من الصرخة إلى قلب معادلة الصراع .. حين يزهـر «الموت» حياةً (قراءة في خطاب سيد الثورة)
من الصرخة إلى قلب معادلة الصراع .. حين يزهـر «الموت» حياةً (قراءة في خطاب سيد الثورة)
يمني برس:
حين خرجت مصر من مضمار الصراع مع كيان العدو الإسرائيلي ودخلت حظيرة الطاعة الصهيوأمريكية من “مزرعة كامب ديفيد” في 1979م، نهضت عنقاء الثورة الإسلامية في إيران من هشيم محتظر شاه شياه “واشنطن- تل أبيب” الأكبر في الشرق العربي والإسلامي “محمد رضا بهلوي”. ومنذ اليوم الأول لانتصار الثورة تبنت بجلاء ومبدئية ساطعة العداء لكيان العدو الصهيوني والانحياز التام لشعب فلسطين وحقهم في تحرير كامل التراب المحتل.
وإذ بدأت أطر وحركات الكفاح المسلح اليسارية في التلاشي من ميادين الاشتباك مع العدو الصهيوني ببدء العد التنازلي لانهيار الاتحاد السوفياتي وانطواء حقبة مصر الناصرية، سطعت بيارق المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني “حزب الله” وفلسطين “الجهاد الإسلامي” لتغمر نفوس وقلوب ومحاجر القانطين بالضوء والأمل ورائحة بارود الحرية والنصر.
كان المنحنى البياني للانبطاح والخيانة والخذلان العربي والإسلامي لقضايا الأمة يتصاعد، وفي المقابل كان منحنى الصمود والرفض والمقاومة يتصاعد.
غير أن منحنى الخيانة لم يبلغ في كل محطات وتواريخ النكوص، ذروته الأخطر إلا عقب أحداث ما يسمى”11 أيلول/سبتمبر 2001″، أي بعد ما يزيد على عام من اندحار كيان الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان… كان مخططاً لهذه الذروة الخيانية أن تكون القاضية وإلى الأبد على كل مكتسبات المنحنى المقاوم وأدبيات الرفض والعداء والتحرير والجهاد والمقدسات ومحوها من الأبجدية والثقافة والفكر والواقع معاً بضربة واحدة تأسيساً على أنقاض “أبراج مانهاتن” التي تمخضت “خطاباً أمريكياً” شديد الأحادية والأوامرية الداعية إلى إقرار كوني بحق أمريكا في بسط سيطرتها المطلقة على العالم وصهر نُظمه العتيقة بنظام عالمي جديد هو انعكاس مباشر وترجمة حرفية لمخاوف الولايات المتحدة ومصالحها حصراً.
عند هذه الذروة الأخطر باتت الهرولة والانبطاح بالجملة لا بالتجزئة كسابقاتها، ولحقت الحظيرة بـ”الثور الساداتي”، وصلّت الأنظمة العربية (باستثناء سوريا الممانعة) صلاة الجماعة خلف “حاخام الأحادية” على “أرواح ضحايا الهولوكست بنسخته الجديدة المتمثلة في 11 سبتمبر مانهاتن”، وأعربت وسائط الإعلام الرسمي العربي والمنابر الثقافية بمشاعر جياشة عن “محبتها للسامية الصهيونية واعتناقها التام لأوامر ونواهي تلمود الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والجات والسوق ومكافحة الإرهاب”.
هذا السياق من التعبيد الأمريكي المذل كان ابتلاءً قاسياً لصدقية الشعارات الخونجية التي روجت لنفسها كبديل إسلامي عالمي أمثل لـ”المعسكر الاشتراكي شرقاً والرأسمالي غرباً” والحركات والأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية على مصاف الرؤية للحكم وحل المعضلات الاقتصادية، كما ونهوضاً نظرياً بالقضية الفلسطينية بمحددات “الجهاد ومعاداة اليهود والبراء من أعداء الأمة”.
على النقيض لكل الدعاوى الإسلاموية وبلا وقار “يدافع رموز حزب الإصلاح -الإخوان في اليمن- متسابقين على صوالين الحلاقة ليتخلصوا من لحاهم الطويلة، واختبأ بعضهم في الجحور، وكثف الحزب من زياراته للسفارات الغربية يتوددها وينشد رضاها..”.
يقول سيد الثورة القائد عبدالملك الحوثي، ويضيف: “كان وقع هزيمة أمريكا لطالبان في أفغانستان مرعباً على حزب الإصلاح لدرجة أنه تخلى عما تبقى من شعارات كان لايزال يرفعها تجاه قضايا الأمة، لاسيما فلسطين، وهو الذي جند سابقاً للحرب على السوفييت في أفغانستان تحت مسمى الجهاد”.
في ذروة “11 سبتمبر” تكشفت الأقنعة في مهب عواصف الوعيد الأمريكي “من ليس معنا فهو ضدنا”؛ “الحرب على الإرهاب أولوية كونية تنتظم كل المجالات الأخرى سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية”.. على هذا المنوال نسجت أمريكا الحبال التي كبلت بها العالم والمنطقة العربية والإسلامية تحديداً، وكممت أفواه 6 مليارات بشري إلا قليلاً من الثابتين في قلبهم الجمهورية الإسلامية في إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا الممانعة و…
انطلقت من “خميس مران بصعدة اليمن” صرخة ستلفت كل الأنظار والأسماع إليها لاحقاً من حيث جرأتها وسطوع حروفها الرافضة للتعبيد والمتمسكة بالعداء لأعداء الأمة حد الهتاف بـ”الموت لأمريكا وإسرائيل واللعنة على اليهود”.
بالضد لجدول الأولويات الأمريكية واتساقاً مع الأولويات الإيمانية القرآنية صدعت صرخة الحسين، في واقع كانت خلاله معظم الأنظمة في المنطقة قد انصهرت في الولاء للولايات المتحدة وراحت تنشد ود الكيان الصهيوني، وكان الإحباط واليأس هما الحالة السائدة شعبياً، وتميزت ردود فعل الأحرار بالانفعالية اللحظية إزاء ما تتعرض له فلسطين وشعبها ومقدساتها من تقتيل ومحو وتهويد… انفعالية لا تفضي لموقف عملي إيجابي بحسب توصيف سيد الثورة لها… حتى أطلق الشهيد القائد السيد حسين رضوان الله عليه صرخة البراء لتستوي في الواقع سلاحاً وموقفاً تنتظم شعث واهتراء الحالة الشعبية إزاء طغيان أعداء الأمة والتعبيد الأمريكي لها في الحدود الدنيا من الرفض.
“أليست هذه الكلمات يسيرة وسهلة وبإمكان أي شخص أن يصرخ بها؟ أليس بمقدوركم أن تصرخوا بالموت لأمريكا والموت لإسرائيل… اصرخوا وسيصرخ معكم العالم غداً”.
هكذا بذر الشهيد القائد البذرة الأولى لشجرة المسيرة القرآنية الطيبة فثبت أصلها وبسق فرعها في سماء المقاومة والصراع مع العدو الصهيوأمريكي حتى باتت معه يمن الأنصار اليوم رقماً فارقاً في المعركة مع كيان العدو بدءاً من فلق كلمات صرخة البراء مروراً بليل أقبية الاعتقال والتعذيب والتغييب ولهيب الحروب الست وصولاً لانبثاق “القدس 2” من أتون العدوان الكوني على اليمن ودخول شعبنا الشريف في المعادلة العسكرية الإقليمية كقوة يعول عليها أحرار فلسطين والأمة ويحسب لها العدو الصهيوأمريكي ألف حساب.
إن جلاء الخيارات في المنطقة قد بلغ ذروته اليوم، فالموالون لأمريكا والعدو الإسرائيلي علناً يقابلهم على النقيض الناهضون بقضايا الأمة كمحور انتقل وينتقل معه الصراع من عصر المقاومة إلى عصر حرب التحرير الشاملة، ومن زمن الحجر والمقلاع والسكين إلى زمن الصواريخ الدقيقة والمنصات والمسيرات و”سيف القدس”، ومن توازي وشتات مسارات النضال وتقابلاته جغرافياً وديمغرافياً وسياسياً بمفهوم “أراضي67 وأراضي 48، وغزة- رام الله، ومقاوم ومفاوض، واحتجاج شعبي وعمل عسكري” إلى لُحمة التراب والقضية والجسد المقاوم عسكرياً من بيت حانون للقدس لجنوب لبنان لسورية للعراق ليمن الأنصار لطهران الثورة…
محور يؤكد سيد الثورة القائد عبدالملك الحوثي، في خطاب ذكرى الصرخة، أن اليمن ينتمي إليه وينسق معه وهو جزء عملياتي ميداني استراتيجي من معادلة الحرب الإقليمية القادمة مع العدو الصهيوني والتي أكد سيد المقاومة حسن نصر الله أن اندلاعها مرهون بصاعـق “مساس الكيان بمقدسات الأمة في فلسطين”.
إن ميلاد المقاومة من ليل حقبة الإحباط واليأس العربي كان مؤشراً إيجابياً على إمكانية تحقيق نتائج وازنة لجهة قضايا الأمة في صراعها مع العدو الصهيوني، وكان حرياً بالأنظمة العربية والإسلامية دعم هذا الخيار الراجح الذي أثبت عملياً قدرته على إلحاق الهزيمة بكيان العدو كما في تجربة تحرير جنوب لبنان وغزة، بحسب سيد الثورة، إلا أن معظم الأنظمة -يؤكد السيد القائد- ناصبت حركات المقاومة العداء وانخرطت في الحرب عليها خدمةً للصهيونية، ووحدها الجمهورية الإسلامية في إيران وسورية من تبنى هذا الخيار ودعم حركاته بسخاء تجلت ثماره الأنضج في ملحمة تموز حزب الله 2006 ومعركة “سيف القدس” مؤخراً.
“إن كل العار والخزي هو في الولاء لإسرائيل، والغضب ينبغي أن يتوجه للأنظمة الموالية للكيان، وأما إيران المساندة لقضايا الأمة والداعمة لمقاومتها وشعوبها الحرة والمعادية لأعدائها فهي جديرة بالشكر لهذه المساندة”.
هكذا يستخلص سيد الثورة سديد القول من مقاربته لتاريخ الصراع مستعرضاً مخطط الانحراف بالأمة عن عدوها وتسويقه كصديق ومنقذ إلى العداء لأحرار الأمة حركات وأحزاباً وشعوباً ودولاً، وهو انحراف بات علنياً ولا لبس فيه، وأضحى لزاماً على شعوب أمتنا اتخاذ موقف واضح وعملي إزاءه… موقف يتمايز خلاله أحرار الأمة ولاءً وبراءً عن المنبطحين والمتماهين في مشروع أعدائها.
يجسر سيد الثورة سياقات الصراع التي تبدو منفصلة محلياً وإقليمياً ودولياً لتغدو سياقاً واحداً تتباين مجرياته، لكن مساكبه واحدة؛ فإما في مستنقع عبودية صهيوأمريكية، أو خلاص وحرية ونهوض لكافة شعوب الأمة. ولولا المقاومة اللبنانية والفلسطينية -يقول سيد الثورة- لكانت المنطقة العربية اليوم قد محيت بـ”إسرائيل الكبرى”.
هكذا يصل خطاب السيد القائد بالمتلقي إلى خلاصة عفوية بشأن العدوان على اليمن والمواقف منه… خلاصة متسقة مع مجمل سياقات الصراع في المنطقة ومجمل المواقف المتباينة منه…
“إن موقف السعودية والإمارات المعادي لحزب الله في لبنان وحركات المقاومة في فلسطين وأحرار العراق وسورية والمسيرة القرآنية في اليمن، هو موقف الكيان الصهيوني ذاته”… وعليه فإن العدوان على اليمن هو مصلحة صهيونية بواجهة عربية، والاستسلام له ولشروطه هو استسلام للعدو الإسرائيلي.
“إن الذين يرون في دفاعنا عن بلدنا وشعبنا مشكلة وسبباً لاستمرار الحرب هم يدعوننا للاستسلام تماماً كما هي دعواتهم للمقاومة في فلسطين، التي تعاطى الإعلام السعودي والإماراتي معها بشكل مخزٍ لا يختلف عن تعاطي الإعلام الصهيوني”.
“سنواصل الدفاع عن أرضنا وعرضنا وكرامتنا، وعليهم أن يوقفوا عدوانهم وحصارهم وألا يقايضوا شعبنا على حقوقه المشروعة والطبيعية والإنسانية في الدواء والغذاء من قبيل الضغط عليه ليستسلم، فهو لن يستسلم..”.
وفي التعليق على تأثر السيد حسن نصر الله باندفاع اليمنيين للتبرع لفلسطين في ظل معاناتهم التي لا نظير لها، يؤكد سيد الثورة أن الظروف لن تمنع شعبنا من التفاعل مع فلسطين وشعبها كقضية مبدئية، وأن اليمن حاضرة في معادلة “الحرب الإقليمية القادمة” بلا مواربة.
تلك هي تجليات الثورة التي انبثقت من أبجدية الصرخة لتتخلق من رحمها الإيماني أبجدية الوجود اليمني الوازن والحاضر بلا هوادة على امتداد مسرح الصراع الفسيح مع أعداء الأمة.
سلام على روح الشهيد القائد يوم ولد ويوم صرخ ويوم نصلي صلاة البنادق في باحات القدس والأقصى الشريف… وإنه ليوم جد قريب.
*صلاح الدكاك – أديب وسياسي يمني و رئيس تحرير صحيفة “لا”