المحاضرة الرمضانية الحادية عشر للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي (نص)
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
تحدثنا في محاضرة الأمس على ضوء الآيات المباركة في سورة العصر، ونشير اليوم إلى بعض العناوين المهمة والأساسية التي وردت بالأمس؛ لنستكمل على ضوء ذلك ما بقي من الحديث على ضوء الآيات المباركة في السورة.
تحدثنا بالأمس عن القسَم والمقسِم هو الله -سبحانه وتعالى-، وهذا- كما قلنا- يلفت نظرنا إلى أهمية الموضوع، عندما يقسم الله -جلَّ شأنه- في كبريائه، وعظمته، وعلو شأنه، على موضوع، فهو بالتأكيد في غاية الأهمية لنا نحن.
ثانياً: المقسَم عليه هو الخسارة الحتمية للإنسان، مع تقديم استثناءٍ حصري للسلامة من هذه الخسارة، ولتفادي هذه الخسارة، وهذه الخسارة قد وقع الإنسان فيها ما لم يخرج منها من خلال ذلك الاستثناء الحصري، وتلك الطريقة التي رسمها الله للخروج من الخسارة، وإلَّا فالإنسان وهو يصرف وينفق ويخسر جهده ووقته وحياته وعمله فيما لا يفوز به، بل فيما يحمل في كثيرٍ منه الأوزار والذنوب التي تخلده في تلك الخسارة، وتجعله يتكبد تلك الخسارة على نحوٍ فظيع، الخسارة أيضاً قد تكون على المستوى الفردي، ثم أوسع من ذلك: فردٌ ضمن جماعة، فردٌ ضمن أمة، ممن لهم اتجاهات منحرفة عن تلك الطريق التي رسمها الله -سبحانه وتعالى- في الاستثناء الحصري في السورة المباركة.
ثم تحدثنا عن هذا الاستثناء، وأنه لا طريق آخر، لو أراد الإنسان طريقاً للنجاة، للسلامة من هذه الخسارة الرهيبة التي- كما أشرنا بالأمس- تقاس بمستوى ما يفوت هذا الإنسان، وبمستوى ما يقع فيه، الذي يفوته هو كل ما وعد الله به في الدنيا والآخرة، بما في ذلك رضوان الله والجنة، وذلك النعيم العظيم بكل ما فيه من تفاصيل، والذي يقع فيه هو الشقاء بأي شكلٍ كان في هذه الحياة، ومع ذلك في الآخرة جهنم والعياذ بالله، والسخط من الله، وفقدان الرحمة من الله -سبحانه وتعالى-، وهو أمرٌ رهيبٌ، عذابٌ للأبد، شقاءٌ وخسارةٌ رهيبةٌ جدًّا، يخسر الإنسان فيها كل شيء: نفسه، وأهله، وأقاربه، يعيش فيها وحيداً، تقطعت كل أواصر العلاقة مع الآخرين، وهو يكابد تلك الآلام والمعاناة الشديدة جدًّا، والعذاب الشديد جدًّا في جهنم وللأبد، أمر رهيب للغاية، مع ذلك الخسارة في الدنيا، أشرنا إلى بعضٍ من ذلك في حديثنا بالأمس.
تحدثنا عن العمل الصالح بعد الإيمان، أولاً: الإيمان، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، الإيمان بمفهومه القرآني، وليس الإيمان الأعرابي المنتشر في الساحة إلى حدٍ كبير، والذي فيه نواقص كبيرة جدًّا، ومهمة جدًّا، وخطيرة جدًّا، أيضاً العمل الصالح كدائرة واسعة، وما يجعل من العمل عملاً صالحاً- كما أشرنا بالأمس- من حيث المنطلق والدافع والنية، ومن حيث مطابقة هذا العمل للتوجيهات الإلهية، ومطابقته للمشروع، ومن حيث سلامته من الشوائب المفسدة، ويحافظ الإنسان عليه فيما بعد من الإحباط، دائرة واسعة دائرة العمل الصالح، تشمل أشياء كثيرة جدًّا، وفتحنا نافذة على ضوء الآية المباركة فيما يتعلق بالإتقان بالعمل، تحدثنا عنها أمس، لا حاجة بنا إلى العودة إلى تلك التفاصيل، يكفي ما تحدثنا عنه بالأمس.
نصل إلى قوله -سبحانه وتعالى-: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، الحق عنوانٌ رئيسيٌ ومهمٌ في المسيرة الإيمانية، في طريق النجاة، وموقعه في تعليمات الله -سبحانه وتعالى- كعنوانٍ رئيسي بارزٌ جدًّا، ولذلك من لوازم النجاة، من لوازم الإيمان الصادق أن يكون الإنسان متَّبعاً للحق، مهتدياً يهتدي إلى الحق، فيعرف الحق، ويلتزم بهذا الحق، ويتمسك بهذا الحق من واقعه الفردي أولاً، ثم الأمة كأمة؛ لأن هناك مسؤوليات جماعية، هناك التزامات عليك كشخصٍ مؤمن، التزامات عليك في حياتك الشخصية، في واقعك العملي، في واقعك الأسري، في واقعك ومحيطك المجتمعي، ثم التزامات على مستوى أوسع، التزاماتٌ عليك ضمن أمة، فردية لكن ضمن أمة، تتعاون فيها مع إخوتك من المؤمنين والمؤمنات للنهوض بها، الحق كمسؤوليات جانبٌ مهم، هناك مسؤوليات مهمة علينا أن نلتزم بها، علينا أن نهتم بها، علينا أن ننهض بها، من بينها إقامة الحق في هذه الحياة؛ لكي يكون سائداً، لكي يكون متَّبعاً، لكي يكون قائماً بشكلٍ فعليٍ وعملي، وليس فقط موجوداً في بطون الكتب، موجوداً في داخل الآيات القرآنية، بل يتحول إلى الواقع العملي، إلى واقع الحياة، نلتزم به في شؤون حياتنا وفي مواقفنا، المواقف الحق التي تتعلق بالمسؤوليات الكبيرة للأمة: في الجهاد في سبيل الله، في العمل على إعلاء كلمة الله، في التصدي للأشرار والطغاة والمفسدين في الأرض، في دفع الشر عن الناس، ودفع البغي والعدوان، في العمل على دفع المظالم الكبيرة منها والصغيرة، مسؤوليات جماعية يتحرك فيها كل الذين يستجيبون لله -سبحانه وتعالى-، عباد الله من المؤمنين والمؤمنات يتحركون فيها بشكلٍ جماعي، ويتعاونون على القيام بها، وهنا لا بدَّ من التواصي، التواصي في هذه المواقف الكبيرة له أهميةٌ كبيرة؛ لأنه يزرع النشاط، يعزز الموقف، ولأنه أيضاً يسد الثغرة الكبيرة والفجوة الكبيرة في النشاط التوعوي في الأمة، إذا كانت عملية التواصي من المسؤوليات العامة، على كلٍ أن يساهم فيها، فهذا سيفيد؛ حتى لا تبقى الساحة في حالةٍ من الفراغ، يعني: موضوع التواصي بالحق يمكن لكل شخص أن يوصي بالحق، أن يذكِّر بالمسؤوليات الكبيرة، يمكن للجميع أن يتحركوا؛ حتى لا يسود الملل والفتور، أحياناً حتى بعد القيام بالمسؤوليات الكبيرة، والتحرك للمواقف الكبيرة، يبقى هناك أهمية للتذكير؛ حتى يكون الاستمرار بشكلٍ نشط، وعلى نحوٍ قويٍ وفاعلٍ وواسع، وإلَّا يسود الفتور أحياناً، ويسود الملل أحياناً، ثم يأتي التقصير بعد ذلك، فلا بد من التواصي بالحق بكل ما له من أهمية، بكل ما يتركه من أثر في التشجيع للناس، بكل ما له من قيمة في تفعيل حركة الناس في الساحة للالتزام بمسؤولياتهم الكبيرة، هذه مسألة مهمة جدًّا.
أيضاً إذا كان هناك نشاط في التواصي بالحق يكون الناس بعيدين عن التواصي بتركه، عن التخاذل؛ لأنه مع الصمت، مع السكوت، مع عدم التذكير، مع عدم التواصي، يأتي أحياناً ما هو أسوأ من ذلك التواصي بترك الحق، التواصي بالتخاذل عن الموقف الحق، وهذه من أسوأ الحالات، ومن أخطرها؛ لأنه إذا كان ترك التواصي خسراناً، فالتواصي بالباطل والتواصي بترك الحق خسرانٌ أكبر ووزرٌ أعظم، وهذا ما يحصل في بعض المجتمعات، أن البعض ليس فقط أنه لا يهتم بالتواصي بالحق، لا يهتم بالتذكير بالمسؤوليات المهمة، بالتذكير بالموقف الحق، بالتشجيع على الموقف الحق؛ إنما هو أيضاً يوصي بترك الموقف الحق، فيتجه إلى الآخرين ليوصيهم بأن يتركوا الموقف الحق، الذي هو من أهم المواقف، موقف لدفع بغيٍ وعدوانٍ وظلمٍ كبير وشرٍ رهيب، دفع سيطرة الأشرار والطغاة من أعداء الأمة، فيأتي البعض ليثبط ويخذِّل، ويرغِّب في التنصل عن المسؤولية… وهكذا.
فإذا كان هناك نشاط من التواصي بالحق، فهو يغطي هذا الفراغ في الساحة، ليست المسألة مقتصرة على الخطيب، على المثقف، على العالم؛ إنما هي في دائرة كل الذين آمنوا، التواصي بالحق، وهي مسألة سهلة ومتاحة، ولا تحتاج إلى موهبة خطابية، يستطيع الناس أن يتحدثوا ولو بالشكل الطبيعي فيما بينهم: [يا جماعة علينا مسؤولية وعلينا واجب ان احنا نتقي الله، والمفترض نتحرك ولا نقصر]، إذا لمس الإنسان فتوراً يذكر، ينصح، يوصي، يوصي نفسه ويوصي الآخرين، هذا سيواجه الفتور والملل، وسيواجه أيضاً حالة الفراغ في الساحة، وسيكون له أثر في التشجيع، وسيكون له أثر إيجابي في الاندفاع.
عندما تلحظ مثلاً الوقفات في ظل تحرك الناس للتذكير بالمسؤولية، والتصدي للعدوان، وأهمية التحشيد، هذه الوقفات المجتمعية التي يجتمع فيها الناس، ومن جديد يذكرون أنفسهم بالمسؤولية ويعلنون موقفهم ويؤكدون عليه، وهو الموقف الحق في التصدي لهذا العدوان على بلدنا، أو في التضامن مع أبناء الأمة الأحرار ضد العدو الكبير للأمة، ضد الأمريكي والإسرائيلي ومن يتحالف معهما، وهكذا القضايا المهمة والقضايا الكبيرة، الحق في المسؤوليات والحق في المواقف هو الحق الذي كاد أن يضيع في كثيرٍ من أقطار الأمة، كاد أن يضيع، ولهذا تلمس أهمية أن يكون التواصي به جزءاً أساسياً وعنصراً لازماً من عناصر النجاة والفوز؛ لأنه يراد للناس أن يسكتوا، أول ما يحرص عليه أعداء الأمة: أن يسكتوا الناس عن التواصي بالحق في المسؤوليات والقضايا الكبيرة، والمواقف المهمة، أرادوا للناس أن يسكتوا؛ بينما الله يريد لنا أن نتكلم، أن نوصي، نوصي بعضنا البعض، نوصي مجتمعنا، نوصي أمتنا، نتواصى فيما بيننا، ويلحظ الإنسان حكمة الله -سبحانه وتعالى- في تشريعه، عندما تلحظ مسألة موقعها في الإسلام مهمٌ، موقعها في القرآن مهمٌ، تلحظ بالفعل أهميتها في واقع الناس، وخطورة التفريط فيها في واقع الناس، وكيف تمثِّل بالنسبة لقوى الباطل وقوى الشر وقوى الضلال أمراً مزعجاً أكثر، ويحاربونها أكثر، فهذا الحق في المواقف المهمة، الحق في المسؤوليات الكبيرة ضاع في واقع الأمة في أغلب مجتمعات أمتنا الإسلامية، غاب، بل أصبح التواصي به مُجرَّما ممنوعاً، ويخاف الكثير من الناس في كثير من المجتمعات في كثير من الشعوب من التواصي بالحق في المواقف المهمة، والمسؤوليات الكبيرة.
ولذلك من نعمة الله -سبحانه وتعالى- عندما يتحرر مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية، عندما يتحرر من تلك القيود، من تلك الأغلال؛ فيتحرك في المواقف الحق، والمسؤوليات الحق، وهذه نعمة كبيرة، يحافظ عليها، يعزز موقفه فيها، يتصدى لكل الذين يحاولون أن يوصوا بترك الحق في هذه المواقف المهمة وفي المسؤوليات الكبيرة، هذا أمرٌ مهم.
أيضاً التواصي بالحق في القضايا الكبيرة والصغيرة، على مستوى القضايا الاجتماعية: نزاع بين قبيلة وأخرى، نزاع بين شخصٍ وآخر، إشكالات في الواقع الحياتي للناس، ويأتي في الواقع الكثير مثلاً من المواقف أو القضايا التي قد يتحرك فيها البعض بعيداً عن الحق.
نزاع بين قبيلةٍ وأخرى، يأتي البعض يحاول أن يتبنى موقفاً غير الحق، فيتعصب معه البعض، هذا أمر خطير جدًّا؛ حينها تبرز أهمية هذه المسؤولية، حينما يأتي البعض من المؤمنين، ممن يدركون أهمية التواصي بالحق، فيوصون بالحق، ويدعون إلى الحق، ويسعون إلى أن يتوجه الموقف نحو الالتزام بالحق، والتمسك بالحق، المطالبة بالحق، والاقتصار على الحق، إذا أصبح الحق هو المطلب للجميع ستحتل المشاكل بسهولة، ستحتل النزاعات بسهولة، عندما يصبح مطلباً للجميع في مجتمعاتنا الإسلامية.
على مستوى الأشخاص أو القضايا في الواقع المجتمعي، عندما يكون التذكير بالحق والتواصي بالحق في كل الأمور، في كبيرها وصغيرها، سيتجه الناس للالتزام بالحق الذي فيه نجاتهم وفوزهم وفلاحهم، وسيسلمون الخسارة الكبيرة جدًّا، وخسارات رهيبة، ما من موقفٍ باطل إلا ويترتب عليه خسارة، وخسارة خطيرة جدًّا؛ لأن الخسارة في الموقف الباطل ليست في الدنيا فحسب، وإنما تمتد إلى الآخرة، تمتد إلى المستقبل الأبدي، تمتد إلى الأمور المهمة والكبيرة، تخسر بها رضوان الله والجنة، تدخل بها النار والعياذ بالله، فهي مسألة في غاية الأهمية.
ثم إضافةً إلى جانب التذكير بالحق في المواقف المهمة والمسؤوليات الكبيرة، والتذكير بالحق في القضايا الصغيرة والكبيرة، التذكير بالحق على مستوى الالتزام العملي، التذكير بالحق على مستوى الالتزام العملي من أهم المسائل، والتواصي به في إطار الالتزام العملي، والناس يتحركون، والمؤمنون والمؤمنات يتحركون كأمة مؤمنة تعمل على إقامة الحق، وعلى التحرك للحق، وعلى أن تجسد في واقعها قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف: الآية181]، لا بدَّ من التواصي بالحق.
الإنسان قد يتحرك في هذا الإطار: في إطار أمة تسعى لأن تقيم الحق، وأن تهدي بالحق، وتهتدي به، وتعدل به، وتقيمه في واقع الحياة، في إطار المسيرة العملية يأتي الهوى، تأتي المؤثرات الكثيرة جدًّا التي تؤثر على الكثير من الناس: إما إمكانيات، إما سلطة، إما موقع، إما مسؤولية معينة، إما انفعالات وغضب، إما رغبات وشهوات، إما مخاوف… عوامل مؤثرة تؤثر على الإنسان، ففي أدائه العملي، وفي أداء مسؤولياته، قد يخرج عن الحق في موقفٍ معين، في تصرفٍ معين، في فعلٍ معين، في سلوكٍ معين، حينها هناك أهمية للتواصي بالحق، والتناصح بالحق، ولا يتحول الواقع إلى واقع مجاملات ومداهنات يسود فيه الانحراف، ويتعاظم فيه الانحراف، ولا أحد يتحدث مع أحد، ولا أحد يوصيه بالحق، لا بدَّ من التواصي بالحق والتنبيه عند ملاحظة بوادر انحراف، أو مؤشرات انحراف عن هذا الحق في قضيةٍ معينة، في موقفٍ معين، في سلوكٍ معين، في تصرفٍ معين، في تقصيرٍ معين، تقصيرٍ في مسؤولية مهمة، يأتي التواصي بالحق، ويجب أن تكون هذه حالة مقبولة، ومطلوبة وليس فقط مقبولة، مطلوبة، والإنسان المؤمن لن يأنف إذا ذُكِّر بالحق؛ لأنه من استثقل الحق أن يقال له، سيستثقله في العمل أكثر، كما يفيده كلام الإمام علي -عليه السلام-، من استثقل الحق أن يقال له وأن ينصح به؛ فبالتأكيد هو أبعد عن الالتزام به في الواقع العملي وهو أثقل عليه في الالتزام العملي، وهو أثقل عليه في الالتزام العملي.
لا بدَّ أن نتقبل من بعضنا البعض الالتزام العملي، وأن يعتبر الإنسان هذا أمراً إيجابياً، وأنه علامة إيجابية ومؤشر إيجابي، الإنسان مهما كان موقعه ومرتبته في المسؤوليات، أنت رئيس، أو أنت قائد، أو أنت زعيم، أو أنت مدير، أو أنت وزير، أو أنت مسؤول، أو أنت شيخ، أو أنت مشرف… في أي مستوى من مستويات المسؤولية، وفي أي موقع من مواقع المسؤولية، وفي أي مرتبة أنت، لا تأنف عندما توصى بالحق، لا تغضب عندما توصى بالحق، لا تستاء عندما توصى بالحق، لا تنفعل عندما توصى بالحق، لا تعادي من يوصيك بالحق؛ لأنه أوصاك بالحق، لا تحاول أن تتغير في علاقتك معه، البعض قد يستاء ممن يوصيه بالحق بشكل ملاحظة تجاه تقصير قصر فيه، أو تجاه خطإ في موقف معين أو سلوكٍ معين، قد يغضب وينفعل ويستاء من ذلك الشخص، ويتخذ منه موقفاً، قد يتعامل معه بالإقصاء إذا كان في نطاق مسؤوليته، هو في إطار مديريته كمدير، أو في نطاق إشرافه كمشرف، أو في إطار مسؤوليته كقائد؛ لأنه أوصاه بالحق يأنف منه، يغضب منه، يستاء منه، يحاول أن يبعده عنه وأن يتخلص منه، هذه جريمة، لا يجوز للإنسان أن يستاء لهذه الدرجة.
ثم أيضاً عملية التواصي بالحق لا بدَّ أن تكون بدافعٍ صحيح، بدافعٍ إيماني، وبطريقةٍ صحيحة، وبكيفيةٍ صحيحة، وفي جوٍ من المسؤولية والأخوة، لا تتوجه عملية التواصي بالحق إلى مناكفات إعلامية، لا تتحول عملية التواصي بالحق إلى تصفية حسابات شخصية؛ لأنك استأت من إنسانٍ معين لاعتبارات شخصية، أو اعتبارات أخرى، ثم قمت بالتصيد لأخطائه، بالتصيد لأدائه العملي، بالتصيد لجانب القصور لديه؛ لتوظفها سلباً في مهاجمته، في الانتقاد السلبي، هناك فرقٌ كبير بين الانتقاد البناء والتواصي بالحق، بكيفيته الصحيحة والمسؤولة، والتي يجب أن تكون في جوٍ من الأخوة والنصح الصادق، ومراعاة الكرامة والأخوة، وبين عملية التجريح والتهجم، واستغلال الأخطاء للتهجم بها والتشنيع بها، هذا ليس تواصياً، هذا يتحول إلى حالة حرب إعلامية، أو حرب بالمناكفات الإعلامية، أو تجريح أو تشويه… أو نحو ذلك، هذا ليس هو الأسلوب الصحيح.
البعض من الناس مثلاً قد يكون مفرطاً في المواقف الحق، في المواقف الكبيرة والمهمة، معرضاً بالكامل عن المسؤوليات الحق المهمة جدًّا، ثم يبقى في جوٍ من الفراغ يتصيد أخطاء الآخرين، ثم يأتي ليتكلم بكل شدة وبكل جرأة، قد يكون مطمئناً إليهم، قد يكون مطمئناً إلى أنهم سيحترمونه، أو يعتبرون له قدره أو منزلته، أو احترامه، ثم يكون جريئاً عليهم في الوقت الذي هو ذليل خانع جبان، أمام المواقف المهمة والمسؤوليات الكبيرة في مواجهة الأعداء الحقيقيين للأمة، تحول إلى أخرس، قلمه لا يكتب ولسانه لا ينطق، أبكم، ليس له موقفٌ مستمر، إذا كانت له مواقف في النادر، لكنه عملياً ليس في موقفٍ مستمر وفاعلٍ ونشطٍ وجاد ومسؤول في ذلك الحق المهم، في ذلك الموقف المهم، في تلك القضية الكبيرة.
فالتواصي بالحق ليس عبارة عن تصيدٍ للأخطاء من الجامدين المفرطين المهملين، أو الذين يشتغلون على تصفية الحسابات الشخصية، لا، إنما ينطلق من واقعٍ مسؤول، وبروحٍ أخوية، وبمسؤوليةٍ تامة، وبنصحٍ صادق، وبجد، وبدافعٍ إيمانيٍ خالص، هذا هو التواصي بالحق ممن يوصي وهو يتحرك، وهو ينطلق، وهو يلتزم، وهو جاد، مثل هذا يجب التفاهم معه، التقبل لنصحه، عندما يوصي بالحق فعلاً ليس هو غالط فيما يطرحه، أو مشتبه في قضية لا حقيقة لها، هنا تأتي عملية التواصي بالحق التي يجب أن تكون قائمة، ومن يغضب منها ويأنف منها ويستكبر منها؛ فهو مستكبر.
أولياء الله مهما بلغت مرتبتهم الإيمانية لا يأنفون أبداً من التواصي بالحق، مهما كان دورهم العملي، لا يغضبون أن يوصيهم أحدٌ بالحق، لا يأنفون ولا يستكبرون من أن يقال لهم الحق، ومن أن تقدم إليهم كلمة الحق، أيٍ كانت: ملاحظةً على تقصيرٍ معين، تبييناً لموقفٍ معين، تنبيهاً لخطأٍ في سلوكٍ معين… أو أياً كانت؛ فلا بد من التواصي بالحق في المواقف الكبيرة والمسؤوليات المهمة، وفي القضايا بمختلفها، وفي الأداء العملي والالتزام العملي، وفي السلوك، التواصي بالحق أساسيٌ في السلامة من هذا الخسران الذي أقسم الله عليه، إذا غاب التواصي بالحق، وحل بدلاً عنه الصمت والسكوت والجمود؛ حصل الفتور والملل، وقل النشاط، وكان لذلك تأثيرات سلبية، وإذا غاب التواصي بالحق أمام الالتزامات العملية وفي السلوك والأداء العملي، وحلت محله المجاملة والمداهنة السلبية، حينها تتعاظم الانحرافات، ويكثر الخطأ، ويكبر الانحراف، وتكثر الإشكاليات، ويترتب على ذلك المفاسد الكبيرة، ويغيب الحق شيئاً فشيئاً، تتسع المساحة التي يغيب عنها الحق في السلوك، في الالتزام العملي، في التصرف، في القضايا، فالتواصي بالحق لا بدَّ منه، وبكيفيته التي أشرنا إليها.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، تختم السورة بهذا العنصر الأساس من هذه العناصر الأربعة المترابطة: التواصي بالصبر، في المواقف المهمة والمسؤوليات الكبيرة، وفي القضايا، وفي كثيرٍ من الأمور، حتى على مستوى الالتزام العملي قد تأتي أحياناً بعض المشاكل، بعض الصعوبات، بعض المتاعب، وعادةً في واقع الحياة ما من عملٍ مهم إلا ونحتاج فيه إلى الصبر، هذه مسألة معروفة لدى كل الذين يتحركون في هذه الحياة، يعرفها الفلاح وهو يشتغل يعمل بين مزارعه أنه لا بدَّ من الصبر، يدرك أن ذلك المجهود العملي هو مهم، هو ضروري ومثمر، له نتيجة، ويوطن نفسه على الصبر، ولا تلمس منه أنه يشتكي يوماً بعد يوم على كل تعبٍ عانى منه في ذلك الجهد، لا، يعرفها التاجر، يعرفها العامل… يعرفها الناس في شؤون حياتهم وأعمالهم المتنوعة في هذه الحياة، قضية اعتيادية في كثيرٍ من الأعمال، أصبح الصبر قضيةً اعتياديةً في كثيرٍ من الأعمال والأنشطة في هذه الحياة، الناس يتعودون عليها الرجال والنساء، يتعودون على الصبر في كثيرٍ من الأعمال، حتى يصبح مسألة اعتيادية.
في طريق الحق، في المواقف الحق، في المسؤوليات المهمة، لا بدَّ أيضاً من الصبر؛ لأن هذه الأعمال المهمة وإن حصل فيها شيءٌ من العناء، أو احتاجت إلى مقدارٍ من الجهد العملي، فهي في أهميتها تستحق منَّا أي جهد وأي تضحية، وتستحق منا التحمل على أي أعباء مهما كانت، هنا قد يأتي التذمر في بعض الحالات، عندما تحصل عوائق معينة في عملٍ معين، أو يحصل نقص معين، أو ظروف صعبة معينة يحصل التذمر عند البعض، أو الملل والتعب عند البعض، فيتأثر، قد يصل التأثر عنده إلى درجة أن يترك ذلك الموقف، أو أن يتخلى عن ذلك العمل، أو أن يقصر فيه، فأمام هذا التذمر، أمام هذا الملل، أمام هذا التعب، أمام هذه المعاناة، أو أمام تلك المحنة، أمام ذلك الألم الذي قد نعيشه عندما نفقد شهيداً، عندما يحصل معاناة معينة، عندما تحصل بعض المشاكل المعينة التي لها مردود نفسي يتمثل بالألم والحزن، أمام كل هذه الحالات، أمام المتاعب النفسية والجسدية لا بدَّ من التواصي بالصبر، البعض مثلاً قد يشاهد حالة من التذمر فيتفاعل معها على ذلك النحو، يتذمر أكثر، يرى من يتذمر لنقصٍ معين، أو لقصور معين، أو لإشكالات معينة، فيتذمر معه أكثر فأكثر، بدلاً من التواصي بالصبر، الصبر على المحنة، الصبر على الألم، الصبر على العناء النفسي، على التعب والمجهود، وطبعاً لا بدَّ أن يكون هذا الصبر في الإطار العملي، صبر ونحن نتحمل هذه المسؤوليات الحق، صبر ونحن ننهض بها، صبر ونحن نقف هذا الموقف الحق، ونضحي فيه، ونبذل الجهد العملي فيه، هذا هو الصبر المطلوب، الصبر في الإطار العملي هو صبر الإيمان.
والتواصي بالصبر سيساهم على التشجيع للكثير، أمام تلك الحالة، أو المعاناة، أو ذلك التعب، أو ذلك الألم، له أهمية كبيرة جدًّا على المستوى النفسي، وعلى مستوى أيضاً التحمل الجسدي، عندما نتواصى بالصبر في كل المواطن التي تحتاج إلى التواصي به، فقد يتسع الحديث في التشجيع على الصبر، وفي الترغيب في الصبر، عندما نتحدث عن هذا الصبر على ضوء الحديث عنه في القرآن الكريم، الحديث عن الصبر في القرآن الكريم حديث مشوق، يحول الصبر إلى محبوب، إلى أمرٍ مرغوب؛ لأن الإنسان أولاً يدرك قيمته وموقعه في الإسلام، قيمته وأثره في الواقع، في العمل، ثمرته الطيبة في النتائج، ثمرته المهمة أيضاً في الآخرة.
الصبر موقعه من الدين موقعٌ مهمٌ جدًّا، موقعه من الإيمان كما ورد في الحديث: (بمنزلة الرأس من الجسد)، منزلة أساسية، موقع مهم، لا يتم الإيمان إلَّا به، موقعه أيضاً في العلاقة بالله -سبحانه وتعالى- موقعٌ مهم، الله -جلَّ شأنه- أكَّد في القرآن أنه يحب الصابرين، أنه مع الصابرين.
عندما نتحدث عن الصبر فمن أول ما نركِّز عليه في هذا الموضوع: الالتفات إلى أهمية أن نعود إلى الله وأن نلتجئ إليه ليمنحنا أيضاً المعونة بالصبر، الله -جلَّ شأنه- قال في القرآن الكريم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}، نحتاج إلى الله -سبحانه وتعالى-، علَّمنا الله في القرآن الكريم أن نقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}[البقرة: من الآية250]، {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، نطلب من الله هذا الطلب، نحتاج إلى أن نلتجئ إلى الله، أن نطلب من الله أن يمنحنا الصبر، وأن يعيننا بالصبر، وأن يلهمنا الصبر، وأن يمنحنا قوة التحمل؛ لنكون من الصابرين، هذه مسألة مهمة في موضوع الصبر.
ثم التذكير به كوسيلة مهمة مساعدة للنهوض بالأعمال، الإنسان إذا تعوَّد على أن يصبر، هو يكتسب القوة النفسية والمعنوية والطاقة في التحمل، كثيرٌ من الأمور قد تكون في بداية الأمر صعبة على الإنسان، يوطِّن نفسه على الصبر، ويتخذ قراراً جاداً بالصبر، وتتروض نفسه على ذلك المجهود العملي، تتروض وتستمر وتستمر فإذا به بمعونة الله -سبحانه وتعالى- يتحول إلى عملٍ عادي بالنسبة له، لم تعد فيه تلك المشقة التي كانت في البداية، لم يعد فيه ذلك التعب النفسي أو الجسدي الذي كان في البداية؛ تروَّض، اكتسب القدرة، قوة التحمل، منحه الله -سبحانه وتعالى- هذه القوة في التحمل، والطاقة في التحمل، وهذه مسألة مهمة؛ لأن الصبر يصبح وسيلةً مهمةً في الواقع العملي، كما قال الله -جلَّ شأنه-: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية153]، تجد كيف بدأ بالصبر حتى قبل الصلاة، {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، ثم يختم هذه الآية بهذه العبارة المهمة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ لأنك عندما تصبر فالله سيتدخل، ويمنحك -جلَّ شأنه- معونته، هو معك يمنحك المعونة، يمنحك القوة، يحقق لك النتيجة المرجوة من وراء هذا العمل العظيم الذي تصبروا فيه، وتصبروا على التحمل فيه.
في مواقف الحق يحتاج الإنسان أن يصبر على أشياء كثيرة: اللوم، الانتقادات، الصعوبات المتنوعة: الصعوبات المادية… الصعوبات بكل أنواعها، أشياء كثيرة لا بد أن تواجهها بالصبر، إذا لم يكن الإنسان صبوراً، ولم يوطِّن نفسه على الصبر؛ سيتراجع من أي عمل بمجرد أن وجد فيه صعوبة معينة، عندما ندرك ثمرة الصبر، وأهميته، وما يترتب عليه من نتائج وعد بها الله -سبحانه وتعالى-، أول عبارة جامعة قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، عبارة جامعة يدخل تحتها الخير الكثير، والتفاصيل الكثيرة.
عندما يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: من الآية10]، هذا على مستوى الأجر في الدنيا والآخرة، جزءٌ من الأجر عادةً يأتي في الدنيا، لكن يوفى في الآخرة، وهنا يتحدث عن كيف يوفى في الآخرة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
يبشر يقول -جلَّ شأنه-: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية155]، حتى أنَّ البشارات من الله تأتي في مراحل العمل، في ظل تلك الصعوبات تأتي تلك المبشرات، تلك المؤشرات الإيجابية جدًّا، التي تزرع الأمل عند الإنسان، وتعزز عنده الرجاء في الله -سبحانه وتعالى- وفيما وعد الله.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال: من الآية65]، في ميدان الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- يكون للصبر أهمية قصوى في الغلبة والنصر والتأييد الإلهي، إلى هذا المستوى.
يقول -جلَّ شأنه-: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران: من الآية120]، في الصراع ومواجهة الأخطار من الأعداء، يأتي الصبر كعنصر أساس له هذه النتيجة وهذه الثمرة مع التقوى: {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، يعني: له غاية، له نتيجة في الواقع، أكثر من مسألة الحسنات، أكثر من مسألة الأجر في الآخرة، نتائج هنا تحصل عليها في الدنيا: نصر، عزة، دفع لكثيرٍ من مكائد الأعداء.
يقول الله -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية200]، هنا يذكر نتيجة مهمة جدًّا هي الفلاح، والفلاح عنوان مهم جدًّا، الفلاح هو يتضمن معنى النجاح، معنى الوصول إلى الغاية المرجوة، معنى الظفر بما تسعى له بذلك المجهود العملي، ومن خلال الصبر تتجاوز حتى تلك المرحلة التي كانت مرحلة صعبة، لتصل إلى النتيجة المرجوة، النتيجة العظيمة، النتيجة المهمة.
من الأشياء المهمة التي ينبغي أن نستذكرها في مسألة الصبر: النتائج الخطيرة والعواقب الخطيرة إذا فرَّطنا في تلك الأعمال المهمة، في ذلك الموقف الحق فلن نصبر، يعني: قد يكون البعض يتصور أنَّ المشاق مثلاً، أو التضحيات، أو المتاعب لا تأتي إلَّا في طريق الحق، هي تحصل في طريق الحق ولها ثمرة، ولها نتيجة، وجزءٌ منها قد يكون عائداً إلى نقص أو قصور في الأداء العملي، أمَّا إذا تركنا الموقف الحق، إذا تنصَّلنا عن المسؤوليات الحق، إذا فرَّطنا في المسؤوليات هذه، النتيجة الخطيرة هي بما يحصل إذا غاب هذا الحق، إذا ترك هذا الموقف الحق، ما الذي يأتي؟ الخسران الحتمي، في الدنيا إذا فرَّطت الأمة في المواقف والمسؤوليات الحق تهان، تذل، تقهر، تظلم، تضطهد، تتكبد الخسائر الهائلة جدًّا في كل واقعها: في أمنها، في استقرارها، في اقتصادها، خسارات رهيبة جدًّا وبدون مقابل، بدون إيجابية، بدون نتيجة مرجوة للخلاص من ذلك الواقع، وهذا مؤكدٌ في واقع الأمة الإسلامية، في كثيرٍ من الأقطار كم حصلت من مآسٍ رهيبة جدًّا نتيجة التفريط في مسؤوليات معينة؟ كم كان الثمن باهضاً جدًّا عندما تمكَّن الأعداء؟ وتمكُّن الأعداء، يعني: تمكنهم بشرهم، بفسادهم، بظلمهم، بإجرامهم، بطغيانهم، يعني: أن تتاح لهم فرصة أكثر لارتكاب الجرائم، للظلم، لممارسة الظلم، لما يحصل على الأمة وفي واقعها من الفساد… أمور رهيبة جدًّا، الكلفة هائلة جدًّا جدًّا، ووراءها جهنم والعياذ بالله، جهنم.
والحالة تلك حتى لو صبر الناس عليها، لن يكون صبراً مثمراً ولا مجدياً، الصبر على تمكُّن الطغاة، والمجرمين، والظالمين، والمفسدين، والأشرار، الصبر على تمكينهم بدلاً من التصدي لهم وفق المسؤوليات والمواقف الحق، الصبر حينها لن يكون مثمراً أبداً، لن يدفع شيئاً، لن يوقف ظلمهم، لن يوقف شرهم، لن يوقف طغيانهم، لن يدفع عن الأمة ذلك الواقع السلبي والمأساوي والكارثي والخطير الذي يسوده الباطل، والفساد، والطغيان، والإجرام، والظلم، لن يفيد بشيء، حينها ستكون الحالة: اصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم.
أيضاً من نتائج التفريط في الصبر على الحق، وفي الصبر على الالتزام بالحق، وفي الصبر على الالتزام بالمواقف الحق، من نتائج هذا التفريط هو دخول النار، في النار في ذلك الكرب الرهيب، في ذلك العذاب الأليم، في تلك الحياة البئيسة جدًّا، في ذلك العذاب الرهيب جدًّا، لن يفيدك الصبر، هناك يقول الله: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}[الطور: من الآية16]، بل أهل النار يقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}[إبراهيم: من الآية21]، حينها ستصل إلى كربٍ رهيب، عذابٍ أليم، تعبٍ حقيقي، حزنٍ شديد، ندمٍ عظيم، كل ما يمكن أن تترك الصبر من أجله في الدنيا من متاعب أو مشاق، يأتي بترك الصبر في الحق ما هو أشد من ذلك، وأقسى من ذلك، وأصعب من ذلك بكثير وبما لا يقارن، بما لا يقارن في الدنيا ثم في الآخرة؛ ولذلك قيمة هذا الص
بر حميدة في الإطار العملي، في إطار الالتزام بالحق، في التمسك بالحق، قيمة هذا الصبر قيمة عظيمة جدًّا في الدنيا: فلاحاً، وفوزاً، ونصراً، وعزاً، وخيراً، وفي الآخرة: رضوان الله والجنة.
إنَّ لحظةً واحدة في الجنة في نعيمها العظيم يمكن أن تكون كافية لأن ينسى الإنسان كل ما قد كابده في هذه الحياة من مشاق، ومتاعب، ومعاناة، وأحزان، وآلام. وإنَّ لحظةً واحدةً في النار كفيلة بأن ينسى الإنسان كل نعيمٍ قد عاشه في هذه الدنيا، وأن يستشعرها تلك اللحظة يستشعرها أكثر عناءً ومشقةً وألماً نفسياً وجسدياً من كل ما قد عاناه في هذه الدنيا بكلها؛ لذلك قيمة الصبر قيمة عظيمة، وقيمة مهمة، وبدلاً من التواصي بالتذمر، وبدلاً من التواصي بالضعف، وبدلاً من التواصي بالتنصل عن المسؤولية، وبدلاً من التواصي بالتفريط والتقصير، يجب أن يسود فيما بيننا التواصي بالصبر، والتذكير على أساس الاستفادة من القرآن الكريم بقيمة هذا الصبر، وما يترتب عليه، وما له من مكاسب مهمة: نفسية، وتربوية، وعملية، وواقعية، وفي النتائج، وفي الآخرة عند الله -سبحانه وتعالى-، مع الالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى-.
تجتمع في هذه السورة هذه العناصر الأربعة: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، لتكون مجتمعةً ومع بعضها البعض الطريق الحصري الاستثنائي للنجاة من الخسارة الحتمية لكل إنسان، تلك الخسارة التي أقسم الله عليها في القرآن الكريم؛ ليؤكِّدها لنا، حتى لو لم تصدق هذا القسم من الله -سبحانه وتعالى-، إنما تورِّط نفسك وتوقعها في تلك الخسارة الرهيبة والحتمية.
إذاً هذا مقياس، وبعناوين واضحة جدًّا، وجلية، ومختصرة، ومقاربة؛ لتعرف هل أنت رابحٌ أم خاسر؟ معيار حقيقي للربح والخسارة، طريق الربح، طريق الفوز العظيم هي طريق واضحة، وهي أسهل من طريق الباطل، وهي أشرف، وهي أفضل، وفيها الخير لك، هي فوز بكل ما تعنيه العبارة، وفوزٌ عظيم.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛