المحاضرة الثانية للسيد عدالملك الحوثي بمناسبة الهجرة النبوية 1441هـ
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بدايةً نبارك للمقاومة الإسلامية في لبنان العملية البطولية في الرد على الاعتداء الإسرائيلي، حزب الله هم من حفظوا ماء وجه الأمة في الصراع مع العدو الإسرائيلي، وهم بمواقفهم البطولية وتاريخهم الجهادي العظيم من صنعوا المعادلة التي تجسِّد العزة، والتي تستعيد الكرامة، وهم مع المقاومة الفلسطينية رأس الحربة للأمة في مواجهة التهديد الإسرائيلي، والسياج الفولاذي الذي يقلِّص من أخطار هذا التهديد، ويحمي الأمة إلى حدٍ كبير، لولا هذه القوة – التي هي في طليعة هذه الأمة في التصدي لهذا الخطر- لكان الواقع مختلفاً كلياً، لكانت إسرائيل في عربدتها، في طغيانها، في إجرامها، في استهتارها بهذه الأمة، تسلك مع هذه الأمة سلوك الاستباحة، ولكانت الضربات والاعتداءات الإسرائيلية في كل بلدٍ من بلدان المنطقة، ولكانت التدخلات السافرة والجرائم الوحشية في كل بلدٍ من بلدان هذه المنطقة بدون استثناء، لكن وجود هذه المقاومة في فلسطين وفي لبنان قلَّص من هذا التهديد ومن هذا الخطر إلى حدٍ كبير، يجب أن تعرف الأمة بكلها قيمة هذه المقاومة وما تعنيه بالنسبة للامة كل الأمة.
نعود إلى سياق حديثنا بالأمس فيما يتعلق ببعضٍ من الدروس المهمة التي نستفيدها من الهجرة النبوية، وكان سياق حديثنا بالأمس يركِّز على أنَّ الله “سبحانه وتعالى” أعدَّ مكة والبيت الحرام لتكون المنطلق المهيَّأ للرسالة الإلهية الخاتمة، وكيف أنَّ الله “سبحانه وتعالى” جعل نبيه إبراهيم “عليه السلام” يودع في مكة المكرمة من يقوم برعاية البيت الحرام، ومن يتولى هذا المركز الديني العظيم والمهم من نسْله، وهو ابنه إسماعيل “عليه السلام”؛ ليمتد هذا النسل عبر الأجيال بكلها وصولاً إلى رسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” الذي بعثه الله بالرسالة خاتم النبيين، وسيد المرسلين، فمكة المكرمة أعدَّها الله لتكون المنطلق توفرت فيها كل العوامل المطلوبة:
أولاً: الفرع الإبراهيمي، إسماعيل “عليه السلام” وذريته من بعده، وفي هذا الفرع حفظ الله هذا الامتداد للدين الإلهي ضمن هذا الفرع، كان هناك عبر الأجيال من يحافظ على هذه القيم، من هو مستودع لهذه المبادئ والقيم العظيمة، من يجسِّدها، من يلتزم بها جيلاً بعد جيل، بالرغم من وجود الانحرافات التي بلغت إلى أسوأ مستوى، إلى حد الإخلال بمبدأ التوحيد لله “سبحانه وتعالى” والقيم الإلهية، لكن بقي ضمن هذا الفرع هذا الامتداد لتلك القيم ولتلك المبادئ وصولاً إلى عبد المطلب جد النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، الذي عُرِفَ بأنه كان ملتزماً بالتوحيد، وكان إبراهيمياً على ملة إبراهيم “عليه السلام”، فيما تحكيه السِّير والأخبار، وكان على درجة عالية من القيم والمبادئ والأخلاق التي عُرِفَ بها، ثم كان ابنه عبد الله- والد النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”- كذلك، الشاب الذي عُرِفَ وتميَّز بما هو عليه من القيم والأخلاق والطُهر، ثم أتى النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ابتعثه الله “سبحانه وتعالى”، فوجود هذا الفرع من نسل إبراهيم “عليه السلام” كان أول العوامل الرئيسية، وأول الركائز الأساسية في إعداد مكة المكرمة لتكون المنطلق لختم الرسالات الإلهية.
العامل الآخر: المركز الديني في مكة: بوجود البيت الحرام، بوجود مشاعر الحج هناك، وبقيت فريضة الحج قائمة في أوساط الأجيال جيلاً بعد جيل، من بعد نبي الله إبراهيم “عليه السلام” بعد أن أمره الله كما قال “جلَّ شأنه”: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: الآية27]، بقي الحج متوارثاً بين الأجيال بكلها، وبقيت مكة كمركز ديني لها في المنطقة بكلها بين الوسط العربي بكله حرمة عظيمة، وقداسة كبيرة، وأصبحت هي التي يحج إليها الناس ويأوون إليها {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}[البقرة: من الآية125]، كما قال الله “سبحانه وتعالى”، فبقيت هي محط الأنظار في الوسط العربي بكله، يُقبِل الناس إليها، تحظى بالحرمة والقدسية والمكانة الكبيرة في قلوب الناس.
إضافةً إلى ذلك: الاستقرار الاقتصادي والأمني الذي تميَّزت به، بينما كان محيطها بكله يعيش حالة المشاكل الكبيرة على المستوى الأمني: هناك حروب بشكل مستمر بين القبائل العربية في محيط مكة، وحالة من الخوف والمشاكل المستمرة، وكذلك حالة من الاضطراب الذي عمّ، وحالة من الفوضى الكبيرة، ثم إضافةً إلى ذلك على المستوى الاقتصادي: كان هناك مشاكل وأزمات ومعاناة اقتصادية بالذات في شبه الجزيرة العربية، القبائل التي تعيش هناك كقبائل أكثرها تعيش حالة البداوة، وتعيش الظروف الصعبة، في مكة كان هناك استقرار اقتصادي، دعوة إبراهيم “عليه السلام” وضمن التدبير الإلهي؛ لأن كلَّ المسألة هي أتت ضمن التدبير الإلهي، بدءً من مسألة الكعبة والبيت الحرام كركيزة إيمانية، ثم يكون إلى جانبها ركيزة أخرى إسماعيل “عليه السلام”، قبله إبراهيم إماماً للناس، ثم إسماعيل “عليه السلام”، ثم يستمر هذا الدور، ثم يأتي كذلك هذه الظروف التي هُيِّـأت بتدبيرٍ من الله، وبأمرٍ من الله، وبتشريع من الله “سبحانه وتعالى”، فحظيت تلك البيئة بحالةٍ من الاستقرار الأمني والاقتصادي التي لا توجد في غيرها؛ وبالتالي يجتمع الناس إليها لمشاعر الحج، يستفيدون منها- كذلك- على المستوى الاقتصادي، يصل الكل إليها من المناطق العربية المختلفة للحج، يعودون منها فيتناقلون الأخبار، مركزاً اجتماعياً أيضاً، ومركزاً إعلامياً مهماً جداً، فتوفرت فيها كل الظروف الملائمة لأن تكون هي المنطلق الذي تنطلق منه رسالة الله “سبحانه وتعالى”.
في ذلك الجو نفسه، في تلك البيئة نفسها، بين تلك الأمة المتواجدة في مكة، هناك أيضاً تعطش وإظهار للرغبة بنيل شرف الهداية الإلهية والرسالة الإلهية، بما أنَّ أهل الكتاب كانوا في أصقاع أخرى ومناطق أخرى يحاولون أن يتطاولوا على الناس من حولهم بأنهم هم أهل الكتاب، وفيهم الرسل والأنبياء، كان العرب في مكة وكانت قريش تتمنى لو أنَّ الله يبعث فيها رسولاً، أو يجعل فيها كتاباً، بل نقل القرآن الكريم فيما يتعلَّق بهذه الأمنيات قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، كانوا في أمنيتهم وفي رغبتهم التي يظهرونها في أن يأتي منهم نذير، وأن يحظوا بهذا الشرف الكبير، وألا يبقوا في حالة الأمِّيَّة التي يعيشونها: لا كتاب لهم، لا نبي لهم، لا مشروع لهم، كان يصل بهم الحال أن يقسموا بالله {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: أبلغ الأيمان، {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}: أن يتفوَّقوا على الأمم الأخرى في الاهتداء بهدى الله “سبحانه وتعالى”، والإتِّباع للنذير والرسول، لكن الله “جلَّ شأنه” قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر: 42-43].
يقول الله “جلَّ شأنه” عنهم أيضاً: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ}[الصافات: الآية167]: كانوا قبل بعثة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات: 167-169]، كانوا يزعمون أن لو بقي بينهم كتاب من كتب الله “سبحانه وتعالى”، وهدى يتمسَّكون به، لكانوا على هذا النحو الذي يتميَّزون به على بقية الأمم، {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، لما أتى هذا الذكر وهذا الهدى ماذا فعلوا؟ {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الصافات: الآية170]، فإذاً كانت البيئة مهيأة لأن تكون هي المنطلق لهذه الرسالة الإلهية.
المشكلة عندما أتت هذه الرسالة الإلهية في هذه الظروف المهيأة لانطلاقتها، لم يحظَ ذلك المجتمع بشرف حمل هذه الرسالة، والنهوض بهذه المسؤولية العظيمة والمهمة، ونيل هذا الشرف الكبير في حمل راية الإسلام.
الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” عندما بعثه الله بالرسالة استفاد من كل هذه الظروف لتصل رسالته ويصل صداها إلى بقية المجتمعات التي تأتي إلى مكة للحج، فعلمت به، وسمعت منه، وتعرَّف عليه، ونقلت خبره وخبر رسالته، والمبادئ التي يعلنها في هذه الرسالة الإلهية، نقلتها إلى بقية المجتمعات، واستفاد أيضاً من هذا القدر من الاستقرار الذي لم يكن متهيِّئاً في بقية المجتمعات ليبدأ بهذه الرسالة الإلهية، ويتحرك بداية حركته التي تحتاج في بدايتها إلى هذا القدر من الاستقرار.
ثم أيضاً استفاد من هذا المركز الديني الذي تركِّز عليه المجتمعات الأخرى، وهي متطلعةٌ إليه، استفاد من كل هذه العوامل، وبدأ بإعلان الرسالة الإلهية والصدع بها والتبليغ لها، واجه المشاكل والتحديات في ذلك المجتمع، فإذا أتينا لدراسة واقع هذا المجتمع، ما هو المانع له عن استقبال هذه الرسالة التي هي رسالة عظيمة، ورسالة هدى، ورسالة حق، مع أنهم كانوا يتمنون أن يأتي منهم رسول، وأن يأتي فيهم نبي، وأن يُبعث فيهم نذير، وكانوا أيضاً يتمنون ويزعمون لو أنَّ عندهم {ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ}، أنهم كما يزعمون لكانوا {عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، فلماذا كانت ردة الفعل من جانب الكثير منهم سلبية؟ {فَكَفَرُوا بِهِ}، {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، ما هي العوامل التي تؤثِّر على بعض المجتمعات فتحول بينها وبين القبول بالحق، وبين الإيمان بالحق، والاهتداء بهدى الله “سبحانه وتعالى”؟ رسالة الله في أصلها رسالة جذَّابة وعظيمة، مبادئها مبادئ عظيمة، والحق فيها واضح، والقيم والأخلاق التي تدعو إليها هي منسجمة مع الفطرة البشرية، دين الله هو دين الفطرة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: من الآية30]، ما الذي يؤثِّر على بعض المجتمعات فتتخذ المواقف السلبية التي تصل أحياناً ليس فقط إلى مستوى التنكر والنفور من تلك المبادئ والقيم الإلهية، والابتعاد عن الرسالة الإلهية، والتنصل عن النهوض بهذا الشرف العظيم، إنما إلى مستوى المحاربة لهذه الرسالة الإلهية، والسعي إلى القضاء على كلِّ من يحمل هذه الرسالة ويدعو إليها.
هناك مجموعة من العوامل في مقدِّمتها ثلاثة عوامل كانت بارزة إلى حدٍ كبير:
العامل الأول في تلك البيئة هو: الارتباط بالملأ المستكبر، الذي له دوافعه في الكفر بهذه الرسالة، والتصدي لهذه الرسالة الإلهية، ولهذا عندما قال الله “سبحانه وتعالى”: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}، الذين استكبروا هم الملأ في المقدِّمة، الملأ: البعض من القيادات السلطوية التي تتمتع بالمال والسلطة والنفوذ بين أوساط المجتمع، ورأت في الرسالة الإلهية أنها تؤثِّر على هذا النفوذ، لماذا تؤثِّر على هذا النفوذ؟ لأنه نفوذ استغلالي قائم على الظلم، على الطغيان، على الاستعباد، على الإذلال، على الممارسات الإجرامية؛ وبالتالي يتعارض بشكلٍ واضحٍ وصريح مع رسالة الله “سبحانه وتعالى” التي تحرر الإنسان، والتي تحمي هذا الإنسان من الاستعباد والاستغلال، والتي تبني المجتمع المسلم ليكون مجتمعاً حراً عزيزاً كريماً، والتي تبني واقع هذا المجتمع على أساسٍ من العدل، الرسالة الإلهية بمبادئها العظيمة وقيمها وأخلاقها المهمة، يرى فيها السلطويون المستكبرون مشكلة؛ فيتحركون للتصدي لها، والمحاربة لها.
عندما نتأمل مثلاً في واقع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ما قبل البعثة بالرسالة والصدع بها، هناك نقطة من أهم النقاط التي يجب أن نستوعبها جيداً، رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كان موحِّداً لله، كان يدين بالتوحيد، كان ابراهيمياً؛ وبالتالي لم يكن يشترك مع تلك البيئة وذلك المجتمع في عبادة الأصنام، والملأ في ذلك المجتمع والمجتمع بشكلٍ عام يعرفون هذه الحقيقة: أنَّ رسول الله هو من الموحِّدين لله، وهو لا يدين بالشرك كما هو حال الآخرين.
رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” قبل البعثة بالرسالة، منذ نشأته، منذ طفولته، ثم النشأة في مراحل الشباب، وصولاً إلى البعثة بالرسالة الإلهية والصدع بها، كان أيضاً ملتزماً ومستقيماً على مكارم الأخلاق، وكان معروفاً بتميزه في ذلك، فكانت أخلاقه هي مكارم الأخلاق، وكان مستقيماً وطاهراً وزكياً، ومبتعداً عن الرذائل والمفاسد، فمعروفاً أيضاً بالعفة، معروفاً بالأمانة، معروفاً بالصدق، فهو كان موحِّداً لله “سبحانه وتعالى”، وكان أيضاً على المستوى الروحي له عبادته والتي كثيرٌ منها هي حالة التفكر، وكانت له مواسم معينة يعتزل فيها للعبادة لله “سبحانه وتعالى”، فهو معروف في أوساط المجتمع بكل ذلك، وكل ذلك لم يكن سبباً لمشكلةٍ له مع قومه، يعني: لم ينزعجوا منه ويحاربوه بسبب كل هذا: بسبب أنه من الموحِّدين لله، أو بسبب أنه يتفرغ للعبادة لله “سبحانه وتعالى”، أو بسبب أنه يلتزم بمكارم الأخلاق، ومعروف بمكارم الأخلاق، ويتخلق بمكارم الأخلاق، وأنه يختلف عن ذلك المجتمع فيما هو عليه ذلك المجتمع من ممارسات وانحرافات وفساد، ولا يشاركهم تلك الخرافات وتلك الممارسات والسلوكيات السلبية، يختلف عنهم في كل ذلك، لم يكن هذا- في نفسه- يسبب مشكلةً للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” مع قومه، ويدخله معهم في صراع شديد، لكن عندما بُعث بالرسالة الإلهية حصلت المشكلة مع الملأ منهم، ومع الكثير من أتباع أولئك الملأ الذين ارتبطوا بهم وتأثَّروا بهم، لماذا؟
هذه مسألة تفيدنا – أيها الإخوة والأخوات- حتى الآن في نظرتنا إلى الإسلام، في نظرتنا إلى الرسالة الإلهية كيف هي؛ لأن البعض من المحرِّفين والمنحرفين يحاولون أن يقزِّموا الرسالة الإلهية، وأن يفرِّغوها من محتواها المهم، ومن لُبِّها الحقيقي كمشروع إلهي يحرر الإنسان، يبني الحياة على أساس منهج الله “سبحانه وتعالى”، يحاولون أن يبعدوا عن هذه الرسالة تلك الأسس المهمة والعظيمة والرئيسية التي يرون فيها مشكلة مع المستكبرين في كل زمن، ثم يحاولون أن يقدِّموا شكلاً آخر للرسالة الإلهية وللإسلام، وكأنها مجرد طقوس عبادية، وكأن الإسلام أيضاً مجموعة من الأخلاق الطيِّبة التي يلتزم بها الإنسان كسلوك، هذا جزء من الإسلام، جزء من الدين الإلهي، جزء من الرسالة الإلهية، لكنه ليس كل الإسلام، ليس كل الرسالة الإلهية، مع الجانب الروحي مع العبادات الروحية إذا فُصل هذا وذاك عن جوهر هذه الرسالة كمنهج للحياة، إذا فصل عن جانب العدل في هذه الرسالة، عن المبادئ التي تحرر الإنسان من العبودية للطواغيت، عن المبادئ التي تحمي هذا الإنسان من استغلال المستكبرين والظالمين والمتسلطين؛ تصبح تلك الطقوس وتلك الأخلاقيات مفصولةً عن تأثيرها الفعلي في واقع هذه الحياة، غير مجدية في واقع هذه الحياة، ذات تأثير محدود وبسيط جداً في واقع هذه الحياة، ولذلك كان بالإمكان أن يتأقلم المشركون في مكة مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في حالة أن كان اهتمامه على ما كان عليه ما قبل البعثة بالرسالة الإلهية، ينحصر في طقوس عبادية معينة، ويستمر في برنامجه: يخلوا في غار حراء للتعبد والتفرغ والتفكر، ويتنسك لله “سبحانه وتعالى”، ويختلف معهم في مسألة الشرك والتوحيد، ويتميَّز عنهم في أخلاقه الكريمة، كانت مسألة يمكن أن يتحمَّلوها، ولكن البعثة بالرسالة الإلهية بمبادئها العظيم، بجوهرها ولُبِّها الرئيسي كان بالنسبة لهم مزعجاً جداً، فلم يتحملوا ذلك أبداً.
العامل الأول- كما قلنا- يعود إلى المستكبرين، والمستكبرون انزعجوا لماذا لم يكن الرسول واحداً منهم، واحداً من أولئك المستكبرين، يتصورون المسألة مجرَّد زعامة، مجرَّد سلطة، مجرَّد مركز اجتماعي ومنصب معين للتمتع من خلاله بالسلطة والنفوذ والتأثير والمصالح والاستغلال الذي يعيشونه، فكانت كلمتهم المعروفة التي نقلها لنا القرآن الكريم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}[ص: من الآية8]، هذه عندهم مشكلة كبيرة: كيف ينزل هذا الذكر (يعني: القرآن الكريم، والرسالة الإلهية) إلى رسول الله محمد “صلوات الله عليه وعلى آله” الذي لم يكن واحداً من أولئك الملأ المتسلِّطين، الأثرياء، الذين يمتلكون السلطة والثروة وذلك النفوذ المبني على ذلك: المبني على سلطة وثروة مادية هائلة.
وكان المجتمع أيضاً من حولهم ينظر إليهم هم من موقعهم في السلطة، والثروة، والنفوذ، والاستغلال، ينظر إليهم على أنهم هم الكبار الذين يتَّبعهم، الذين يتأثَّر بهم، يقتنع بما هم عليه، يلتزم بما هم عليه، يقتنع بأقوالهم، بأفكارهم، بسياساتهم، يسير وفق توجهاتهم، هذه كانت نظرة مؤثِّرة على المجتمع في نفس الوقت، وأثَّرت إلى حدٍ كبير، حتى كان المعيار المادي هو المعيار المؤثِّر في أوساط الكثير من أبناء المجتمع آنذاك، يعني: ينظرون إلى الإنسان كعظيم بقدر ما يمتلك من ثروة ونفوذ وتأثير وسلطة، وليس بقدر ما هو عليه من الحق، وما يمتلكه من قيم، وما يتخلق به من أخلاق، الرصيد الأخلاقي والقيمي لا يمثِّل بالنسبة لهم وزناً في أوساط المجتمع، ينظرون في مسألة الاتباع، في مسألة التأثر، في مسألة القناعة إلى تلك الفئة المستكبرة، بالرغم من أنها فاقدة للمبادئ والقيم، يأتي شخص معين يمتلك ثروةً، يمتلك سلطةً، يمتلك نفوذاً في أوساط المجتمع مبنياً على تلك السلطة والثروة، ينظرون إليه مهما كان مفلساً على مستوى المعرفة، على مستوى المبادئ، مهما كان منحطاً على المستوى الأخلاقي، ومفلساً على المستوى الإنساني والأخلاقي، لا يلتفتون إلى ذلك، ينظرون إليه إلى أنه كبير بقدر ما لديه من ثروة وسلطة ونفوذ؛ فينشدون إليه، ويتأثَّرون به، ويتَّجهون في الاتجاه الذي هو عليه، وهذه حالة سلبية جداً، لا يزال تأثيرها يمتد في واقع الناس، في الواقع البشري إلى اليوم، ولم يزال كذلك في حالة من الامتداد، لا ينقذ الناس من هذا التأثر إلَّا الاستيعاب للقيم والمبادئ الإلهية، والاهتداء بهدى الله “سبحانه وتعالى”.
ولذلك نقل القرآن الكريم كيف كان يقول ذلك المجتمع: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف: الآية31]؛ لأنهم ينبهرون بعظمة القرآن الكريم، مع أنهم كفروا به، لكنهم كانوا منبهرين به، وكانوا في قرارة أنفسهم يدركون أنه من الله “سبحانه وتعالى”، وأنه ليس صناعةً بشرية، ولا إعداداً بشرياً؛ فلذلك كانوا منبهرين به، لكن كان عندهم هذه العقدة: لماذا لم ينزل على أحد أولئك الزعماء؟ قالوا: (مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) يعني: مكة أو الطائف، (عَظِيمٍ)؛ لأن العظمة عندهم كانت تقاس بالماديات: من هو ذو الثروة الكبيرة، والإمكانات الهائلة؛ فهو- بنظرهم- العظيم الذي يتَّبعونه، الذي يسيرون وراءه، وهكذا نجد هذه مشكلة كبيرة أثَّرت عليهم: النظرة المادية، الارتباط بالملأ المستكبر والزعامات المستكبرة التي صدَّتهم عن الإيمان بهذا الهدى، وعن نيل هذا الشرف العظيم، مع أنَّ هذه الرسالة في أصلها، في جوهرها، في مبادئها، في قيمها، في أخلاقها… جذَّابة، وتنسجم مع الفطرة، ولحملها والإيمان بها الشرف الكبير الذي تنال به الأمة التي تؤمن بها وتلتزم بها السيادة في الواقع البشري، أن يكون لها الدور العظيم في الواقع البشري، أن تتأهل لقيادة البشرية، قيادةً قائمةً على أساس الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قيادةً قائمةً على التحرك بالبشرية لتكون في مسيرة حياتها- للنهوض بمسؤوليتها في الاستخلاف في هذه الأرض- لتكون وفق منهج الله “سبحانه وتعالى”، كان الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” يعدهم بهذا الشرف العظيم، بهذا الفضل الكبير، ويذكِّرهم به، ولكن- الكثير منهم- لم يلتفتوا إلى ذلك، وبقي الكثير منهم مصراً على موقفه وعناده وكفره، إلى درجة أنَّ الكثير منهم وصل إلى مستوى الخذلان، وصل إلى المستوى الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بقول الله “سبحانه وتعالى”: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[يس: الآية7]، إلى هذه الدرجة السيئة جداً والخطيرة للغاية التي وصلوا بها إلى هذا المستوى: مستوى العناد الشديد الذي عبَّروا عنه هم في دعائهم عندما قالوا كما نقل القرآن عنهم ذلك: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} يدعون الله {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: الآية32]، وصلوا إلى هذه الدرجة في موقفهم السلبي جداً من هذا الهدى ومن هذا الحق، وعنادهم الشديد جداً.
ولذلك كانت تلك البيئة معدَّة من الله “سبحانه وتعالى” لانطلاقة الرسالة، لكن ذلك المجتمع لم يتهيأ لأن يحظى بشرف حمل هذا المشروع الإلهي والنهوض به؛ فأتت سنَّة الله “سبحانه وتعالى “في الاستبدال، استبدال هذا المجتمع بمجتمع آخر يحظى بهذا الشرف الكبير، يفوز بهذه المنزلة العظيمة، وبهذه المهمة العظيمة والمقدَّسة، كان هذا المجتمع هو مجتمع الأنصار في يثرب (الأوس والخزرج)، الذين وَفَدَ وفدٌ منهم إلى مكة، وسمع بدعوة النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” وتأثَّروا، وأسلموا، وعادوا أيضاً إلى قومهم، ثم في الموسم القادم أتى وفد أكبر، وهذا الوفد أيضاً دخل في الإسلام، وبعث معهم الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” سفيراً أو رسولاً من عنده إلى المدينة ليقوم بدور التهيئة، ثم عندما أتى الأمر من الله “سبحانه وتعالى” بالهجرة من مكة، وأتم النبي دوره في مكة، وأتى قول الله “سبحانه وتعالى”: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات: الآية54]، تهيأت ظروف أخرى ومجتمع آخر ومرحلة جديدة للنهوض بهذه الرسالة، والتحرك بهذه الرسالة في الواقع البشري، فكانت مرحلة مهمة.
المجتمع الجديد نقل القرآن الكريم ما يميِّزه وما هيَّأه ليكون على درجة جيدة من التقبل لهذا الدور العظيم، يقول الله “سبحانه وتعالى” عن مجتمع الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: الآية9]، مجتمع الأنصار كان مجتمعاً خيِّراً، معطاءً، صبوراً، وهذه من أهم الصفات، منسجماً مع الآخرين، لم يكن مجتمعاً أنانياً، ولا مستكبراً، ولا يبني مواقفه على أساسٍ من الارتباطات المادية، كان مجتمعاً متخلِّصاً من تلك السلبيات الخطيرة جداً.
نكتفي بهذا المقدار…
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛