشر.
اقترَب، لم يعدْ بعيداً باتَ قريباً، والمسألةُ مهمةُ جدا لأنه سيترتب عليها نتائجُ كبيرة، المشكلةُ هي ماذا؟ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}، هذه هي حالةُ الغفلة التي تُنسي الإنسانَ عن أن يُحاسبَ نفسَهُ هُنا في الدنيا ليصححَ وضعيتَه ليُصلحَ عَملَه ليتداركَ ما فاتَهُ لِيُنيبَ إلى ربِه، ليُصوِبَ مَسارهُ لا يكون إلى جهنَّم ليتزحزحَ هنا في الدنيا يتزحزح عن النار.
حالةُ الغفلة حالةٌ خطيرة جدا نتيجتُها بالتالي الإعراض، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}، الإعراضُ عن النذير، الإعراضُ عن العملِ الصالح، الإعراضُ عن التحركِ الجادِ عن تصحيحِ الوضعِ، وأمامَ كُلِ تذكيرٍ من الله سبحانه وتعالى وتنبيهٍ ودلالةٍ على الأعمالِ المُنجيةِ والمفيدةِ والصالحةِ تستمرُ حالةُ الغفلةِ والإعراضِ واللهوِ والانشغالِ الذهني والنفسي بشكلٍ كبيرٍ وراءَ الأشياءِ الهامشيةِ التي كان بالإمكان حتى لو انشغل بها الإنسانُ أن ينشغلَ بها بحجمِها وبمستواها ألَّا تأخذَ كلَّ اهتماماتِه وكلَّ تفكيرِه وكلَّ انشغالِه الذهني والنفسي، يُمكنُ أن تُعطيَها مساحةً، اهتماماتُك اليوميةُ اهتماماتُك المعيشيةُ اهتماماتُك بشؤونِ حياتِك يُمكنُ أن تُعطيَها مساحةً معينةً من التفكيرِ من الانشغالِ الذهني من الانشغالِ النفسي لكن أن يَصِلَ الحالُ بكَ إلى نسيانِ مُستقبلِك الأبدي والدائم ونسيانِ ما بينَك وبينَ اللهِ والنسيانِ للهِ والغفلةِ عن اللهِ وعن الآخرةِ فهذه قضيةٌ خطيرةٌ عليك، خطورتُها كبيرةٌ عليك، وفي الوقتِ نفسِه ليست من الحِكمة أن تنشغلَ بأمورٍ بسيطةٍ كلَ الانشغال كلَ الاهتمامِ وتُعطيها كلَ قلبِك وكلَ مشاعرِك وكلَ تفكيرِك وتغفلَ عن الأشياءِ الكبيرةِ جداً والمهمةِ جداً، فهذه حالة تشكلُ خطورةً عليك، يقول الله في آيةً أخرى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} ( الأعراف من الآية 179)، أمرٌ رهيبٌ وخطيرٌ، الكثيرُ والكثيرُ، عددٌ هائلٌ قد يكونون بالملياراتِ من البشرِ، واللهُ أعلمُ كم من الجِنِّ من الجن والإنس إلى جهنم مستقبلهم إلى جهنم، وكلٌ منّا بحاجةٍ أن يُفكرَ أن يحسبَ حسابَ نفسِه ألَّا يكون من تلك الأعدادِ الكبيرةِ من تلك المليارات الكثيرةِ من البشرِ والأعدادِ الهائلةِ التي ستتجهُ إلى جهنم، لماذا؟ ما هو السبب؟ ما الذي يؤدي بهؤلاء الكُثر إلى أن يكونَ مصيرُهم جهنم؟ ما هو؟ لنحذرْ لننتبهْ حتى لا يكونَ الإنسانُ منهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف من الآية 179)، اللهُ سبحانه وتعالى زَوّدَنا بوسائلَ للمعرفةِ ووسائلَ للتلقي لما يُنذرنا بهِ ويَهدينا إليه بما يصلُ إلينا من هَديهِ وتوجيهاتهِ وإنذارِه ولما نستفيدُ بهِ في واقع حياتِنا ونحن نرى العِبرَ والدروسَ لما يُساعدنا على اليقظةِ على المعرفةِ الصحيحةِ على الانتباه، قلوبٌ وأفئدةٌ نستفيدُ منها فيما نتلقاه بحاسةِ السَمعِ وحاسةِ البصرِ لنخرجَ من حالةِ الغفلة، ولكن إذا لم تستفدْ من هذه الوسائلِ فتنتبه وتتعظ وتحذر فتكونُ النتيجةُ عندَ ذلك هي الغفلةُ، فلا أنت استفدتَ من سَمعِكَ ولا من بَصرِكَ ولا من قلبِكَ و فؤادِكَ وعِشتَ كأنك أصَمٌ لا تسمع وكأنك أعمى لا تُبصر وكأنه لم يكن لك فؤادٌ وقلبٌ يساعدك اللهُ به على الاستيعابِ والفَهمِ فيما يخاطبُك به ويُنذرك به ويُحذرك منه، هذه الغفلةُ هي التي أوصلت الكثيرَ من هؤلاء كثيرا أوصلتهم إلى جَهنّم وأدت بهم إلى جهنّم، حالةٌ خطيرةٌ جداً جداً فالإنسانُ بحاجةٍ إلى أن يعيشَ حالةَ اليقظةِ وحالةَ الحذرِ وحالةَ الانتباه.
في القرآنِ الكريم مساحةٌ واسعةٌ جداً جداً، مئاتُ الآياتِ القرآنيةُ التي حذَّرتْ وأنذرَتْ، القرآنُ الكريم هو كتابُ إنذارٍ وكتابُ بِشارة، والرسولُ صلواتُ الله عليه وعلى أله ورُسلُ الله صلوات الله عليهم بكلِهم كانوا مُنذرين وكانوا مُبشّرين ومنذرين {مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء من الآية 165)، والإنسانُ عندما يعودُ إلى القرآن الكريم ويتأملُه ونحن في هذا الشهرِ المبارك في فرصةٍ مهمة لهذه العودة إلى القرآن والتدبرِ لآياتِه والتأملِ فيما فيه سيزدادُ إيمانا وخوفا من التفريط والإهمال والغفلةِ، وهذا يساعدُ الإنسانَ على الاستقامةِ على الاتجاهِ بشكلٍ صحيحٍ على ضَبطِ مسيرةِ حياتِه بشكلٍ صحيح.
كما قلنا، الفئةُ المؤمنةُ عاشت حالةَ الرجاءِ والأملِ فيما وعدَ اللهُ بهِ، وحالةَ الخَشيةِ والخوفِ والحذرِ من الوقوعِ فيما يُسبب سَخطَ الله سبحانه، اتجهت في آمالِها ورغباتِها ورجائِها إلى اللهِ، فلم تؤثرْ فيها أيُ إغراءاتٍ من جانبِ الآخرين، واتجهت في خوفِها من عذابِ الله سبحانه وتعالى فخافت من ذلك فوقَ كلِ خوفٍ فلم تؤثرْ فيها المخاوفُ من الآخرين.
من أهمِ عواملِ الانحرافِ في هذهِ الحياةِ في المواقفِ والأعمالِ والتصرفاتِ هي إمّا حالةُ الإغراءاتِ والرغباتِ والشهواتِ، وإمّا حالةُ المخاوفِ تُؤثر في الكثيرِ من الناسِ، لو تُصَنِّف وتُحلِل ـ غير التحليلِ السياسي الذي يذهبُ إلى عوارضِ الأشياء ونتائجِ الأشياءِ ولا يُحلل من الواقعِ من مَنبعِ الدوافعِ والأسباب ـ لو تُحلل مواقفَ الكثيرِ من الناسِ من المنحرفين عن نهجِ الله وتوجيهاتِه ممن عبَّدوا أنفسَهم للطاغوتِ حتى في ساحتنا الإسلامية، لو تُصنِّف مواقفَ الكثيرِ من المنافقين من الضائعين من المنحرفين عن نهجِ الله من الذين لم يَزِنُوا مواقفَهم بميزانِ القرآن بميزانِ الحق واتجهوا فيها بدوافعَ أخرى لم يحَسبوا حسابَ أن تكونَ مواقفَ الحقِ التي تُرضي الله وأن ينطلقوا بناءً على توجيهاتِ الله وعلى نهجِه وهَديه، الكثيرُ اتجهوا بدافعِ المطامعِ والرغبات، أطماعٌ في الدنيا، كم الكثيرُ والكثيرُ من الناسِ ممن باعوا مواقفَهم بثمنٍ مادي؟، شخصياتٌ سياسيةٌ كثيرةٌ لأنها تُريدُ أن تحصلَ على أموالٍ معينةٍ باعت مواقفَها، وبالتالي تريدُ أن تحصلَ على رَفاهٍ في المعيشةِ والحياةِ، شخصياتٌ اجتماعيةٌ مشايخ ووجاهات، كثيرٌ من الناس حتى من الأفراد من عامةِ الناس، كثيرٌ من الناس اتجه بدافعِ الحصولِ على مكاسبَ ماديةٍ وباعَ موقفَه، كان هذا هو الدافعُ الرئيسي، لم يحسب حسابَ أيِ مسألةٍ أخرى، آخرون أثَّرتْ فيهم المخاوفُ، خوفُهم من قوى الطاغوتِ والشرِ والإجرامِ والاستكبار أخضعَهم لها أقعدَهم عن طاعةِ الله، آثروا ـ في مقابِل أن يحسبوا حسابَ الآخرين، قوى الطاغوت والشر وما بيدهِا من وسائلِ القتل والدمار ـ آثروا أن يقعدوا وأن يعصوا الله سبحانه وتعالى، أن يخالفوا توجيهاتِه أن يتنصلوا عن المسؤولياتِ التي أمر بها وقعدوا، قعدوا بينما أمرَهُم الله أن يقوموا أن يتحركوا أن يُجاهدوا أن يكونَ لهم مواقفُ رَسمَها في كتابِه الكريم حدَّدها في آياتِه المباركة، أعرضوا عن كلِ تلك الآيات وتجاهلوها، لماذا؟ تحتَ تأثيرِ الخوف تحت تأثير الخوف، ما يُحررُ الإنسانَ من أن يَسقُطَ في صفِّ الباطلِ أو أن ينحرفَ في هذه الحياةِ في أفعالِه وتصرفاتِه تحتَ تأثيرِ الرغبةِ وتحتَ تأثيرِ الطمعِ أو حتى تحت تأثيرِ الخوفِ هو الإيمانُ الصادقُ بِوعدِ اللهِ ووعيدِه، معرفةُ اللهِ سبحانه وتعالى مَعرِفةً كاملةً ومَعرِفَةَ أنَّه العزيزُ الجبارُ المتكبرُ والحكيمُ والذي سيجازي عبادَه على كلِ أعمالِهم وتصرفاتِهم، أنَّ ما تَرغبُ به نفوسُنا وما نطمحُ إليهِ من حياةٍ طيبةٍ من نعيمٍ هو عندَ اللهِ وبأعظمَ من كلِ ما نُؤمِّلُه، أكبرُ حتى من خيالِنا وأكبرُ حتى من طموحاتِنا وأوسعُ حتى من رغباتِنا، نعيمٌ عظيمٌ لا يُساويه نعيم، وللأبدِ لا نهايةَ له، وأن ما يُمكنُ أن نخافَ منهَ أو أن نَرحمَ أنفسَنا ونسعى أن لا تقعَ فيه من العذابِ والشدائدِ هو عذابُ الله سبحانه وتعالى الذي هو أكبرُ عذاب، {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} (الفجر 25 ـ 26)، هذه المسألةُ بحدِّ ذاتِها كفيلةٌ بأن تُصححَ مسيرةَ حياةِ الإنسانِ في أفعالِه ومواقفِه وتصرفاتِه وأن تُحررَه من كلِ التأثيراتِ التي يَسقطُ فيها الكثيرُ من الناس، تأثيرُ الإغراءِ والترغيبِ والشهواتِ، وتأثيرُ المخاوفِ والقلقِ والضغوطِ والتهديدِ والوعيدِ من جانبِ الآخرين، والإنسانُ إذا صحّحَ إيمانَه بوعدِ الله ووعيدِه وتأملَ في آياتِ الله وكتابِه في ما يتصلُ بهذا الجانبِ سيخافُ اللهَ ويخافُ من عذابِ الله فوقَ كلِ شيء ويرغبُ إلى ما عندَ الله فوقَ كلِ شيء ويتحررُ من العبوديةِ للآخرين ومن الخُنوعِ للآخرين والوقوعِ تحتَ تأثيرهم.
يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى في آياتٍ مباركة وهو يذكّرنا بمستقبلِنا الكبيرِ والحَدثِ الهائلِ الآتي الذي لا ريبَ فيه {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43)} (النازعات).
هذا العالَمُ لهُ بدايةٌ وله نهاية، والوجودُ البشريُ أيضاً في إطارِ هذا العالمِ لهُ بداية، وكانت بدايتُه متأخرةً مقارنةً بخلقِ السماواتِ والأرض، ولهُ نهاية، ورأينا الآجالَ طَوت الأجيالَ من قَبلِنا ورحلتْ أُمم، قرونٌ خَلَتْ وذهبت بالكثيرِ من البشريةِ، والقيامةُ آتيةٌ لا ريبَ فيها، نهايةُ هذا العالم ونهايةُ هذا الوجودِ هو بقيامِ الساعة، عبَّر القرآنُ الكريم بتعبيراتٍ وعناوينَ وأسماء متعددةٍ عن هذا الحدثِ الكبيرِ والهائل الآتي الذي لا ريب فيه {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} (النازعات ـ 34).
{الطَّامَّةُ} اسمٌ من أسماءِ الساعة وقيامِ القيامة، {الطَّامَّةُ} هي الكارثةُ الهائلةُ المُدمرة التي ستشملُ كلَ هذا العالم وتشملُ كلَ هذا الوجودِ الذي خَلَقَهُ اللهُ سبحانه وتعالى، وهي أكبرُ حدثٍ هائلٍ منذُ خَلْقِ السماواتِ والأرض، حدثٌ رهيبٌ وهائل جدا يشملُ الأرضَ يشملُ كلَ المجرّاتِ في هذا العالم، يشملُ النجومَ والكواكبَ بكلِها، يشملُ هذا العالَمَ بكلِ ما فيه، يُدمره بالكامل، وحدثٌ هائلٌ جدا ورهيب، ثم بعدَ التدميرِ الكُلي لهذا العالم بكلِ ما فيهِ بمجراتِه بنجومِه بكواكبِه بأرضِه بسمائِه، تُعادُ من جديدٍ صياغةُ هذا العالم وصياغةُ حتى هذه الأرض وتسويةُ هذه الأرض وفقَ مخططٍ إلهي جديدٍ للحسابِ ثمّ الجزاء، {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} هذا الحدث الهائل هذه الكارثة الهائلة جدا، والمدمرة الشاملة التي لا يستطيع أحدٌ أبداً أن يوقفَها أو أن يحولَ دونَها، {الْكُبْرَىٰ}، كبرى هائلة جدا ومدمرة بشكل رهيب جدا، تحدّثَ القرآنُ الكريم عن تفاصيلِ هذا الدمارِ وهذا الخرابِ الذي سَيحلُ بالعالم، وعن حِصةِ الأرضِ من هذا الدمار، وكيف ستنهارُ بالكاملِ كلُ هذه المجرات، ينهارُ كلُ هذا العالمِ بسمائِه وأرضِه، الكواكبُ تندثر، النجومُ تنطفئ وتتلاشى وتتبعثر، الشمسُ وهي الكتلةُ المتوهجةُ والسراجُ الوَهّاج تنطفئُ وتتكورُ وتتلاشى وتتبعثرُ وتتقطعُ، السماءُ كذلك تنشقُ وتنفطرُ ثم تنهارُ كُلياً وتطوى وتتقطعُ بالغَمامِ ثم تنكمشُ وتتلاشى، الأرضُ كذلك، الأرضُ تتدمرُ تدميراً هائلا، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة ـ 14)، واحدة، دكةٌ واحدةٌ تُغيرُ واقعَ الأرضِ بكلِه، تدمرُها تدميراً كليا، فجبالُها تُنسف، كل ما فيها من الجبال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} (طه)، ما بالُك بالعُمرانِ الذي على هذه الأرض، المدن، القرى، المساكن المبعثرة والمُفرَّقة على كوكبِ الأرض، بكلِها تنتهي بكلِ بساطة، وتدميرُها ـ في مُقدمةِ دَمارِ هذه الأرضِ ـ سيكون سريعاً وسهلاً جدا، لأنَّ الجبالَ بكلِها تنتسف، لا يبقى لها أثرٌ، تتحولُ إلى غُبارٍ يتطايرُ في الجو، بشكلِه ولونِه، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل من الآية 88).
البحارُ والمحيطاتُ التي تُغطي مساحةً كبيرة على الأرضِ ما يُقارب 70% أو أكثر فوق الأرض كلُها تتبخرُ وتحترقُ وتُسَّجّرُ وتتلاشى، لا يبقى ماءٌ ولا بحارٌ ولا محيطاتٌ ولا جبالٌ ولا مساكنُ ولا مدنٌ ولا قرى، ضربةٌ واحدةٌ، دَكةٌ واحدةٌ تُنهي كلَ هذه الحالة، مع زلزالٍ عظيم جدا يترافق معها في الأرض نفسها، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا (5)} (الزلزلة)، في بدايةِ القيامة، في بدايةِ زِلزالِها العظيم، يتفاجئ الإنسانُ لكن ويموت، يموتُ من تبقى من البشرِ الذين تأتي القيامة ـ وهي قد اقتربت ـ وهُم على قيدِ الحياةِ يموتون بأجمعِهم، يَصعقُ من في السماواتِ ومن في الأرض إلا من شاءَ اللهُ، يموتُ الجميعُ تنتهي الحياة، ودمارٌ هائلٌ جداً لا يطيقُ أحدٌ أبدا أن يتماسكَ مع قيامِ الساعة وهذا الحدثِ الهائل جدا.
بعد كلِ هذا الدمارِ الذي يُغير مَلامحَ هذا العالمِ تتحولُ الأرضُ إلى ساحةٍ، ساحةٍ مُستويةٍ لا تبقى حتى بشكلِها الكُروي، بل تتحولُ إلى ساحةٍ مستوية، {وَيَسْأَلُونَكَ لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (طه ـ 107)، حتى أبسط عِوجٍ، لا مُنخفضاتٍ ولا مُرتفعاتٍ ولا أماكنَ طالعةً ولا نازلة، بل تتحول إلى ساحةٍ واحدة، إلى عَرَصةٍ واحدة، ويبعثُنا اللهُ من جديد، يبعثُنا لماذا؟ مناسبةُ احتفالٍ واجتماعٍ عادي؟، لا، ذلك اليوم هو يومُ الجَمْعُ الذي جَمعَ اللهُ البشريةَ لهُ وبَعثَها بكلِها، وليس هناك أيُ استثناءاتٍ في عمليةِ البعث، لن يَنسى اللهُ أحداً من خلقِه أبدا، الكلُ سيبعثون بدونِ استثناء، كلُ البشريةِ منذُ آدمَ إلى آخرِ مَولودٍ في هذه البشرية، آخرِ من وضعته أُمُه، الكلُ يبعثُهم اللهُ جميعاَ للحساب، ويأتي الجميعُ بعدَ البعثِ في النفخة الثانية، في الصعقةِ الثانية، في الصيحةِ الثانية، يُبعث الجميعُ قياما، { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر من الآية 68)، يتطلعون إلى ساحةِ الأرضِ وقد أصبحت ساحةً مختلفةً لا مدنَ لا جبالَ، لا قُرى لا أشجارَ، {صَعِيدًا جُرُزًا} (الكهف من الآية 8)، كما قال في آية أخرى في سورة الكهف، صعيدا مستويا، جرزا يابسا، لا نباتَ فيه أبدا، يُبعث الجميع، يحشرُهم اللهُ قياما واقفين، يتطلعون إلى هذا المنظر، يرى الإنسانُ نفسَه بينَ كلِ البشرية، بينَ كلِ البشر، قد خُلقوا بأجمعِهم، اجتماعٌ كبيرٌ جداً لم يسبِقْ مِثلَه اجتماعٌ في واقعِ البشرية أبدا، كلُ الأجيال قد بُعثت واجتمعت وحُشرت، والملائكةُ تتحركُ بالجميع، والداعي من الله يُناديهم لتبدأَ عمليةُ الانتظام والتنظيمِ والتجهيزِ لعمليةِ الحسابِ في تلك الساحةِ الواسعةِ والشاسعةِ والكبيرة، الجميعُ يُحشرون في حالةِ عبوديةٍ لله سبحانه وتعالى، انتهت كلُ تلك الشكليات التي كانوا عليها في الدنيا، القادةُ، الزعماءُ، الملوكُ، الأمراءُ، المتبوعون، خلاص، الكلُ يُحشرون في حالةِ عبوديةٍ واستسلامٍ وخضوعٍ كاملٍ لله سبحانه وتعالى، {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا} (مريم ـ 93)، في حالة من العبودية التامة، لا يأتي أحدٌ مَهما كانَ في هذه الدنيا كبيراً أو متكبراً أو مغروراً أو معظّمَاً، لا يأتي في ذلك اليوم لا بمرافقيه ولا بجيوشِه ولا بأنصارِه ولا يُعاضدُه أحدٌ، لا، يأتي كعبد، {إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم ـ93، 94،95)،، إحصاءٌ كاملٌ للبشريةِ بكلِها لكلِ إنسان، لا نسيانَ لأحدٍ ولا غفلةً عن أحد، ولكن كلُ يأتي كفرد، ليسَ كقائدٍ لهُ جيوشٌ ويُحيطُ به أنصارٌ وحِماية، لا، فردا، بمفردِه، عبدا ضعيفا عاجزا لا يستطيع أن يحتميَ بأحدٍ ولا أن يستنصرَ بأحٍد، ولا أن يُدافعَ عنه من الناس أحد، لا قرابةَ ولا أصحابَ ولا أي شيء، {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} (لقمان من الآية 33).
نكتفي بهذا المقدار، ونستكملُ إن شاءَ اللهُ في المحاضرةِ القادمة.
نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يُوفقنَا وإياكم لما يُرضيه عنَّا، وأن يَرحمَ شهداءَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يُفرِّجَ عن أسرانا، وأن ينصَر المجاهدين ويثبتَهم ويُؤيدهم، إنه سميعُ الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته