طلبت من السيسي تعلم التاريخ .. فورين بوليسي الأمريكية : اليمن فيتنام مصر
يمني برس _ متابعات :
تحت عنوان “اليمن فيتنام مصر”، أوردت مجلة فورين بوليسي الأمريكية مقالا للباحث جيس فيريس تحدث فيه عن دروس يمكن استخلاصها من آخر حرب خاضتها القاهرة في الدولة الأسيوية، طالبا من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تعلم التاريخ، كي لا يقع في نفس الشرك الذي هوى فيه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وإلى نص المقال
في ربيع عام 1967 عبر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للسفير الأمريكي لدى القاهرة عن حزنه بأن الحرب في اليمن أضحت بمثابة “فيتنام”، قبل أن يفسر لاحقا لمؤرخ مصري كيفية خروج الصراع عن نطاق السيطرة قائلا: “ لقد أرسلت سرية إلى اليمن، وانتهى الأمر بتعزيزها بـ 70 ألف من القوات”.
وخلال حرب استمرت خمس سنوات(1962-1967)، فقد ناصر أكثر من 10000 رجل، وبدد مليارات الدولارات، وأدخل نفسه في مأزق دبلوماسي كان المخرج الوحيد منه الحرب مع إسرائيل.
وكما أدرك ناصر بنفسه في نهاية الحرب، كانت اليمن بالنسبة لمصر مثل فيتنام بالنسبة للولايات المتحدة، وأفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفيتي، والجزائر بالنسبة لفرنسا، ولبنان بالنسبة لإسرائيل.
وليس من قبيل المفاجأة، أن الحقيقة المستخلصة آنذاك بالنسبة للمصريين تمثلت في عبارات “لن يحدث ذلك مرة أخرى أبدا..لن نحارب أبدا في أرض بعيدة من أجل قضية مشكوك فيها..لن نهدر أبدا جيشنا الحديث لبناء دولة تفتقد وجودها، لن نطأ أقدامنا مجددا في اليمن”.
وربما تبدو كلمة “أبدا”قوية أكثر من اللازم، حيث يفكر الرئيس عبد الفتاح السيسي مجددا في إرسال قوات برية إلى اليمن، كنوع من الدعم هذه المرة للهجوم الذي تقوده المملكة السعودية على الحوثيين.
وأعلن السيسي بالفعل التزامه بإرسال قوات بحرية وجوية للانضمام للحملة العسكرية قائلا إن القوات الأرضية سترسل عند الضرورة.
وبينما يحوم السعوديون والمصريون وحلفائهم على حافة مغامرة عسكرية أخرى في اليمن، يقدم التاريخ بعض الدروس القاسية للتحديات التي قد تعترض طريقهم إلى النصر.
في خريف 1962، كان القائد العسكري المصري صلاح الدين المحرزي يحث رؤساءه في القيادة العليا بأن توقعات حرب سريعة وسهلة في اليمن تبدو بشدة خارج الهدف.
وكان انقلاب عسكري قد أسقط آنذاك الملكية في اليمن، وأنشئت بدلا منها جمهورية على غرار النموذج المصري.
لكن تلك الجمهورية اتسمت بالضعف، وهددت قبائل الشيعة “الزيديين” في الشمال، الموالين للإمام محمد البدر بسحقها، بدعم من المملكة السعودية.
ناصر، الذي خاض صراعا شرسا ضد الملك سعود حول قيادة العالم العربي، وجدها فرصة لزرع بذور الثورة في شبه الجزيرة العربية، ولم يكن يرغب في تضييع الوقت.
وأشار مسؤول بارز بالمخابرات المصرية آنذاك أن الحملة العسكرية ستكون بمثابة نزهة.
وخلال اجتماع مع قادة بارزين بالقوات المسلحة، جادل المسؤول بأن كل ما يلزم لإثارة الفزع في القبائل يتمثل في إرسال حفنة من رجال المظلات المسلحين بمكبرات صوت وألعاب نارية وقنابل الدخان.
وكان ذلك كثيرا جدا بالنسبة للمحرزي، لا سيما وأنه قضى القسط الأكبر من العقد السابق آنذاك على رأس الوفد العسكري المصري لصنعاء، وقام بتذكير الجنرال بأن اليمن استنزفت أربعة كتائب تركية في القرن التاسع عشر، وأنه لا توجد قوة يمكنها أن تفي بالغرض.
في موطنهم الجبلي، يعتبر رجال القبائل المولعون بالحرب في الشمال، والمسلحون بالسكاكين والبنادق، أكثر من ند بالنسبة لرجال المشاة المدربين في مصر، كما أن الدبابات المصرية عديمة الفائدة في مرتفعات اليمن، بالإضافة إلى عدم فاعلية القوات الجوية المصرية.
وعلاوة على ذلك فإن على القوات المصرية توقع كمائن في كل مكان، بالإضافة إلى أن مسافة 1200 ميل التي تفصل مصر واليمن من شأنها أن تجعل إعادة إمداد القوات المقاتلة كابوسا لوجيستيا.
وباختصار، اقترح المحرزي أن الأفضل هو ترك الدفاع عن اليمن لليمنيين.
وانتقلت رواية المحرزي الحكيمة لاحقا إلى ناصر نفسه في خطاب، وكانت النتيجة أن حددت إقامته بتهمة العصيان.
وفي الشهور التالية، دفع المصريون بالكثير من العدة والعتاد إلى اليمن من خلال جسر جوي أنشيء بمساعدة الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف.
في البداية جاءت كتيبة من الكوماندوز لحراسة العاصمة صنعاء ، ثم سرب من المقاتلين لتوفير الدعم الجوي لهم، ثم كتيبة مدرعة لتأمين المناطق الريفية المحيطة بها.
ولكن، صدقت تحذيرات المحرزي، حيث لم تكن أي قوة قادرة على تأمين الجمهورية، وسُحقت قضية الثوار.
وخلال الفترة بين 1963 و1964 انتشر القتال عبر شمال اليمن، الأمر الذي استلزم المزيد من القوات المصرية.
ثمة ثلاثة عوامل قادت ذلك التصعيد، الأول هو أن السعوديين كانوا قادريين على إرسال إمدادات إلى رجال الإمام البدر عبر الحدود اليمنية سهلة الاختراق أسرع من قدرة المصريين على اعتراضها.
ولمنع الإمدادات من الوصول إلى أنصار الملكيين، نشر المصريون قوة جوية معتبرة إلى اليمن، وشنوا ضربات جوية على الأراضي السعودية في الشمال، وعلى مستعمرة عدن، ذات السيطرة البريطانية في الجنوب.
أما العامل الثاني فهو أن الطرق الجبلية المتعرجة في اليمن توفر فرصا غير محدودة لنصب كمائن، كما أن جعل شرايين الاتصالات مفتوحة تطلب نشر قوات معتبرة بالمناطق الريفية المحيطة، والاعتماد على الإنزال الجوي لتوفير إمدادات للبؤر الاستيطانية البعيدة.
ثالثا، كان مجرد الإعلان عن جمهورية على أنقاض إمامة البدر بمثابة صرخة بعيدة عن تأسيس دولة مركزية قادرة على احتواء القوى المندفعة بعيدا عن المركز.
ووفقا لذلك، انحدر جيش من المديرين المصريين صوب اليمن حيث نجحوا في استنساخ دولة مصرية بوليسية أخرى.
ومنذ عام 1964 فصاعدا، سعى ناصر إلى طريقة للانسحاب من اليمن، دون أن يؤثر ذلك على سمعته.
وفي عام 1965، ذهب عبد الناصر إلى جدة على حساب كبريائه، مبرما اتفاق سلام مع الملك فيصل، لكن السلام لم يتحقق، بسبب رفض “الوكلاء” في اليمن بشكل عنيد لعب دور في اتفاق أبرم من خلف ظهورهم، على حسابهم.
ولاحقا، دخل ناصر والملك فيصل في خصومة مجددا، وسافر الملك فيصل إلى طهران عارضا على شاه إيران “اتفاقا إسلاميا” ضد “المصريين الملحدين”.
المفارقة في محاولات السعوديين الراهنة تشكيل “محور سني” مع وجود مصر كحليف وليس عدو ضد عدوها اليوم إيران تشير إلى ضرورة تجنب تصوير الصراع الحالي في اليمن وفقا لمنظور طائفي.
وعودة إلى الستينيات من القرن المنصرم، سعى الملك فيصل إلى مصدر شرعية يعينه في منافسته مع ناصر قائد القومية العربية صاحب الشعبية الهائلة.
وكان الدين خيارا ملائما، فالسعوديون يفرضون وصايتهم على الأماكن الإسلامية المقدسة، أما اشتراكية السيسي ففتحت عليه اتهامات بعدم التقوى، كما أن شاه إيران الحليف الأكثر احتمالا للملك فيصل يشارك العاهل السعودي العقيدة الإسلامية، رغم اختلاف المذهب.
وفي ذات السياق، لم تقف الاختلافات الطائفية عائقا في تحالف الرياض مع الشيعة الزيديين أكثر مناهضي التدخل المصري داخل اليمن.
واليوم بالطبع، يناهض السعوديون العديد من ذات القبائل، ليس بسبب مذهبها الشيعي، ولكن لتحالفها مع قوى معادية تهدد بالإخلال بتوازن القوى الإقليمية.
وبينما يدعم الإيرانيون الحوثيين المخلصين للنسخة الزيدية الشيعية، فإن الإيرانيين يدعمون أيضا عناصر سنية في اليمن آثرت التحالف مع الحوثيين، وموالية للرئيس المعزول علي عبد الله صالح( الشيعي المذهب).
من المهم أيضا إدارك أن الماهية الدينية في اليمن أكثر مرونة من أجزاء أخرى في العالم العربي، كما أن الانقصامات بين الضفائر المختلفة للسنة والشيعة أقل حدة من العراق على سبيل المثال.
اعتماد ناصر العميق على الاتحاد السوفيتي وصراعه الحاد مع السعودية وبريطانيا وضع توترا متزايدا في علاقته مع الولايات المتحدة.
وبينما كانت إدارة جون كينيدي ملتزمة بسياسة انفراجية مع ناصر، جعل استمرار الصراع في اليمن من تدهور العلاقات أمرا حتميا. وفي ظل إدارة الرئيس ليندون جونسون، توقفت المساعدات الاقتصادية للقاهرة.
الحرب في اليمن لم تسمم فقط موقف ناصر على المستوى الدولي، بل هددت استقراره محليا، حبث انتقلت الظروف الاقتصادية المصرية من سيء إلى أسوأ، كما زادت مشاعر الاستياء المحلية إلى مستويات خطيرة، وتصاعدت حدة الانتقادات العربية التي بدأت في النيل من سمعة ناصر.
وفي عام 1976، دخل ناصر مقامرة لحل كافة هذه المشاكل عبر تحويل أنظار العالم صوب الشمال، حيث زحف بجيشه في صحراء سيناء في وضح النهار، مثيرا أزمة دولية أسفرت عن حرب الأيام الستة مع إسرائيل (يونيو 67)، وكانت النتيجة هزيمة كارثية، أدت إلى انسحاب القوات المصرية من اليمن، وهكذا جعل من إسرائيل خادمة غير متوقعة للنصر السعودي.
ومع إفلاس مصر، أُجبر ناصر على الانسحاب من اليمن مقابل تعهدات بمساعدات مالية من الملك فيصل، في صفقة أبرمت في أغسطس 1967 في قمة الجامعة العربية بالخرطوم، والتي اشتهرت باللاءات الثلاثة لإسرائيل. وترمز القمة المذكورة إلى ميزان القوة من القاهرة إلى الرياض، حيث باتت الناصرية قوة مستهلكة.
وفي نوفمبر 1967، غادر آخر جندي مصري شبه جزيرة سيناء، في نهاية لتهديد وجودي جابه المملكة السعودية على مدى جيل.
وعزل الرئيس عبد الله الصلال، رجل مصر في اليمن، في انقلاب، بمجرد أن غادرت القوات المصرية صنعاء، ولم يبذل خلفاء الصلال إلا القليل لتنفيذ الوعود العظيمة للثورة.
إذا كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يعلم تاريخه، فعليه أن يكون مترددا حيال توريط مصر في حرب برية جديدة باليمن، لكن الإغراء باقتناص هذه الفرصة لاستعادة مكانة مصر التي تضاءلت في المنطقة لابد أنها عظيمة، وهو نفس الإغراء الذي كان أمام عبد الناصر في 1962.
ربما يكون هناك حل وسط، ففي ذلك الوقت، قام عدد من مستشاري عبد الناصر الواعين بمناشدته بالاكتفاء بالدعم الجوي واللوجيستي للقوات اليمنية التي كانت تحارب لدعم الجمهورية اليمنية.
بالتأكيد، هناك سيناريو مماثل يدور في أروقة القاهرة في الوقت الراهن، ومن أجل مصر، يمكننا أن نأمل في أن محرزيين جدد يحققون الانتصار.
وماذا إذا لم يتسن لهم ذلك؟ .. هذه ثلاثة دروس يمكن للقوى المتدخلة في اليمن تعلمها من تجربة مصر السابقة في هذا الصدد.
الأول: عليهم ألا يتوقعوا دعما كاملا من الولايات المتحدة، فوجهة نظر القوة العظمى دائما ما تكون أكثر تعقيدا من وجهة نظر أي لاعب إقليمي، لكن وجهة نظر هذه الإدارة (الإدارة الأمريكية) حيال الشرق الأوسط تنحرف بشكل حاد عن الرأي السائد في القاهرة والرياض.
فالسعوديون، الذين انضم إليهم الآن خصومهم السابقون “المصريون، سيبذلون قصارى جهدهم للإشارة إلى حماقة جهود الولايات المتحدة لاسترضاء إيران، بالضبط كما فعلوا في عام 1960 عندما كان خصمهم هو عبد الناصر.
وكما هو الحال الآن، من المشكوك فيه أن يسمع أحد (في الولايات المتحدة) لنداءاتهم.
الثاني: القوى المتدخلة سيكون عليها إعداد جيش ضخم إذا كانت تأمل في غزو اليمن والسيطرة عليه، ففي ستينات القرن الماضي، نشرت مصر 70 ألف جندي، وفقدت ما لا يقل عن عشرة آلاف منهم، ولا تزال غير قادرة على تحديد من هم المتقدمين في صفوف الحوثيين.
ليس من قبل المصادفة أن اليمن معروف بـ”مقبرة الأتراك”، حيث كان ذلك بعد أن عانت القوات العثمانية خسائر فادحة إثر محاولتها السيطرة على عمليات تمرد قبلية متكررة خلال القرن التاسع عشر.
وقد تؤدي القوى المتدخلة في اليمن حاليا بشكل أفضل للحد من أهدافهم، فإذا كانوا مستعدين للقبول باتفاقية لتقسيم السلطة تحفظ مكاسب الحوثيين لكن تحرمهم من الجوائز الإستراتيجية في عدن وباب المندب، فيمكن أن يكتفوا بقوات برية أقل عددا مدعومة بقوة جوية وبحرية.
الثالث: ليس هناك ولاء دائم في اليمن، فقد تلقى السعوديون مؤخرا رسالة تذكير بهذه الحقيقة عندما أسقطهم رجلهم في اليمن، الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، في معقل سيطرة الحوثيين.
وفي المقابل، ليس لدى الحوثيين أي مشكلة في مد أيديهم لصالح، على الرغم من أن مؤسس حركتهم قتل في عام 2004 من قبل الجيش اليمني بأمر من صالح نفسه.
إن الاتجاهات الرامية نحو إلى تفتيت اليمن التي دائما ما تسود في هذا البلد لم تكتسب قوة إلا منذ أن وصل الربيع العربي لصنعاء في عام 2011، فاليمن اليوم بات دولة محطمة، حيث تسود الانتماءات القبلية، ويتم تشكيل التحالفات وحلها بطريقة متلونة.
إن أي غزو جسور لركوب النمر القبلي في اليمن سيحتاج براعة فائقة للإبحار بين القبائل والدعم المالي غير المنتهي الذي يمطرهم.
يمكن للسعوديين الأثرياء تجنب نوع من التمرد المضاد الطويل الأمد الذي تعثرت فيه أربعة فصائل مصرية في الستينات، فعليهم أن يكونوا قادرين على الاستمرار في جهود الحرب باليمن بالتحديد.
والسؤال اﻷكبر هو: إلى متى يمكن للإيرانيين، بينما لا يزالون تحت عقوبات اقتصادية منهكة، استدامة المنافسة مع الثراء السعودي في العراق وسوريا واليمن؟
الإجابة على هذا السؤال ربما لا يعثر عليها في القاهرة أو صنعاء، لكنها تعتمد بدلا من ذلك على الناتج النهائي للمفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني.