بقلم / عبدالملك المداني على مدى 75 كيلوا متر لم اغفل للحظة واحدة ، لم يـَفـُتني أي تفصيل ، شاهدت كل شيء وشعرت بكل شيء ، سـُلبت كل جوارحي ، خرجت من عالمي ، ولم اكترث لكل الفوضى التي تحدث بالقرب مني فقط رأيت الطريق التي حملتني إلى وجهتي ..!
على مدى 75كيلوا متر رأيت الطريق !! نفس الطريق التي حملت الأرتال العسكرية والمجنزرات وناقلات الجنود رأيت الطريق التي شُـقت وعُبدت ليس لخدمة ساكني المنطقة بل لقتلهم شـُقت عبدت ليس لمرور عربات وشاحنات الخدمات الإجتماعية والتنموية بل لمرور الدبابات والمدرعات وكل وسيلة قتل وتدمير متاحة، وكل هذا في سنة!! مشروع عملاق كهذا تم انجازه في سنة واحدة ، لماذا ؟
ليـقتلوا اناس في اقاصي الأرض وفي جوف الجبال !!
70كيلوا متر : لم أغفل خلالها للحظة واحدة ، رأيت الأرتال العسكرية ، سمعت دوي الأنفجارات ، شممت الباروت والدم ، وتذوقت كل آلم امكنني تذوقه ، واحسست بشبح الموت يحوم على كل قرية رأيتها هنا وهناك ..!
60كيلوا متراً : شاهدت المقابر على كل جانب ، رأيت أشلاء القتلى وسمعت نحيب الثكلى وشعرت بفقد اليتامى وتذوقت الحديد والغبار وتحسست اطرافي الذي تفاجأت لوجودها كاملة دون نقصان ..!
50كيلوا متراً : لم اغفل للحظة واحدة ، رأيت أنتشار الجنود على كل سفح وجبل ، عددت ستة عشر لواء مدجج بالأسلحة ، سمعت دبيب خطواتهم وازيز رصاصاتهم وشعرت بعجز رجل مُسن في الثمانين من عمره يرى ابنائه يقتلون امام ناظريه ..!
40كيلوا متراً : رأيت اضرحة الشهداء شبان في عمر الزهور قُتلوا بينما كنت ألهو والعب وامرح ، سمعت دعاء ثكلى تتوجع كان لصوتها دوي اعظم من دوي مدفع ، تذوقت خيبة طفلة أنتظرت لأبيها أن يرجع دون فائدة ..!
30كيلوا متراً : عرفت خلالها أن كل طريق ‘فرعية’ توصلك لقرية ما ، قد عُبدت بدماء أهلها ، رأيت بيوت مهدمة ومزارع محروقة ، رأيت رجلاً يلملم اشلاء اطفاله ، وسمعت قهقهة قائد ‘قواد’ يشيد بجرائم ابطاله ..!
20كيلوا متراً : رأيت الصواريخ السعودية ، وقنابلهم الذكية ولست ادري لماذا تذكرت علاقاتنا الذهبية ، ربما لأشتم من وصفها بذلك في غمرة ذهولي واندهاشي ..!
10كيلوا مترات : رأيت رجالاً يستبسلون ببندقية وعاهرون يردون بمدفعية ، سمعت هزيم ‘حـُر’ اسكت ضجيج المدافع والراجمات ، وتذوقت معنى أن تكون عزيزاً حتى الوفاة ..!
كيلوا متر واحد : رأيت اسرة تسكن في احدى الحـُفر ترجوا السلامة ، بينما كنا نسكن في بيوتنا العامرة ، سمعت تذمر طفلاً يشكوا العطش لم تلقى امه ماتسقيه سوى عبراتها ، تمنيت عندها انني لم اقم برمي قارورة الماء خاصتي لأنها لم تكن باردة ..!
500 متر : رأيت اسرةً كاملة يسلكون تلك الطريق الوعرة ، يتعثرون من كل جانب ولايجدون شيئاً يتشبثون به سواك ياحسين ، ولكنني بعدها فقدت كل حواسي وتبلدت وكأنني مت ..!
متر واحد : رأيت سلمان !! اختنقت ، تجمدت دمائي وتصلبت شراييني ، قتلوك أمام اطفالك ، خذلناك وفرطنا فيك بينما كنت حياً واليوم جئتك وانا خالي الوفاض لا أملك حتى مايروي عطشي عوضاً عن عطش اطفالك ، انفجرت كل حواسي ورأيت مارأيت ، 75كيلوا متراً لم اكف فيها عن لعن قاتليك ومن شاركوا بقتلك ، 75كيلوا متراً اردت ان ابكي عند كل متر منها ، 75كيلوا متراً ادركت خلالها أنني كنت في غيبوبة ، لم اهتم في الأولى ولم اكترث في الثانية ولم انتبه في الثالثة ، استغرق الأمر مني أربع حروب لأدرك أن ثمة من يقتل بلاذنب ، استغرق الأمر مني اكثر من عشر سنوات وبضعة كيلومترات لأعرف مظلوميتك ، 75كيلوا متراً نخرت جسدي ومزقت روحي ، 75كيلوا متراً لم ارى ثمارها ولم اتخيل بأنني سأشعر بعدها بالفخر والعزة إلا عندما قابلت من قابلت في يومي التالي ورأيت أبتسامته وسمعت نبرة صوته وتذوقت مذاق العزة والكرامة والإباء لأول مرة ..!
75كيلوا متراً ادركت وتيقنت تماماً أن مظلومية الحسين نصرها الله بـ ابوجبريل ، ومظلومية كهذه بنصر كهذا محال أن تهزم أو تندثر ..!