ويتخذ منكم شهداء
ويتخذ منكم شهداء
يمني برس:
الذِّكْرَى السنوية للشَّهِيْـد تمجيدٌ لعطاء الشُّـهَدَاء الذي هو أرقى عطاء وأسمى ما يجودُ به الإنسـان، وثمرته لِلأُمَّـةِ العز والنصر والحُـرِّيَّة، وإحياءٌ للروحية المِعطاءة والصامدة للشُّـهَدَاء في وجدان الأُمَّــة، وتَأكيدٌ على مواصَلة السير في درْبِ الشُّـهَدَاء طريقِ الحـريَّة والكرامة والعزة والاستقلال، واحتفاءٌ وتقديرٌ لأسر الشُّـهَدَاء، وتذكيرٌ لِلأُمَّـةِ بمسؤوليتها تجاههم
.. سيد الثورة والمقاومة في يمن الأنصار العلامة المجاهد عبدالملك الحوثي
يُحيي اليمنيون خلال الفترة 13 – 20 من شهر جماد الأولى من كل عام، الذكرى السنوية للشهيد، وفاءاً لدماء قائمة طويلة من قرابين العشق الإلهي، ممن رووا بدمائهم الطاهرة الزكية شجرة الحرية، تاركين خلفهم حزناً عميقاً، تلونت به كل جبهات العزة والكرامة، التي دونت في سجلاتها، بأحرفٍ من نور مشاهداً من بطولاتهم واستبسالهم وملاحمهم الجهادية، ستظل حكاياتها تتناقلها الأجيال، وتُوقظ في ضمير الأمة عبرة تشير الى الطريق الصحيح الذي سلكوه، وعبرة تسقي في نفوسنا جديب البقاء، لنتذكر دوماً أننا بقينا في وطنٍ حرٍ، عزيزٍ، مُصان، بفضل دمائهم الطاهرة وتضحياتهم الجسيمة، والتي لولاها لأصبحت اليمن في خبر كان، وما نراه في المناطق اليمنية المحتلة خير برهان، لمن كان له عقل يزدان، وفِكرٌ، وعِرفان.
يأتي إحياء اسبوع الشهيد هذا العام في ظل متغيرات داخلية مفصلية لصالح تيار المقاومة والممانعة، أهمها الانتصارات الميدانية في البيضاء والحديدة ومأرب والجوف، وحيلولة المجلس السياسي وحكومة الإنقاذ الوطني دون انهيار الريال والحفاظ على قيمته في وجه الدولار الأميركي، والحفاظ على استقرار السوق في المناطق غير المحتلة، ونجاح الصناعات العسكرية اليمنية في إدخال أسلحة جديدة في الخدمة ذات تقنية عالية وفاعلية قتالية وتدميرية ومدى أكبر، أخرها الطائرة العمودية، ولا زالت جُعبة صناعاتنا العسكرية بحمد الله وتوفيقه زاخرة بالكثير من المفاجأت، وتوجيه ضربات نوعية للاحتلال السعودي، وسحب كل أوراق القوة من يد الاحتلال وأدواته المحلية، ما يُعطي إحياء الذكرى السنوية لشهدائنا الأبرار هذا العام نكهةً خاصة.
سبع سنوات من التضحية المُشرِّفة في سبيل اليمن، غسلت دماء أحراره ذنوب ستة عقود من التبعية المقيتة والمُذِلة للدرعية، وثمانية عقود ونيف من الاستباحة لبلد الإيمان والحكمة.
سبع سنوات من التضحية المُشرِّفة في سبيل اليمن، أشعلت دماء أحراره منائر مدنه وجباله وهضابه، وشقت غبار الزمن، وهزت الضمائر، وأنارت دروبه، وحولُته الى شيئ تنحني له الهامات إحتراماً، ويحسب له المتربصون به الدوائر ألف حساب، بعد أن كان لا شيئ، ومجرد حديقة خلفية لصبيان الدرعية، وجعلته رقماً لم يعد بالإمكان تجاوزه أو تجاهله أو تهميشه في المنطقة سلماً وحرباً.
ماهية الشهادة:
الشهادة في الثقافة الإسلامية صفة يُوضع من ينالُها في مرتبة تلي المرتبة التي منحها الله سبحانه وتعالى للأنبياء في الدنيا، ودرجة مساوية لهم في الآخرة، حيث يجمع المسلم في دعائه للميت بين “النبيين والصديقين والشهداء” عند ذكر الدرجة المرجوة للشهيد في الآخرة.
وقرن الله سبحانه وتعالى في الآيتين 69 – 70 من سورة النساء بين منزلة النبيين ومنزلة الشهداء والصديقين: “وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيما” للتأكيد على المكانة الرفيعة التي تفرد بها الشهداء دون سائر الخلق، مؤكداً في الآية 140 من سورة آل عمران بأن الشهادة منحة واصطفاء واجتباء إلهي، وليست محنة دنيوية كما يتوهم ضِعاف النفوس وعبيد الدنيا، لا ينالها سوى الصفوة المختارة من عباده الصالحين، ممن ذابوا في العشق الإلهي، وأخلصوا النية في متاجرتهم الرابحة مع الله: “وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء”، أي: ليُكَرَم منكم بالشهادة، من أراد أن يُكَرِمه الله بها، وأي كرامة أعظم من هذه الكرامة.
وتحتل الشهادة في دعاء المرء لنفسه أعلى قائمة “الرغبات”.
وإذا كان المتوفى قد قضى نحبه دفاعاً عن وطنه، قال الناس، غبطة له، ورغبة في نيل ما ناله من وسام رباني: “هنيئاً له الشهادة”.
ولا تقتصر تلك الكرامة على الشهيد، بل تمتد للأحياء من أسرته، فيُقال: ابن الشهيد، أو أم الشهيد، أو أخو الشهيد، أو أبو الشهيد، أو زوجة الشهيد، أو أخت الشهيد…إلخ.
هذا الاحتفاء بالشهادة يعكس ما ترسّخ في الوجدان الجمعي للمسلمين من احترامٍ شديد لمن فقد حياته في سبيل قضية أو هدف أو قيمة، وأي هدف أسمى من الدفاع عن الوطن ومجابهة الغزاة والمحتلين وذيولهم ممن باعوا وطنهم وسيادتهم وعرضهم وشرفهم وكرامتهم وحريتهم وإنسانيتهم للغزاة.
في بداية الإسلام كان معنى الشهادة يتلخص في “الثبات على الدين” في مواجهة التعذيب والتنكيل المُفضيين إلى الموت، بدأ ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لصحابته، حين شكوا إليه ما يلاقونه من قريش، بأن من كان قبلهم “كانوا يوضعون تحت المنشار ويمشطون بأمشطة من حديد لا يزحزحهم هذا عن إيمانهم”.
صحيحٌ أن الإسلام قد أعطى رخصة لمن لم يطق العذاب أن يُعطي مُعذبه باللسان ما أراد من إظهار الرجوع عن الدين: “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان”/ النحل 106، كما هو حال “عمار بن ياسر” رضوان الله عليه، لكن من رفضوا استخدام تلك الرخصة عُدوا شهداء، كآل عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم، فقد عُذبوا حتى الموت.
وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة وإعطاء الإذن الإلهي للمسلمين بالقتال دفاعاً عن أنفسهم وأموالهم، واعتبار النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين “الجهاد” سياحة أمته، و”الشهادة” ثمرتها اليانعة، لما لذلك من أهمية في إعلاء كلمة الله وإقامة دعائم دولة الاسلام، اتسع معنى الشهادة ليشمل من لقوا حتفهم خلال القتال، بل وعُدّوا في أعلى درجات الشهادة، سواء بالآيات القرآنية التي فرقت بين كونهم قتلى أو موتى، فإن كانت أجسادهم قد قُتلت فإنهم مع ذلك أحياءٌ يرزقون عند الله، أو بالأحاديث النبوية التي وصفت بعض ما فيه الشهداء من نعيم أو وضعت بعض التعريفات للشهيد.
الشهادة إذن برزخ يربط بين فضاءين أولهما دنيويّ يُختزل في مفهوم الجهاد، وثانيهما أخروي مُتخيل يزخر في أذهان أصحابه بشتى ألوان النعيم.
وهي في مفهوم الكاتبة السورية “فاطمة صلاح الكردي”: انضباط قيمي كبير، وارتقاءٌ في وعي المسؤولية وتضحياتها، وتحمل المسؤولية بشرف، وما تعنيه من أخلاقية وقيمية عالية، وأهم ركائزها اليقظة والتنبيه، لأنها الذاكرة الجهادية للأمة، وصدى نضالها، والاستعداد والجرأة ونزع الخوف.
والشهيد في مفهوم العلامة زكي الموسوي هو الحيّ الحاضر، والأمين في الشهادة الذي لا يغيب عن علمه شيئ، وهو اسم من اسماء الله المقتول في سبيل الله، وهو الخبير، وهو الشهيد الذي يشهد على الخلق يوم القيامة مع نبيها، قال تعالى في الآية 134 من سورة البقرة: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً”
وروحه تُعلق بورق الجنة، روي ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: “لما اصيب اخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خُضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها”.
وهو الذي تشهده الملائكة وتحضر موته، ولذا سُمي “شهيداً” لتلك الأوصاف المذكورة أعلاه، ولأن الله وملائكته شهود له بالجنة.
يقول الإمام الخميني رحمة الله عليه: “إحدى مميزات الإسلام اعتقاد المسلمين أن الشهادة درجة عظيمة وفوز كبير، والمسلم الحقيقي يستقبل الشهادة بقلب منفتح، لأنه يعتقد أن ما وراء هذا العالم وهذه الدنيا عالمٌ أفضل وأنور من هذا العالم”.
وللشهداء مكانة عظيمة دينياً وروحياً وإنسانياً، وأيامهم هي أيام التاريخ، وتاريخهم هو التاريخ الحقيقي، والفخار الحقيقي، يقول الشاعر:
“يوم الشهيد تحية وسلاما .. بك والنضال نؤرّخ الأياما”.
إنهم تاجُ رؤوسنا، وفخرُ أمتنا، وعنوانُ عزتنا، وصمودنا، وكرامتنا، وأيقونة النصر والحرية.
إنهم رجال الله، يكبُرون في زمن الصغار، ويُخَلَّدُون في أمكنة يتآكلها النسيان، ولا يغيبون عنا أبداً.
إنهم شموعٌ تُنيرُ ظلام القلوب، وأسماؤهم؛ محاريب دعاءٍ نتقرب بها إلى الله.
إنهم قرابينٌ تسخو في زمن القحط البشري في سبيل شجرة الحق والعشق التي لا ترتوي إلا بدماء الأبرار والأحرار، فيرثون الأرض والفردوس معا.
واجبنا تجاه شهدائنا؟
يجب على الأمة تجاه شهدائها، مبادلة الوفاء بالوفاء، ورد الجميل لتضحياتهم التي أحيت الأمة، وحررتها من قيود وأغلال الطغاة والمستبدين والغزاة والمحتلين، وأعلت من شأنها ومكانتها بين الأمم، ورد الجميل يستوجب:
1 – الحفاظ على نهجهم، وحماية الأهداف التي خرجوا من أجلها، وقدموا أرواحهم ودمائهم رخيصة لتحقيقها، وإحياء ذكرهم، واستحضار أسمائهم، وتذكر أعمالهم ومواقفهم البطولية وملاحمهم وتضحياتهم وتفانيهم وصبرهم واحتسابهم، وحذو حذوهم، والتآسّي والاقتداء بهم، والسير على نهجهم، واتباع طريقتهم المُثلى، لتكون حافزاً في وجدان وذاكرة الأجيال الصاعدة.
وأهم ما يحضرنا في الحفاظ على نهج الشهداء حماية الأهداف والغايات العظيمة التي انطلقوا منها، وقاتلوا من أجلها، واستشهدوا لأجلها.
يقول السيد عبدالملك الحوثي: “من وفائنا للشهداء ومسؤوليتنا تجاههم أن نكون أوفياء مع المبادئ والقيم التي ضحوا من أجلها، فالشهداء قدَّموا أنفسهم في سبيل الله لأهدافٍ عظيمة، كي يتحقق العدل، ويزول الظلم، وينعم الناس بالعزة، وتتحقق لأمتهم الكرامة، ويقوم دين الله، وتعلو كلمة الله.
القيم والمبادئ والأهداف التي قدَّم الشهداء أنفسهم في سبيل الله من أجلها، وضحوا من أجلها يجب أن نكون أوفياء معها، وأن تكون جهودنا جميعاً كمجتمع مؤمن، وكمجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى قائمة على هذا الأساس، وأن نصون هذه المسيرة المقدسة العظيمة من أن يشوبها الأشياء التي تُسيئ إلى قداستها، وإلى قداسة قضيتها، وإلى مستوى تضحياتها وعطائها وبذلها”.
2 – الاحتفاء بتاريخ شهدائنا، وتذكر مآثرهم وتخليدهم، وأن نظل نؤرخ لهم، ونتذكرهم بما يستحقون من الفضل والعزة والشرف، يقول السيد عبدالملك الحوثي: “إنَّنا في الذِّكْـرَى السنويةِ للشَّهيـد نَسْتَذْكِرُ الشُّـهَدَاءَ، ونَسْتَذْكِر مآثرَهم، ونَسْتَذْكِرُ منهم ما يزيدُنا في عزمنا، وفي ثباتنا، وفي صُمُوْدنا، لنكونَ أقدرَ في مواجَهة التحديات والأخطار التي لا تنفكُّ عاماً إثر عامٍ في ظِـلِّ الواقع المؤسف لأُمَّتنا عموماً، وفي بلدنا على وجه الخصوص”.
3 – الاعتناء بأسرهم وأبنائهم وذويهم، وتوفير حياة كريمة لهم، وإشعارهم بأن المجتمع كله أسرتهم.
4 – ربط الجيل الناشئ بذكراهم، سواء فيما يتعلق بأبناء الشهداء، وهذا مهم جداً لأن – والكلام لسيد الثورة والمقاومة – البعض من أبناء الشهداء ينشأ أو استشهد والده وهو في مرحلة الطفولة، عندما يكبر من المهم أن يعرف عن تضحيات والده، وعن الشهداء بشكل عام، وعن نماذج عظيمة، وكان لها مواقف استثنائية وبارزة جداً، وهذا شيء يجب أن يلحظ”.
وهنا تأتي أهمية توثيق وتدوين سير الشهداء ومآثرهم وبطولاتهم، لتعرف الأجيال القادمة ما كان عليه هؤلاء العظماء.
5 – تكفُل الجهات المعنية بقضاء ديون الشهداء، لأن جميع الحقوق كالدين والأمانة والذنوب التي لها علاقة بالناس لا تُغفر بدون رضاهم.
6 – زيارة رياض الشهداء، لما لذلك من أهمية في تذكير الناس بالمعروف الذي قدمه الشهداء، وإدخال السرور على قلوب وأرواح الأموات والشهداء، قال الإمام علي عليه السلام: “زوروا موتاكم فإنهم يفرحون بزيارتكم”.
*مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي