واشنطن وإستراتيجية الفوضى في العراق..إستغلال مطالب الشعب
,
يمني برس – تحليلات
تُبنى السّياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تضعها الدّول من آلياتٍ وخطواتٍ من ناحية نظرية، لتكون في خدمة الشّعوب بهدف تأمين مستلزمات حياتها وتنظيم استهلاك الحاجات بين السّكان. كما أنّ الوسائل السّياسيّة المستخدمة في التّحوّل الدّيمقراطي وتناوب السّلطة، هي الّتي تضمن صحة سير النّظام في الدّولة، حيث يكون الشّعب هو مصدر السّلطة. فما يقوم به الحكام من إصلاحاتٍ، إنَّما هو نابعٌ ومستمدٌّ من شرعيّة سياسيّة قد أعطاها الشّعب للسّلطة بملء إرادته. ولما تغيب هذه العمليّة السّياسيّة بتجلّياتها الدّيمقراطيّة، فإنّ الشّعوب سوف تستشعر الغبن، وستبحث عمّا يعوّض لها عن النّقص الماديّ والاقتصاديّ، وعن وسائل للتّمرد والتّعبير عن نفسها بأساليبَ ملتويةٍ. من هنا، يمكن اعتبار ممارسات النّظام العربيّ السّياسيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، من العوامل الأساسيّة، التي تؤدي إلى معاناة الشعوب، ولا ننسى هنا السياسات التي اتبعت من قبل نظام صدام حسين وأدت إلى أزمة بنيوية في العراق تفاقمت أكثر بعد الاحتلال الأميركي له.
ولا شك أن العراق يعاني اليوم من فساد مستشر في النظم الموجودة يجب معالجتها والذهاب نحو تحسين الأداء المؤسساتي العام ومن ثم العمل على تأمين الخدمات الناقصة للمواطنين، ولا يخفى على أحد وجود هذا الأمر الذي يؤدي إلى شرخ بين المجتمع والحكومة، ويستغل من قبل المحرضين اليوم على التظاهر، حيث يعاني الشباب العراقي من البطالة والفقر والعوز وضعف التنمية الاجتماعية على كافة الصعد، علما أن العراق بلد يتمتع بثروات ضخمة على رأسها الثروة النفطية، حيث يملك طاقة إنتاجية تبلغ أكثر من 3 ملايين برميل يومياً، إلا أنه لا يستغل ثرواته بشكلها الصحيح، فأصبح يعاني من ضعف البنية الإنتاجيّة في القطاعات الصّناعيّة والزّراعيّة والسّياحيّة، وذلك بسبب عدم توافر البنى الأساسيّة والخدماتيّة اللازمة لتنمية مختلف هذه القطاعات، بالإضافة إلى غياب الخطط التطويريّة والاستثماريّة والّتي تساعد في تحقيق القدرة على الإنتاج والمنافسة، محلياً وخارجياً.
وربّما يكون ما تحدثنا عنه آنفاً لا يجافي الحقيقة، وهو يظهر الواقع بشكل موضوعي، لكن دعونا هنا نبين الوجه الآخر للقضية، لعلنا نصل إلى نتيجة موضوعية وعلمية، نبنيها على مقدمات صحيحة انطلقنا فيها من ضرورة الذهاب نحو إصلاحات من أجل إراحة الشعب العراقي مما يعاني منه. لقد خرج العراق من ظلم الدكتاتور صدام حسين، إلا أنه خرج بلداً مدمراً منهكاً بسبب الاحتلال الأميركي. فقد أدت سياسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة في العراق، إلى تصاعد معاناة العراقيين بدلاً من إراحتهم، فقد ارتكزت السّياسة الأميركيّة في هذا البلد، على حلّ مؤسسات الدّولة ومحاولة تكريس الفدرالية عبر تفكيك البنى السّياسيّة وسياسة التّفتيت الطائفيّ. لم يتوانَ الأميركيون بعد الغزو، عن اللّعب على الوتر الطّائفي، وذلك من أجل بثّ الفرقة بين أبناء الشّعب الواحد، وهذا ما يؤدّي إلى حاجة العراقيّين أنفسهم للحماية الأميركيّة، والتّدخل الأميركيّ بشؤونهم. وعملت واشنطن على تقسيم العراق مذهبياً وطائفياً وعرقياً، وحاولت كثيراً تحويل هذا البلد إلى كانتوناتٍ، وكان ذلك محاولةً منها لتثبيت وجودها في العراق ونهب خيراته والسّيطرة على مقدراته.
لم تنته الأمور هنا، فقد شكل الاحتلال الأميركي، سبباً رئيسياً لتفشي الإرهاب، ومن ثم صعود تنظيم “داعش”، ما جعل المعاناة العراقية تصل إلى الذروة، بسبب ما أدى إليه من كوارث على البنية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما جعل الحكومة العراقية أمام واقع صعب لا يعتبر الخروج منه سهلاً، بعد ما خلفه داعش من دمار على كافة المستويات، وبالتالي فإن الإصلاح في بنية الحكم والمؤسسات ليس أمراً سهلاً، خاصةً أن واشنطن لم تترك هذا البلد يتعافى ويمارسه حقه في السيادة والاستقلال، فلا تزال إدارة البيت الأبيض تعمل على تقويض سيادته وجعله بلداً غير آمن لكي يبقى تابعاً لها، وبالتالي السيطرة على ثروته النفطية.
لم تفتأ حكومة عادل عبد المهدي تعمل على الخروج من الأزمات السابقة، وتسعى إلى بناء علاقات اقتصادية جديدة، وتنفتح على جيرانها، وتبني سياسة خارجية قوية تعيد للعراق محوريته في الشرق الأوسط حتى سارعت واشنطن من أجل قطع الطريق عليه. صحيح أن لدى المواطنين حقوقهم في التخلص من إرث من الفساد والمحاصصة، إلا أن واشنطن سارعت لتستغل هذه الفرصة التي تخطط لها للانتقام من حكومة عبد المهدي وإفهامه أنه لا يمكن الخروج من تحت كنفها. لقد وجدت واشنطن في شرارة التظاهرات اللحظة المناسبة التي خططت لها قبل ذلك من أجل ترك العراق بلداً يعاني في أمنه واستقراره لمنعه من التفاعل مع جيرانه وحلفائه الإيرانيين والسوريين، فبمجرد فتح معبر البوكمال بين سوريا والعراق، ومن ثم اتهام إسرائيل بالوقوف وراء استهداف عدد من مقارّ الحشد الشعبي بدأت شراراة التظاهرات، التي تستثمرها إدارة دونالد ترامب لمعاقبة حكومة عبد المهدي على انفتاحها على الصين وتوقيع اتفاقيات مع بكين لبناء وتطوير البنى التحتية العراقية، وفتح أوسع أبواب الاستثمار أمام الإدارة الصينية، والتوجّه إلى موسكو لشراء منظومات دفاع جوي ومنها أس 400 عقب استهداف مقار الحشد، هذا التوجه العراقي الجديد يجعل واشنطن تسارع لقطع الطريق على عبد المهدي لمنعه من الخروج عن سياساتها والتحرك بحرية في لحظة التحول والتفاعل والتطور في العلاقة مع دمشق وطهران.
لقد عانى العراق من الضغوط الداخليّة والخارجيّة الهادفة إلى إدخال تعديلاتٍ وإصلاحاتٍ جوهريةٍ، من أجل السّير بركب حركة التطوير البنيوي الّتي يعيشها العالم اليوم، وعلى الرغم من وجود تقصير على مستويات الدولة إلا أن ذلك لا يعني الذهاب إلى التغيير بالعنف، فهذه المرحلة تتطلب العمل بحكمة ودراية للخروج بالعراق مما يعانيه، وعدم السماع لأصوات الفتنة التي تعمل على تفتيته وجعله بلداً غير مستقر. دون أدنى شكّ، إنّ ما في العراق من مشكلاتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وانتشار والفساد الماليّ والإداريّ والبطالة والتّوزيع غير العادل للثّروات والرّواتب والامتيازات وفقدان العدالة في التّنمية الاقتصاديّة، تُعدّ من الأسباب الّتي من الممكن أن تؤدّي إلى ما يحدث، لكن أيضاً يجب أن لا يكون هناك رضوخ للمشروع الفتنوي الذي تسعى له واشنطن وحلفاؤها الخليجيون والذي عاد تنظيم “داعش” الإرهابي لاستغلاله والتغلغل في التظاهرات عبر الخلايا النائمة لضرب الأمن والاستقرار عبر العنف وجر القوى الأمنية إلى العنف المضداد، لذلك فإن ما هو الأفضل لهذه المرحلة هو السماع لصوت الشعب بشكل موضوعي لتدارك الفوضى، وفي المقابل على الشعب العراقي أن يتنبه فعلاً إلى أن المخطط أكبر من مجرد تظاهرات تطالبه بتحسين الأوضاع المعيشية وأن يقف خلف قيادته ومرجعيته للحفاظ على وحدة البلد واستقراره.
د. علي مطر