(المشروع القرآني الحضاري ، والهوية الإيمانية)
قراءة وعرض من خطاب السيد القائد عبدالملك بدر الدين حفظه الله
*خالد محمد الشامي*
تركّز هذه القراءة – في الخطاب المشار إليه – على موضوع رئيسي ورد فيه ، وهو الهوية الإيمانية ، وعلى إعادة عرض وتلخيص ما سعى هذا الخطاب إلى ترسيخه حول الانتماء الإيماني الصادق والمكتمل بوصفه عنصر قوة وخلاص تحتاجه الأمة اليوم ، وبوصفه – وفق الرؤية القرآنية الصحيحة – مفهوماً إيمانياً حضارياً يتجه إلى بناء الأمة من الداخل في كافة مجالات الحياة ، وعلى أكثر من مستوى .
في البدء يستعيد الخطاب في هذه المناسبة ذكرى دخول اليمنيين الإسلام ، وكيف كان يوم (جمعة رجب) محطة مهمة من محطات انتشار الإسلام في اليمن بشكلٍ رسميٍ وشاملٍ وعام . وهو ما جعل الرسول الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله يقول (الإيمان يمان
والحكمة يمانية) . وتتجلى دلالات هذا النص النبوي الشريف – في هذا الخطاب – على النحو التالي :
1- عظمة هذا الانتماء ، والمصداقية الكبيرة التي كان عليها أخيار اليمنيين في انتمائهم للإسلام.
2- يخبرنا عن الهوية الحقيقية لهذا الشعب ، وأنَّه يُقدم نموذجاً راقياً ومميزاً لما تكون عليه (الهوية الإيمانية) .
3- يعبر عن طبيعة الدور الممييز والمهم والأساسي لهذا الشعب في المسيرة الإيمانية ، وهو دور أصيل في حمل راية هذا الدين ، وفي الثبات على المبادئ الإيمانية في كل المحطات الحسَّاسة في واقع هذه الأمة على امتداد مستقبل هذه الأمة .
وحين كان الرسول – صلوات الله عليه وعلى آله – يتطلع إلى مستقبل أمته ، ويتحدث بما يعني هذه الأمة في كل المفاصل والمحطات المستقبلية ، وما ستواجهه هذه الأمة من محن ، وفتن ، وتحديات ، ومخاطر ؛ فقد روي عنه قوله صلوات الله عليه وعلى آله : (إذا هاجت الفتن فعليكم باليمن) لأن في هذا البلد ، ومن أبنائه من يمثلون الامتداد الصادق والأصيل في انتمائهم الإيماني .
من هنا تصبح هذه المناسبة (جمعة رجب) محطة تربوية وتوعوية وتثقيفية لتعزيز وترسيخ الهوية الإيمانية ، والانتماء الإيماني (الحقيقي والصادق بمفهومه القرآني) ، والمسئولية التي يجب أن نعيها ، وبما يجعلنا ننطلق انطلاقة مبنية على أساس هذا الانتماء . وهو ما يحتاج إليه الجميع – سواء على مستوى هذا الشعب اليمني أو على مستوى الأمة بكلها – في مقابل ما يواجهونه اليوم من تحديات ، ومخاطر ، وفتن ، وكون الأمة تعيش وتواجه تحديات كبيرة لا يمكن تجاهلها ، أو التنكر عن مسئولياتها تجاه هذه التحديات والمخاطر التي ستسحقها ولن تتركها . مُذكراً خلال هذه المقدمة بما يذكِّرنا به الله – سبحانه وتعالى- عن طبيعة ظروف الحياة البشرية ، وكونها ميدان للمسؤولية ، والاختبار، والعمل ، يحتاج لروحٍ عملية ، ولا مجال فيه للتنصل عن المسؤولية ، وهو ما يجعل الإنسان يدفع الثمن الفادح الذي هو أكثر بكثير من ثمن التحمل للمسؤولية والعمل والجد والوعي والبصيرة والاهتمام.
*حالات الانتماء للإيمان وفق الرؤية القرآنية* :
تحدث عن معنى الإيمان ، وماذا يعني الانتماء الايماني ؟ وفق المعنى والمفهوم القرآني الصحيح ، وبأصالته التي تمثل امتداداً ما كان عليه الرسول صلوات الله عليه وعلى آله ، وهو الايمان ( الانتماء والهوية) الذي تحتاجه الأمة اليوم لمواجهة التحديات والمخاطر والفتن والمشاكل . ويميّز هذا الخطاب – وفق رؤيةٍ قرآنية – بين ثلاث حالات من حالات الانتماء للإيمان الأولى يكون الانتماء فيها بالقول وبالادعاء ، والثانية يكون فيها الانتماء للإيمان انتماءً قاصراً يقتصر على بعض العبادات والشعائر . والثالثة وهي الانتماء الإيماني الصادق والملتزم والواعي ، وفق امفهوم القرآني الصحيح ، والذي يمكن أن ينبني حضارة مستقلة ، ومجتمع قادر على النهوض بمسئولياته ، وقادر على مواجهة المخاطر والصعوبات :
1- الانتماء للإيمان بالقول ، والشعارات ، والشكليات ، وكعنوان فقط تتحرك تحته فئات مختلفة ، يشخصها لنا القرآن الكريم بفئة المنافقين {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: الآية8] وقد تحدث عنهم القرآن كثيراً ، فهي فئة متواجدة ، ومنتشرة في أوساط المسلمين ، وقد نفى الله نفياً قاطعاً أن يكونوا من مؤمنين {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} حسب ادعائهم بالقول ، وهو ما يبين أنه لا يكفي في ادعاء الإيمان مجرد الانتماء إليه بالقول ، والكلام ، فلا بد من الانتماء الصادق ، والواعي الملتزم . وهم فئة تتحرك تحت هذا العنوان في داخل المجتمع ، وقد يجعلون منه عنواناً لأنشطة تضليلية ، وهدَّامة ، ومفسدة . وفي تشخيص أدق ؛ يبيّن لنا هذا الخطاب كيف أن إخلال المنافقين بمبادئ أساسية ، ومهمة ، والتزامات عملية أساسية ، قد مثّل ضربةً قاضية لمصداقيتها في ادعائها وانتمائها للإيمان، موضحاً أن أبرز و أكبر خللٍ يجمعهم ويجمع كل فئات النفاق هو الخلل في “الولاء” حيث قال الله -جلَّ شأنه- عنهم: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء: 138-139] فهي بهذا الولاء تتجه في مواقفها اتجاهاً سلبياً ، ليس لصالح دين الله ، ولا في صالح الأمة ، وتقف الموقف الذي هو لخدمة أعداء الأمة ، وتظهر في علاقات وروابط ومواقف منسجمةً مع أعداء الأمة من الكافرين . مشيراً إلى شواهد ذلك في واقعنا اليوم ، وما يلحظ بوضوح في ولاء بعض الأنظمة والكيانات ، وارتباطاتهم المكشوفة ، والمفضوحة، ومواقفهم المنحرفة مع أمريكا ومع إسرائيل، مع عدائهم لأبناء الأمة ، في اليمن، أو في فلسطين ، أو في أقطارٍ أخرى من أبناء الأمة ، والذين صدقوا في مواقفهم الايمانية والمنسجمة مع هذا الانتماء المهم والعظيم.
كما بيّن لنا هذا الخطاب أنّ هذه الفئة – وفق التشخيص القرآني لها – تتحرك في الساحة تحت هذا العنوان (الإيمان) وتتظاهر فيه بالشكليات، وقد توظف حتى المنبر الديني والخطاب الديني، وحتى المسجد، والصلاة، والشعائر الدينية ، توظفها لذلك {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}[التوبة: من الآية107]كما نراه اليوم متمثلاً في الكثير من أبناء الأمة الذين انحرفوا في مواقفهم وفي ولاءاتهم ، وباتوا تحت الراية الأمريكية ، وفي ولائهم لأمريكا وإسرائيل ، والمعية مع أمريكا، و إسرائيل ومع توجهاتها ، و هم في واقع الحال أصبحوا مفضوحين : فضحهم القرآن الكريم ، فضحتهم الأحداث والوقائع والمواقف، والواقع الجلي {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة: الآية9]
2- فئة أُخرى واسعة من أبناء الأمة تنتمي للإيمان انتماءً ناقصاً غير واعي ، إيماناً شُكّل بنمطٍ معين وفق هوى النفس ، والمزاج الشخصي {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}[الحجرات: من الآية14] فكان الأعراب يدعون هذا الانتماء ، ويتحركون ، ويقدِّمون أنفسهم تحت هذا العنوان ، ويؤكدون أنَّه قد تحقق لهم الانتماء الكامل، والصادق، والتام ، وحسبوا في تقديراتهم الخاطئة ، وفهمهم الناقص، أنَّ مجرد الانتماء للإسلام والشهادتين، والالتزام ببعض الشعائر والأمور الدينية ، يمثل انتماءً حقيقياً وصادقاً للإيمان ، لكن الله -جلَّ شأنه- يردَّ عليهم بنفي قاطع {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: من الآية14] لأن الإيمان يجب أن يصل إلى القلب {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ولا يكون مجرد قولٍ تقوله ، وطقوس ، وشكلياتٍ محدودة تلتزم بها بالمستوى والمقدار الذي تريد . موضحاً بأنّ ( الإيمان منظومةٌ متكاملة، منظومةٌ مهمةٌ جداً ، مستقره القلب ، ثم يتجسد في الواقع العملي التزاماً وعملاً ومسؤوليةً وقيماً وأخلاقاً وسلوكاً، منظومة متكاملة ويستقر في قلب الإنسان، أولاً يصل إلى القلب، ثم يترك أثره في روحية الإنسان ، في سلوكياته ، في أخلاقه، في معاملاته ، في مواقفه، فتنطبع مسيرة حياة الإنسان المؤمن بهذا الإيمان الذي يربطه بالله -سبحانه وتعالى-؛ فيعبِّد نفسه لله -جلَّ شأنه-.) لهذا رد الله عليهم {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي أنه لا بأس بانتمائهم للإسلام إذ أنهم خروجوا من حالة الشرك ، ودخلوا في إطار هذه الملة ، ولكنهم لم يرتقوا بعد إلى الانتماء الايماني الحقيقي والصادق .
كما تبين الآيات في هذا السياق كيف أنَّ المسؤولية المتجسدة بعنوان الجهاد في سبيل الله – سبحانه وتعالى- بالنفس وبالمال هي جزءٌ رئيسيٌ وأساسيٌ من الإيمان، وهي المحك المهم الذي يجلّي مصداقية الإنسان في انتمائه للإيمان ، وهذا ما لم يكن يرغب به الأعراب { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] حيث أراد الأعراب إيماناً لا تكون المسؤولية ، والموقف ، والعطاء ، والتضحية ، والجهاد ، جزءاً أساسياً منه ، وهو الإيمان الذي يرتكز على اليقين ، والثقة بالله – سبحانه وتعالى . وأرادوا إيمان الشعائر الدينية التي يرونها بسيطة، وسهلة، وغير مكلّفة المقتصر على الصلاة ، والصيام، والزكاة ، والحج .. مثلاً . ولا زالت مثل هذه الحالات متواجدة حتى عصرنا هذا ، والتي تحمل ذلك (المفهوم الأعرابي) للإيمان ، والذي يراه حالةً مزاجية تخضع لرغبة النفس ،وللمعايير ، والاعتبارات ، والمزاج الشخصي ، ويختار من هذا الدين بعضه ، والشيء اليسير منه ، ويرى في الالتزام الشكلي والمحدود به حالةً كافية ، وتامةً ، ومكتملة ، وهذا خطأٌ جسيم، ومضرٌ بالإنسان، ومضرٌ بالأمة، ومضرٌ بالمجتمع . وفي المقابل فإنّ هذه الآيات السابقة من سورة الحجرات مثَّلت مدخلاً لانتقال الحديث في خطابه – رضوان الله عليه – للانتماء الإيماني الصادق .
3- أما عن الانتماء الإيماني الحقيقي الذي عنوانه (الصدق) فإنّ القرآن الكريم يقدم نموذجه في قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] لم يرتابوا لأنهم يتحلّون باليقين ، والثقة بالله -سبحانه وتعالى- وهو الإيمان الصادق الذي لا ارتياب ، ولا شك معه ، لا ارتياب ولا شك فيما يتعلق بوعد الله ووعيده ، أولاً ، ولا على مستوى الحق الذي ينتمون إليه ، ويلتزمونه ، ويتمسكون به بوعي ، وبلا ارتياب . {وَجَاهَدُوا} لأنه لم يقتصر اهتمامهم بالشعائر الدينية ، والالتزامات الدينية في بعض السلوكيات ، والمعاملات ، فمع هذا كان لديهم هذا الجانب المهم في الإسلام (التحلي بالمسؤولية)، والمواقف ، والتحركات الصحيحة {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، ومتى وصل الإنسان مستوى الجهاد بالمال والنفس – في انتمائه الإيماني الصادق – فمعنى ذلك بالتأكيد أنه مهتم ، وملتزم فيما دون ذلك من الالتزامات والشعائر والأعمال الدينية ، لأن هذا هو ما قد يتهرب منه الكثيرون مع التزامهم بما هو دونه من الأعمال التي يرونها سهلة، وبسيطة ، وغير مكلفة.
ثم يُشير هذا الخطاب إلى أنّ القرآن الكريم (في سورة المؤمنين ، وفي آياتٍ أخرى) يقدم المواصفات التي تعبِّر عن المصداقية في هذا الانتماء ، والتي تتناول كل جوانب الحياة ، كل واقع الإنسان، في كل مجالات حياته . لأنّ الإيمان بمفهومه القرآني – كما سبق – هو منظومة متكاملة ، مستقره قلب الإنسان ، وينعكس في روحيته ، وسلوكه ، ومواقفه ، واهتماماته ، وأخلاقه ، ومسئولياته ، فتنطبع مسيرة حياة الإنسان بهذا الإيمان الذي يربطه بالله -سبحانه وتعالى-؛ فيعبِّد نفسه لله – جلَّ شأنه – . فالإيمان للحياة كلها ، وليس خاصاً بالمساجد والطقوس والشعائر . وهو ما يكشف عن أهمية هذا الإيمان وحاجتنا إليه في مواجهة التحديات ، والمشاكل كما سيأتي في المحور التالي من خطابه (حفظه الله) .
*حاجة الأمة إلى الانتماء الإيماني الصادق والمكتمل* :
بعد أن ميز الخطاب بين حالات رئيسية من حالات الانتماء للإيمان – وفق التشخيص القرآني – وميز بين الانتماء الإيماني الحقيقي والصادق ، والواعي ، والانتماء بالقول ، والشكليات (فئة المنافقين) أو الانتماء المزاجي القاصر ، وغير الواعي ، وهو ما أسماه (المفهوم الإعرابي للإيمان) .
وبعد أن أسس للمفهوم الإيماني الحقيقي المكتمل الذي يمتاز عن غيره ، في كونه يمثل منظومةً ترتبط بكل جوانب الحياة ، وبكل واقع الإنسان ، وعلى علاقة بكل مجالات حياته ، فإنه ينتقل ليبين لنا كيف يُفترض أن تعمل هذه المنظومة في حياتنا ؟ وكيف يمثل هذا الانتماء الإيماني الصادق – بمفهومه القرآني الصحيح والمتكامل ، وبأصالته التي تمثل امتداداً لما كان عليه رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله – أهم عامل ، وأهم ” عنصر قوة ” تحتاج إليه الأمة اليوم ، وتستفيد منه : لتواجه الأخطار ، ولكي تتعافى من جروحها المُثقلة ، ولكي تحقق تماسكها وثباتها أمام كل التحديات ، وبما يجعلها تبني حضارة بشرية مستقلة ، وعادلة .
وكان لابد للحديث حول الانتماء الإيماني الصادق والمكتمل – الذي يمثل عوامل وعناصر قوة تحتاجها الأمة اليوم – من أن يرتبط بالواقع الذي نعيشه اليوم ، ومشكلاته ، وبما يجعلنا نستشعر أهميته وحاجتنا إليه ، لذا فقد راح الخطاب يمهد لذلك من خلال الحديث عن بعض التجارب الواقعية في حياة الأمة ، وما وصلت إليه ، وذلك على النحو التالي :
– لم يخلو من الإشارة والتلميح السريع إلى الاستفادة من التجربة التاريخية في ماضي هذه الأمة ، وملاحظة آثار هذا الانتماء الايماني الصادق المهمة والعظيمة في محطات من تاريخ أمتنا ، في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ، وفي مسيرة الشعب اليمني حين انتمى هذا الانتماء الذي ترك أثراً كبيراً وعظيماً ومهماً في حياة الناس آنذاك . وهو ما يجعلنا نستشعر أهمية التمسك بهويتنا الإيمانية ، وانتمائنا الايماني الصادق في مواجهة التحديات والمخاطر اليوم سواء على المستوى العسكري ، أو الأمني ، أو الاقتصادي ،و على كل المستويات ، وفي كل المجالات .
– التأمّل في واقع الحياة من حولنا ، وفي واقع المجتمع البشري كله يكشف أنه ما من أمة من الأمم و شعب من الشعوب إلاّ وله هويته ، وثقافاته ، وعاداته ، وتقاليده ، ومفهومه الذي ينطلق منه في واقع هذه الحياة ، و يبني عليه مسيرته ، وسلوكياته ، ويصنع من خلاله مواقفه ، ويحدد مسارات حياته . ويُفهم من هذا أن الانتماء الإيماني ، والهوية الإيمانية هي – بالنسبة لأمتنا – تلك المنظومة المتكاملة للحياة بكلها .
– كما أنّنا – كأمة مسلمة – نعيش ظرفاً يختلف عن كثيرٍ من الأمم لأننا أكثر الأمم في هذه الأرض استهدافاً ، ونعيش من المشاكل والأزمات والتحديات والأخطار والمعاناة ما لا تعيشه أمةٌ أخرى. ويُفهم من هذا حاجتنا إلى هذا الانتماء الإيماني الصادق الذي يمثل أهم عامل وعنصر قوة ينهض بالأمة من جديد في مواجهة كل التحديات والمخاطر .
– وبالرغم من أن الكل أصبح يشعر بهذا الواقع البئيس الذي نعيشه ، والكل أصبح يبحث عن حلٍ للخروج من هذا الواقع ، ولكن مع الأسف فإن الكثير من أبناء هذه الأمة يعيشون ((حالةً من نقص الوعي، ومن عدم الفهم بالعدو، بالواقع، بالظروف، بطبيعة الأحداث، بأسباب كثيرٍ من المشاكل، بخلفيات كثيرٍ من المواقف، إلى درجة عدم التمييز من نحن ومن هو هذا العدو الذي يستهدفنا ، وما مستوى هذا الاستهداف ، ثم عدم الوعي بمستوى الخطر الذي نعيشه ، وأهمية أن نعود بكل جد إلى عناصر القوة لنستفيد منها في مواجهة هذه الأخطار)) هذا مع شعور الكل بالمعاناة ! والتي لم تكن وليدة اللحظة ، وإنما نتاج الكثير من المشاكل المتراكمة على مدى قرونٍ من الزمن ، بما في ذلك العوامل السلبية التي أضعفت هذه الأمة ، وتركت تأثيراً سيئاً في واقع حياتها .
كل هذا كان مهاداً للحديث عن تلك القيم (الإيمانية) التي تستقر في القلب لتنعكس في روحية الإنسان ، وسلوكه ، وتحركه ، ومواقفه ، وتترك بذلك أثراً في واقع الحياة كلها ، وبما يصحح نظرتنا إلى الإيمان كمنظومة للحياة ، لا تقتصر على المساجد ، وبعض الشعائر الدينية (( الإيمان هو للحياة ، ليس شيئاً ثانوياً، ليس خاصاً بالمساجد، ليس مجرد شعائر وطقوس، الإيمان هو للحياة بكلها وبكل ما فيها)) وبما يجعلنا نعي مقدار حاجتنا إلى هذا الانتماء ، وهذه الهوية – بمفهومها القرآني الصحيح والمتكمل – في هذا الواقع المأزوم الذي نعيشه ، إذ الحديث عن الإيمان ليس أمراً ثانوياً أو هامشياً ، لا صلة له بوقع الحياة ، ولا بما نحن في أمس الحاجة إليه :
وفيما يلي نتناول – بإيجاز – عوامل وعناصر القوة ، في هذه المنظومة المتكاملة ، ذات الصلة بحياتنا وواقعنا ، وذات العلاقة بما نحن في أمس الحاجة إليه ، كما وردت في خطابه رضوان الله عليه :
1- الصلة بالله : الانتماء الإيماني الصادق والواعي هو ما يجعلنا على صلةٍ ، واتصالٍ بالله سبحانه وتعالى : بهدايته ، ورعايته ، وتوجيهاته ، وتعليماته ، ومعونته ، وتوفيقه .. يقول المولى سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}[محمد: من الآية11] فهو يتولاهم برعايته الشاملة ، وألطافه الكبيرة ، سواءً في معادلات الصراع ، أوفي مواجهة مشاكل هذه الحياة ، وتحدياتها ، إلى غير ذلك . ولهذه الصلة أثرٌ كبيرٌ جداً في الإنسان نفسه ، وفي الأمة كأمة ، وفي المجتمع كمجتمع ، وكذلك في الواقع .
2- القوة المعنوية : ولهذا فإنّ الإيمان الحقيقي والصادق – وبهذه الصلة بالله – يمثل عنصر قوة على المستوى النفسي والمعنوي ، وهو ما نحتاج إليه في هذا الصراع ، نحتاج إلى (ثقة بالله ، أمل بالله شعور بمعية الله ، رجاء من الله لا ينقطع ..) هذه القوة المعنوية التي يحتاجها الإنسان تحميه من الإخفاق ، والانهيار ، واليأس ، والإحساس بالهزيمة ، وتحفظ له تماسكه ، وثباته ، وقوته .. بل ويصبح الإنسان – وفق هذه الصلة بالله – على اتصال برعاية معنوية منه سبحانه وتعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح: من الآية4] وهو العطاء المعنوي المهم الذي يساعد على الثبات أمام التحديات ، والمخاطر، والضغوط ، والمعاناة ، وذلك على خلاف ما قد يحدث لدى الآخرين – في مواجهة مثل هذه الظروف – من يأس ، وانهزام نفسي . كما يُذكّر بقوله سبحانه وتعالى {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا}[الكهف: من الآية14] مُوضحاً خلال ذلك بأنَّ حالة الربط على القلب هذه (رباطة الجأش) تُؤهّل الإنسان ، والمجتمع للتحرك في أهم المسؤوليات ، وللتصدي لكل المخاطر، ولمواجهة كل التحديات ، لاسيما والأمة في هذه المرحلة من تاريخها تواجه التحديات الكبيرة من أعدائها بما وصلوا إليه من إمكانات ، ونهضة ، وقوة . وفي الوقت الذي تبدو فيه هذه الأمة كحالة المريض المُثقل بمرضه ، بفعل الجبابرة والظالمين والمفسدين والمضلين الذين لعبوا دوراً سلبياً في داخل الأمة نفسها ، لكنها – بالرغم – لازالت تمتلك عنصر القوة الذي تحتاجه في سبيل إعادة بناءها من الداخل ، وفي سبيل نهوضها لمواجهة الأخطار من عدوها الخارجي بما يجعلها تتعافى ، وتقوى، وتنهض ، وتواجه كل التحديات .
3- الدافع المعنوي : وإلى جانب هذا ، وذاك ، فإنّ الصلة بالله – سبحانه وتعالى- وهذه القوة المعنوية المهمة جداً التي تجعل الأمة في مستوى التحمل ، والثبات ، وبعيداً عن حالة اليأس ، والهزيمة النفسية ، تعطي (الدافع) الذي تحتاجه الأمة لمواجهة التحديات ، والأخطار ، والدافع للعمل ، و للتحرك ، وللنهضة الحضارية التي هي في أمسِّ الحاجة إليها حتى لا تبقى رهينة الحاجة إلى عدوها في كل احتياجاتها (في قوتها ، وغذائها ، وملبسها …) ما يسمح لعدوها بحصارها ، وبالتحكم بها .
هذا الانتماء الإيماني يعطيها (الدافع) لتصبح أمةً تبني بنفسها حضارةً متميزة ، وراقية ، وعادلة تقوم على أُسسٍ ، ومبادئ عظيمة . إذ لا دافع أقوى من دافع إيمان الإنسان بالله ، رجاؤه في الله ، خوفه من الله ، وعيه بحقيقة هذه الحياة ، وإيمانه باليوم الآخر ، وبالجزاء والحساب .. كل تلك المنظومة المتكاملة في مبادئها ، وفي أخلاقها ، وفي برنامجها العملي تصنع عند الإنسان هذا الدافع الكبير جداً نحو تحمل المسؤوليات ، ونحو النهوض الحضاري .
وجميع هذا يأتي في مقابل ما يعانيه أكثر أبناء هذه الأمة من يأس ، وهزيمة نفسية ، وشعور باحتقار الذات ، والإكبار ، والإعظام ، وحالة من الانبهار بالعدو . كما هي معاناتهم أيضاً من الكسل ، والفتور، وانعدام الروح العملية ، والتنصل عن المسؤولية ، يقول رضوان الله عليه ((هذا العنصر المهم الذي هو الإيمان بمفهومه الحقيقي ومنظومته المتكاملة ، هو يمثل الدافع الذي يُحيي في الإنسان روحاً عملية ، يعرف قيمة العمل في هذه الحياة، وبالذات العمل الصالح في كل شؤون ومجالات هذه الحياة. فنحن نحتاج إلى عنصر الإيمان في القوة المعنوية، وفي الدافع المعنوي، الذي يجعلنا نتحرك عملياً بأملٍ ورجاءٍ، وبإحساسٍ بالمسؤولية، احساس بالمسؤولية، ندرك أننا في هذه الحياة نعيش المسؤولية أمام الله -سبحانه وتعالى- وأننا سنجازى، نجازى إن فرطنا، نؤاخذ ونعاقب إن قصرنا، إن عصينا الله -سبحانه وتعالى- إن فرطنا في مسؤوليتنا المهمة ، حتى على المستوى الحضاري ، الحضارة بالنسبة لهذه الأمة أن تكون أمةً تتجه لتكون أمةً قوية بكل ما تعنيه الكلمة، قويةً في اقتصادها فتكون أمةً منتجة، أمةً تصنع، أمةً تزرع، أمةً تبني لها حضارة، أمةً تنتج كل احتياجاتها الإنسانية، أمةً تسعى لأن تكون قوية ، لا تحتاج إلى أعدائها ، بل تمتلك عناصر القوة المادية إلى جانب القوة المعنوية، وتحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي، هذا جزءٌ من دينها، هذا يدخل ضمن التوجيهات الإلهية في قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، فتتجه لتكون أمةً قوية، وتدرك ما معنى أن تكون أمةً قوية.))
4- الاستقلال : وهو مبدأ إيماني مهم جداً في الإسلام ، ينبثق عن مبدأ التوحيد لله – سبحانه وتعالى- ليجعل الأمة مستقلةً حرةً لا تعاني حالة التبعية لأعدائها – من الكافرين – في اتجاهاتهم ، وأفكارهم ، وبرامجهم ، واهتماماتهم .. والمبنية على ما هم عليه من ضلال ، وباطل . ويبين لنا هذا الخطاب ما يترتب في واقعنا على حالة التبعية تلك ، مع ما هم عليه من نظرةٍ ، وموقفٍ عدائي من أبناء هذه الأمة . كحال الأمريكي والإسرائيلي – الذي يتجه البعض اليوم لموالاته – والذي يحقد ، ويحتقر أبناء هذه الأمة ، ويريد – حتّى لمن يتبعوه – الهوان ، والضعة ، والضعف ، والضياع ، لتبقى هذه الأمة تحت سيطرته ، وليعبث بها ، ويتحكم بمقدراتها ، وثرواتها ، ويستغل أبناءها فيما يحقق مصلحته هو ، وليس مصلحة هذه الأمة . غير أنّ الأمة – وفق هذا الانتماء الإيماني الصحيح – لا يمكن لها أن تعيش حالة التبعية تلك لا على المستوى الفكري ، ولا الثقافي ، ولا بأي شكل من الأشكال ، لأنّ لها فكرها ، وثقافتها المنبثقة من القرآن الكريم ، ومن آيات الله . إنّه المبدأ المهم – ضمن هذه المنظومة الإيمانية المتكاملة – الذي يبنينا كأمةٍ مستقلة ، ويحصننا من العبودية ، والإذلال ، والاستعمار ، كما يقول رضوان الله عليه ، ((ويجعلنا ندرك ما معنى أن نكون أقوياء كأمةٍ لتستطيع أن تحقق لنفسها هذا الاستقلال الذي يحاربنا عليه العدو، العدو يحاربنا بكل أشكال المحاربة ؛ ليضمن السيطرة علينا، السيطرة التامة، السيطرة الشاملة. هنا نجد أن مفهوم الإيمان، وأن الهوية الإيمانية ، وأن الانتماء الإيماني له أهمية كبيرة جداً كعنصر قوة ، وكحاجة نحتاج إليها كأمةٍ مسلمة ، فنلتفت من خلال هذه المناسبة إلى هذا المفهوم ، إلى مدلول هذا الانتماء ، إلى هذه الهوية بكل ما تعنيه ، بكل علاقتها بواقع حياتنا.))
5- العزَّة : ولا يزال هذا الخطاب المبين – في جمعة رجب 1441ه – يتناول عناصر وجوانب هامة من المنظومة الإيمانية ، كاشفاً عن العلاقات الداخلية المتفاعلة بينها ، وعن علاقة هذا الإيمان المتكامل بواقع الحياة ، وبما هي الأمة في أمس الحاجة إليه اليوم لتستعيد عافيتها ، ونهوضها ، ومن ذلك “العزة” ، وهي – فيما يبدو من طرحه حفظه الله – شعورٌ وإحساس يلازم أبناء المجتمع المؤمن مع تحقق صلتهم الحقيقية والصادقة بالله ، ونتيجة حتمة وواقعية سيعيشونها – ويعيشها الآخرين – في حياتهم ، وفي مسيرتهم ضمن ما يتحقق لهم بانتمائهم لهذه المنظومة الإيمانية المتكاملة بمبادئها ، وأخلاقها وقيمها ، يقول : (( عندما نعود إلى الإيمان كمنظومة متكاملة في مبادئه ، في قيمه ، في أخلاقه ، ونجد أن واحداً من أهم قيم هذا الإيمان هو العزة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، ونعرف ما معنى أن نكون أعزاء ، ما يعنيه لنا هذا في واقع حياتنا ، في علاقتنا بالآخرين ، في معركتنا مع الآخرين ، ندرك قيمة هذا الإيمان ، وماذا يراد لنا منه ، ماذا يريده الله لنا به […] الإيمان في مبادئه وقيمه وأخلاقه تتحقق به العزة ، يحقق لنا العزة بكل ما تعنيه ، لا نعيش حالة الذل والهوان لصالح أعدائنا ، لا نعيش حالة التبعية والارتهان والخنوع لهم والاستسلام لهم . لا ، نعيش حالةً من العزة والمنعة والكرامة ؛ وبالتالي نتحرر من كل حالات الذلة والهوان والاستسلام والخنوع لأعداء الأمة.))
6- الرحمة ، والعلاقات الداخلية بين أبناء المجتمع : في هذه المنظومة الإيمانية المتكاملة هناك قيمة يشير إليها صاحب الخطاب – رضوان الله عليه – وهي من أهم القيم “الرحمة” ، وهي عنوان أساسي ، ومهم في هذا الدين ، وفي هذا الانتماء ، إذ يقول تعالى : {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29] كما يُذكّر بقوله سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: الآية17] مُشيراً إلى ما يعنيه مدلول الرحمة ، وامتداداتها العملية في واقع حياة الأمة ، وعلى مستوى العلاقات الداخلية بين أفرادها ، يقول ((فهي تتكافل ، وتتعاون، وتتظافر جهودها ، وتعطف في داخلها على بعضها البعض ، وتتعامل بالمعروف مع بعضها البعض ، وتتعاون مع بعضها البعض .. بكل ما لذلك من أثر مهم في تعزيز الروابط بين أبناء هذه الأمة؛ فيكونون كالجسد الواحد، فيكونون كما قال الله تعالى عنهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: من الآية71]، فيكونون إخوة بكل ما تعنيه الكلمة ، فيكونون أمةً واحدة متعاونة ، متظافرةً جهودها بكل ما لذلك من أثر ونتائج مهمة في الواقع .))
7- الوعي ، البصيرة ، النور : في إطار هذه العلاقة الإيمانية بالله – سبحانه وتعالى- فإنّ القرآن الكريم يؤكِّد لنا هذا الجانب المهم الذي نستفيد منه من خلال هذا الانتماء ، بمفهومه القرآني ، ومنظومته المتكاملة ، فهو يقول في كتابه الكريم : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة: 257] ويقول جلَّ شأنه : {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[الحديد: من الآية9] ، ويقول عن كتابه {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: من الآية57] ويقول {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[النمل: الآية2] والقرآن الكريم يُعّبر في كل ذلك عن أثره ، وفائدته ، وأهميته ، فهو كتاب هداية يهتدي به المؤمنون ، ويعطينا هذا الخطاب توصيفاً للعلاقة المفترضة بين المؤمنين وبين كتاب الله (( هو بالنسبة لهم مفاهيم ، فكر ، ثقافة ، هو بالنسبة لهم هداية بكل ما تعنيه ، وإرشاد إلى كل خير ، إلى كل حكمة ، إلى ما يحقق رضا الله – سبحانه وتعالى – إلى ما فيه الخير ، إلى ما فيه الفوز ، إلى ما فيه النصر ، إلى ما فيه الفلاح ، إلى ما به السعادة ، إلى غير ذلك من العناوين المهمة بالنسبة لهذا الإنسان.)) وأول ما تحتاج إليه الأمة اليوم في مواجهتها للكثير من الفتن والمشاكل ، والتحديات ، والمخاطر هو “الوعي” ، فحاجتها لذلك مهمة ، ومُلحة جداً (( النور في كل ما يعنيه : من وعيٍ ، وبصيرةٍ ، وفهمٍ صحيح ، وثقافةٍ صحيحة ، وفكرةٍ سليمة ، ورؤيةٍ صحيحةٍ وسليمة)) إلى جانب بقية العناصر ، والقيم والمبادئ : من عزة ، ورحمة ، وكرامة ، واستقلال ، وقوة معنوية ، ودافع معنوي ، وتوجه لبناء حضارة صحيحة – بكل تلك القيم التي تتحول إلى ممارسة عملية ، وإلى عادات وتقاليد ونمط حياة تجسد تلك القيم والمبادئ – وفي نهاية المطاف فإنّ كل هذا يمثل عاملاً مهماً لإنقاذنا، للحفاظ علينا ، لتماسكنا .
وفي المقابل ، وأمام جميع هذه التحديات التي تواجهنا ، والتي لا يمكن لنا تجاهلها ، فإنّ النتيجة الحتمية لفقدان هويتنا الإيمانية ستكون الضياع ، يقول رضوان الله عليه (( نحن في هذا العصر كأمةٍ مسلمة إذا فقدنا هويتنا الإيمانية، فالنتيجة الحتمية المؤكدة هي الضياع، لا يحمي لنا كأمةٍ مسلمة كياننا ووجودنا كأمة ، ويحفظ لنا وجودنا كأمة ، ويحمينا كأمة ، ويدفع عنا المخاطر والتحديات التي نعيشها كأمة، إلا الحفاظ على هذه الهوية، إلا الالتزام بهذا الانتماء بمفهومه الصحيح، والتمسك به بمفهومه الصحيح، وتنقية واقعنا حتى يتطابق مع هذا المفهوم بشكله الصحيح، هذا شيءٌ نحتاج إليه، حالة الاستهداف وما يمتلكه أعداؤنا من إمكانات تؤثر على الكثير من أبنائنا في كل شؤون حياتهم، إمكانات إعلامية هائلة، إمكانيات للغزو الثقافي والفكري، وللتضليل وللإفساد، تؤثر على الكثير من أبناء أمتنا في مفاهيمهم، في ثقافاتهم، في تفكيرهم، وحتى في نمط حياتهم، وفي سلوكهم، وفي أعمالهم ؛ ثم بالتالي في واقعهم ، حالة خطيرة جداً ، حالة تساعد العدو على أن يسيطر علينا.))
ويشير – من جملة ما يشير إليه هذا الخطاب – إلى بعض الجوانب المهمة في الصراع الذي تعيشه الأمة في حاضرها ، وإلى طبيعة هذه التحديات التي تواجهها ، منبهاً إلى طبيعة الاستهداف الموجه إلى الثقافة ، والى الهوية ، وما يترتب عليه ، حيث نصبح أمةً ضائعةً ، ومُستغلةً ، إذا ما استطاع العدو أن يتغلغل إلى أفكارنا ، ومفاهيمنا ، وسلوكنا . وهو يذكّر بالتشخيص القرآني الدقيق لهذا العدو الذي لا يحب الخير لنا ، يتساءل أمام المتلقي ((وهل العدو يريد لنا الخير؟ لا، هم كما قال الله عنهم: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}[آل عمران: من الآية119]، هم كما قال الله تعالى عنهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: من الآية105]، لو استطاعوا أن يقطعوا عنا حتى الأكسجين في هذه الدنيا لأوقفوه عنا وقطعوه عنا، لو استطاعوا لحجوا عنا نور الشمس، لو استطاعوا لسلبوا منَّا كل خيرٍ حتى من الله، فكيف يمكن أن يريدوا لنا الخير من أنفسهم ومن عندهم، كل سياساتهم، كل برامجهم، كل توجهاتهم التي يستهدفوننا بها هي تصب في اتجاهٍ واحد، ولتحقيق هدفٍ واحد: هو السيطرة التامة علينا، عندما يسيطرون على الأفكار، على الثقافات، على المفاهيم، حتى على نمط الحياة، والبعض يندهش لهم، يتأثر بهم، ينبهر بهم، ثم يسعى لتقليدهم ، ثم يتقبل كل ما هو آتٍ من عندهم، وهو في هذه الحالة يصبح تحت سيطرتهم ، السيطرة عليه تحققت بشكلٍ تلقائي،)) ثم يبين كيف أن حالة التبعية وفقدان هويتنا الإيمانية تحول دون قدرتنا على بناء حضارة حقيقية مستقلة ، لأنهم لا يريدون لنا أن نكون أمةً قوية ، ومتمكنةً ، تمتلك أي مقومات لبناء حضارتها المستقلة ، مُشيراُ إلى أمثلة ذلك من خلال (الاقتصاد) و(العلم) . والخطاب في هذا السياق يشد تأمّل المتلقي ، وانتباهه إلى حقيقة الواقع الاقتصادي ، لمن يوالونهم حتى ، يقول ((أكبر ما يبنون واقعهم عليه ، هو أن يكونوا سوقاً ، لا أقل ولا أكثر ، سوقاً ، وهذا ما يريدونه لنا على المستوى الاقتصادي : أن نكون سوقاً لهم، أن ينهبوا الطاقة بشكلٍ خام، كل المواد الخام الموجودة في بلداننا أن ينهبوها: النفط، المعادن، الخيرات، كمادة خام أن تنهب، ثم أن يستغلوها هم، أن يستفيدوا منها هم، وأن يسوقوا البعض منها، وقد يكون مشوباً بالكثير والكثير من المضار، أن يسوقوه إلينا، ثم نجعل من أنفسنا سوقاً استهلاكية . أما أن نكون أمةً تمتلك المعرفة، والعلم، والانتاج، وتحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي، وتكون قويةً بكل ما تعنيه الكلمة في اقتصادها بقوة انتاجها، فهذا ما لا يسمحون به، ولا يريدونه لنا كأمة . )) وهو يقيم مقارنة بين نماذج اقتصادية واقعية لمن يعيشون حالة التبعية هذا العدو كالسعودية التي تتحول إلى مجرد أسواق استهلاكية لمنتجاتهم ، وبين من يعيشون حالة الاستقلال كالصين واليابان ، يقول ((مع أن البعض من تلك الدول (دول الخليج) تمتلك من الثروات ما لا تمتلكه اليابان، ما لا تمتلكه الصين، ولكن أين هي على مستوى انتاجها، على مستوى أن تحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي حتى في القوت الضروري، أن تنتج من القمح ما يغطي احتياجها؟ هي بعيدة عن ذلك . أسواق تبنى في منطقتنا ، وثروات خام تصدر وتؤخذ لصالح أعداء الأمة)) كما أنّه في موضعٍ لاحق من ذات الخطاب يُشير إلى أنّ الكثير من الحلول لمشاكلنا الاقتصادية تدخل في إطار هذا المفهوم الإيماني الحضاري ((هذا المفهوم الإيماني الحضاري الذي يتجه إلى البناء الداخلي ، الذي يتجه إلى عوامل القوة بكل أشكالها وأنواعها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}،)) ويُعقّب خطابه بالإشارة أيضاً إلى سياساتهم العدائية على مستوى (العلم) بوصفه مقوماً من مقومات الحضارة ((حتى على مستوى مقومات الحضارة من امتلاك العلم ، ثم توظيف هذا العلم في بناء حضارة ، هذا ما لا يريدونه ، هم من قتلوا العلماء واستهدفوا الكثير من العلماء في العراق وفي غير العراق ، هم من يحرصون على أن تكون السياسات التي تبنى عليها مناهجنا التعليمية بالشكل الذي يبني واقعنا على حسب ما يريدون ويرغبون، وواقع الأمة – حتى بالنسبة للذين يوالونهم – هو معروف ؛ واقعٌ غير بنَّاء.))
هكذا كان هذا الخطاب – ومن خلال تقديم القرآن وهديه ، ومن خلال عرض الواقع المعيش والوعي بحقائقه – يسعى ليرسخ لدينا ما يلي :
1- أنّ الإيمان بمفهومه القرآني الصحيح وبمنظومته الكاملة هو عنصر خلاص، عنصر حرية، وعنصر قوة نحن في أمس الحاجة إليه .
2- أنّه عاملٌ أساسيٌ لتماسك الأمة ، هو عاملٌ رئيسيٌ تحتاج إليه الأمة لتواجه كل هذه التحديات وكل هذه الأخطار، ولتصحح وضعيتها ، ولتنقذ نفسها في واقعها ، وفي مواجهة التحديات والأعداء .
3- أننا بحاجة إلى العناية بالهوية الإيمانية ، إلى أن نرسِّخها ؛ لأنها عملية تربوية ، وعملية تعليمية ، وعملية نحتاج إليها كعادات ، وتقاليد ، ونمط حياة .
ودون هذا الوعي الذي يكشفه الخطاب بطبيعة الصراع القائم ، وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة اليوم ، وما يتعلق باستراتيجيات الهيمنة غير المباشرة التي تستهدف الأمة وأبنائها على أكثر من مستوى وبطريقة شاملة ، كما تستهدف الهوية ، والثقافة ، وما يترتب على ذلك ، فإنّ الخطاب يكشف عن وعي عميق بهداية القرآن الكريم لمثل هذه القضايا ، وعلاقته بمسألة الهوية ، والثقافة ، لذا فهو – من جانب آخر – خطابٌ معرفي يصحح رؤيتنا للقرآن ، وعلاقتنا به ، إنَّه يطرح مبدأ الإيمان – برؤية قرآنية واسعة ومتكاملة – تتجاوز الإطار التقليدي الذي فرضته الرؤية الفقهية الضيقة ، ومارسته الطروحات التقليدية ، ولا ينشغل بتجزئة الموضوع وعرضه من خلال أقسام/ أركان الإيمان : (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) إنّه لا يعيد تكرار الموضوع في ذات القالب المألوف ، فهو خطاب واقعي ، يعيد طرح مسألة الإيمان للأمة المسلمة ، ليصحح وعيها بهذا الانتماء ، وبطبيعته ، وعلاقته بحياتها كلها ، وبوصفه منظومة متكاملة للحياة من المبادئ ، من القيم ، من الأخلاق ، من الالتزامات العملية . وعنصر قوة ، وخلاص تحتاج الأمة التمسك به ، واستيعاب مفهومه القرآني الصحيح والمتكامل الذي هو مفهوم حضاري يتجه إلى بنائها من الداخل في كافة المستويات . وإلى تعزيز قدراتها لمواجهة عدوها ، ومواجهة كل الصعاب والتحديات التي تواجهها . غير أنّه لم يكن بالإمكان طرح مسألة كهذه (الإيمان) بوصفها الحل في مواجهة ازمة الحضارية الشاملة التي تعيشها الأمة ، إلا من خلال نظرة كلية شاملة ، وعميقة – للنص القرآني – تدرك الأنساق الداخلية المترابطة في هذا التنزيل الجليل ، وتدرك العلاقات الداخلية بين الأجزاء ، لتستوعب تقديم وطرح هذا الهدي الرباني في واقع الحياة ، بما يصحح رؤيتنا له كمنهج للحياة ، يهدي إلى مشكلاتها ، وحلولها ، وتتناول هدايته مختلف مجالاتها وشئونها .
وهو خطابٌ مُؤسِّس لغيره ، ومُلهم ، يُركن إليه في النشاط التثقيفي ، والتعليمي ، وفي إعداد المقررات الدراسية ، وتجديدها ، إذ يعيد طرح موضوع (الإيمان) وتعريفه – وفق مفهومه القرآني الصحيح – ويعطي التصور لمنظومته المتكاملة ، ويعيد رسم علاقته بالحياة ، ويؤسس لعناوين رئيسية (الانتماء الإيماني ، حالات الانتماء ، الهوية الإيمانية ..) كل هذا – مع مراعاة تكامله مع خطابات أُخرى سابقة تناولت موضوع الهوية الإيمانية – يرسم طريقاً ومنهجاً وهيكلاً – يمكن التوسع فيه – لبناء خططه المعرفية والتعليمية ، ومقرراته الدراسية .
والله الموفق