“نص” المحاضرة الرمضانية الثامنة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 28 رمضان 1443هـ
“نص” المحاضرة الرمضانية الثامنة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 28 رمضان 1443هـ
المحاضرة الرمضانية الثامنة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 28 رمضان 1443هـ 29-04-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
بدايةً نتوجه بالشكر إلى جماهير شعبنا العزيز في استجابتهم الواسعة، وحضورهم الكبير، لإحياء مناسبة يوم القدس العالمي.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يكتب أجر الحاضرين جميعاً، وأن يتقبل منهم.
التحرك في إطار موقف الحق، وإعلان كلمة الحق، ومباينة الأعداء، أعداء الله، أعداء المسلمين، أعداء الإنسانية، هو من الأعمال العظيمة، من الأعمال الصالحة، من أعظم القرب التي يتقرَّب بها الإنسان إلى الله “سبحانه وتعالى”.
كما أنَّ حضور الأمة في هذه المناسبة، ليكون لها صوتها المسموع، وموقفها المعلن، أمرٌ في غاية الأهمية؛ لأن حالة، الركود، والجمود، والسكوت، والصمت التام، والتوقف عن فعل أي شيءٍ تجاه العدو، وعن قول أي شيء، هو حالة ليست صحيحةً بكل الاعتبارات، لا هو أسلوبٌ ولا هي طريقةٌ تنسجم مع القرآن الكريم، توافق توجيهات الله “سبحانه وتعالى”، وأوامره في كتابه الكريم، ولا هي اقتداءٌ برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ولا هي الأسلوب المنطقي الصحيح، الذي يعتمده الناس فطرياً في طريقتهم في التعامل مع الأعداء، الذين يتحركون ضدهم بكل ما أوتوا من قوة، وبشكلٍ مكثف، وفي كل المجالات.
أن يكون الإحياء ليوم القدس العالمي إحياءً على مستوى واسع، في بلدانٍ متعددة، ومناطق متعددة، وأوساط واسعة هنا وهناك في العالم الإسلامي، فهذا أيضاً أمرٌ مهمٌ جدًّا، وإن كانت هناك مثلاً بعض البلدان تعيش الشعوب فيها وضعيةً مقهورةً، مغلوبةً على أمرها، لا تتحرك أي تحرك؛ نتيجةً لمواقف سلطاتها، وحكوماتها، وأنظمتها.
من المؤكد أنَّ الحالة الشعورية والوجدانية، وحالة التعاطف هي قائمة مع الشعب الفلسطيني، في مختلف شعوب هذه الأمة وبلدانها، ولكن التعبير عن ذلك، والتعبير عن الموقف من العدو الإسرائيلي، الذي يشكِّل خطراً على المسلمين، لا يقتصر خطره وشره وضره على بقعة فلسطين، والأجزاء العربية التي استولى عليها من الدول المجاورة لفلسطين، ضره وخطره شامل، وكما قلنا: كيانٌ فاسدٌ مفسد، موبوء، مُصدِّر للفساد، ينشر الفساد، ولذلك يفترض أن يكون موقف الأمة تجاهه، وتجاه القضية التي هي واضحةٌ جدًّا لا التباس فيها لدى الجميع، ومحل إقرارٍ قد سبق من الكل، عن أنه عدو، وأنَّ الموقف الصحيح منه هو التحرك ضده، وأنَّ الشعب الفلسطيني جزءٌ من الأمة، وفلسطين وطنٌ وبلدٌ من بلدان الأمة الإسلامية، فالموقف الصحيح، الموقف الطبيعي، الموقف الحق هو واضح، لا التباس فيه أصلاً، والذين يرتدون عنه إلى تبني مواقف مختلفة، متباينة، تتحالف مع العدو الإسرائيلي تحت عنوان التطبيع، توالي العدو الإسرائيلي، هم في حالة ارتدادٍ عن الثوابت الواضحة، والحقائق الواضحة، التي سبق أن كانوا هم من يعترفوا بها فيما مضى، وقد يتظاهرون في بعض الأحيان أنهم يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني، أنهم ضمن الأمة في موقفها العام المعلن، في مراحل كثيرة مما قد مضى.
العدو الإسرائيلي، وإن كان الكثير من أبناء الأمة، نتيجةً لأسباب متنوعة، بين من يعيشون حالة المخاوف، والكبت، والقهر، بين من قد اتجهوا في حالة الانحراف نحو الولاء للعدو الإسرائيلي والتأثر به، بين من لديهم نقص كبير في استشعار المسؤولية، وتقوى الله “سبحانه وتعالى”، وإدراك خطورة التفريط، والإهمال، والتقصير، أسباب متفاوتة جعلت الكثير من الناس مع ما يعيشه عالمنا الإسلامي من ضغطٍ كبير، وراءه أعداؤنا من اللوبي اليهودي الصهيوني العالمي، والعدو الإسرائيلي، في كثيرٍ من المشاكل والفتن والأزمات، الضاغطة، المشوشة لذهنية الكثير، والتي تهدف إلى زعزعة كيان هذه الأمة، ألَّا تكون أمةً مستقرة، بل أن تكون في وضعيةٍ مضطربةٍ بشكلٍ دائم، ومضغوطةٍ بشكلٍ مستمر، وأن تتحقق للعدو من خلال طبيعة المؤامرات، الفتن التي يخطط لها، الأزمات التي يستثمر فيها ويفاقم منها، المشاكل التي يغذيها ويدرس كيف يستفيد منها، كل هذا أراد منه العدو أن يحقق له أهدافه الرئيسية: في إضعاف هذه الأمة، في تشتيتها، في بعثرتها، في إفقادها كل عناصر القوة المعنوية، والعملية، والإيمانية، والمادية، وصولاً إلى السيطرة التامة عليها، والاستغلال التام لها، في واقعٍ سيء، سيطرة من واقعٍ عدائي، بدافعٍ عدائي، يريد لهذه الأمة أن تكون- وهو مسيطرٌ عليها- في وضعية سيئة جدًّا، وضعية سيئة بكل الحالات: على المستوى الأخلاقي، والإيماني، والقيمي، وعلى مستوى الدين والدنيا، في كل شيء.
فهذه الحالة جعلت الكثير من الناس يغفلون عن واجباتهم، عن مسؤولياتهم، تجاه هذه المسألة: القضية الفلسطينية، الخطر الإسرائيلي على المسلمين جميعاً، الخطر الذي مصدره اللوبي الصهيوني العالمي، الذي يتحرك على نطاق واسع، من خلال أمريكا، من خلال بريطانيا، من خلال دول غربية تنفذ سياساته، تتحرك وفق مؤامراته.
وهذه الغفلة والتجاهل لدى الكثير من أبناء الأمة، هي مصدر ضررٍ على الأمة نفسها؛ لأنها لا تجدي شيئاً، لا تجدي شيئاً لا في دفع الشر، ولا في دفع الخطر عن الأمة، ولا تعفي من المسؤولية، لو كانت حالة الغفلة والتجاهل، وعدم الاهتمام بما علينا أن نقوم به، بما علينا أن نهتم به، تنفعنا بشيء، لكانت قد نفعت المسلمين إلى أقصى حد؛ لأنها السمة الغالبة في واقع العالم الإسلامي، في واقع الشعوب، ولكان واقع الأمة قد صلح إلى أقصى حد، لو كانت تفيد شيئاً، لكن الواقع يثبت أنها تخدم الأعداء، تضر بالأمة، وتفيد أعداء الأمة، تفيد اليهود، اللوبي الصهيوني العالمي، تفيد العدو الإسرائيلي، تفيد الأعداء بشكلٍ عام؛ لأنهم يتمكنون من العمل على تنفيذ مؤامراتهم ومخططاتهم في داخل الأمة، وهي في وضعية ليست في حالة استعداد، في حالة تصدٍ، في حالة ردة فعلٍ لمواجهة ذلك الخطر، بل الكل في وضعية جامدة، راكدة، بيئة مفتوحة، مسرح مفتوح، تنجح فيه المخططات، تنجح فيه المؤامرات.
من الحقائق القرآنية المهمة جدًّا، والجديرة بالالتفات إليها، والتأمل لها، والاهتمام بها: أن نشوء العدو الصهيوني الإسرائيلي في وطنٍ من أوطان المسلمين، بالقهر، والغلبة، والإجرام، والكيد، والمكر، والعدوان، وتحويله- لذلك الموطن الذي هو من بقاع المسلمين، وفيه مقدسات من أهم مقدساتهم- إلى قاعدة وأرضية ومنطلق يتحرك من خلاله، لنشر فساده وشره في أوساط الأمة، هذا الأمر- بحد ذاته- يعبِّر عن خللٍ كبير حصل في واقع الأمة، حتى أمكن للعدو أن يحقق مثل هذا الاختراق، في بلدٍ من بلدان العالم الإسلامي، أن يأتي، فيأخذ على المسلمين بلداً من بلدانهم، موطناً من أوطانهم، ثم أن يسيطر عليه، بالقهر، بالجريمة، بالاضطهاد، بالظلم، بالعدوان، بارتكاب أبشع وأفظع الجرائم، وأن ينكِّل بشعبٍ هو من هذه الأمة، جزء من هذه الأمة، من المسلمين، من العرب، ثم أن يبني كيانه، ويحوِّله إلى كيان يمتلك جيشاً، وقوةً عسكرية، ثم يتحرك من خلال ذلك إلى العدوان على بقية البلدان في العالم العربي آنذاك، ثم يبقى أيضاً منطلقاً للتآمر على العالم الإسلامي، ويطمح إلى أن يسيطر عليهم بأساليبه، ليس فقط بالحرب العسكرية، وإنما أيضاً بالحرب الناعمة، بالحرب التي يشتغل فيها بأسلحةٍ أخرى أيضاً إلى جانب الحرب العسكرية.
الله “سبحانه وتعالى” قال عن اليهود في القرآن الكريم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}[آل عمران: من الآية112]، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} تعبِّر عن كل زمانٍ ومكان، وهي وضعية تؤثر عليهم في أن يتحركوا لقهر أمة، لضرب أمة، للسيطرة على أمة بحجم الأمة الإسلامية، بحجم العالم الإسلامي، ولذلك عندما قال: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، هذه المسألة المهمة جدًّا، التي على المسلمين أن ينتبهوا لها، لم يتمكن العدو الإسرائيلي أن يفرض له وجوده في بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي، فيها مقدساتٌ من أهم مقدساتهم، وأن يضطهد شعباً من أبناء هذه الأمة، وأن يتحول هو إلى مصدر لنشر الفساد في هذه الأمة، والإضلال لهذه الأمة، إلَّا نتيجة خللٍ كبيرٍ في واقع الأمة؛ لأن منهجية الإسلام في كل جوانبها: على المستوى التربوي، على المستوى العملي، على مستوى نتائجها عندما تسير الأمة عليها، هي تحصن الأمة من الاختراق، تبني الأمة لتكون في مستوى مواجهة أعدائها، تحظى الأمة من خلالها بالنصر من الله، وبالمنعة، وبالعزة، وبالقوة، فتكون في مستوى مواجهة التحديات، ومواجهة الأعداء، فكيف يأتي الأعداء الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، فيذلوا الأمة الإسلامية، يذلوها، ويتمكنوا من تحقيق أهداف كبيرة وخطيرة، ويتحدوا هذه الأمة لزمنٍ طويل، لعقودٍ من الزمن، هذه حالة خطيرة، هذه حالة سلبية، تستدعي من أبناء الأمة أن يلتفتوا إلى واقعهم؛ لاكتشاف كل جوانب الخلل، كل جوانب القصور، كل جوانب التقصير، التي فقدوا فيها النصر والتأييد من الله “سبحانه وتعالى”، وكانت سبباً في أن يتمكَّن أعداؤهم الأذلاء- الذين قد ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة- من هزيمتهم.
عندما يقول الله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}، الحبل من الله هو: التسليط، هو أن يترك لهم هذه الفرصة نتيجة تقصيرٍ كبير، وخللٍ كبير، من الجانب الآخر، من جانب المسلمين، مثلاً: في واقعنا الإسلامي.
{وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، ما يأتي مثلاً من جانب الآخرين من مساندة، مثلما هو حال الغرب، الذي وقف مسانداً للعدو الإسرائيلي الصهيوني، وتفريط وتقصير أيضاً- حبل آخر- من جانب الناس بشكلٍ عام، من جانب المسلمين أيضاً، من جانب المسلمين، في تقصيرهم، في تفريطهم، ببترولهم، بإعلامهم، بكل ما يفيد العدو، ويصبح وسيلةً لخدمة العدو، ودعم العدو من جانبهم.
فهذه المسألة تبين خطورة الغفلة عن هذا الموضوع؛ لأن جانباً منه يعود- وهو جانبٌ رئيسيٌ وأساسيٌ تجاه ما حصل- يعود إلى واقعنا، ويبين لنا عندما نريد أن نتحرك مثلاً تحت عنوان التصدي لهذا العدو، أنَّ جزءاً كبيراً من المهام، من الأعمال، من المسؤوليات، تتصل بتصحيح واقعنا، تحت عنوان التصدي لهذا العدو، التصدي لهذا الخطر، التصدي لهذا الشر، الذي هو شرٌ كبيرٌ علينا كأمةٍ إسلامية، جزءٌ كبيرٌ منه يعود إلى العناية بواقعنا الداخلي؛ لتصحيحه، ولتحصينه، وهذا ما لا يستوعبه الكثير من الناس؛ لأنهم يرون المعركة فقط معركةً عسكرية، الجانب العسكري جزءٌ أساسيٌ ورئيسيٌ فيها، لابدَّ أن يكون محط اهتمامٍ كبير، وسنتحدث عن ذلك، ولكن من ضمن ذلك، ومع ذلك، وإلى جانب ذلك: الجوانب الأخرى المتصلة بواقع حياتنا في بقية المجالات، ذات التأثير الكبير في هذه المعركة، وفي نفس الوقت يجب أن يكون العنوان حاضراً: عنوان القيام بالمسؤولية في التصدي لذلك العدو، العداء لذلك العدو، أن نتخذه عدواً، وهذا جانبٌ يهدي إليه القرآن الكريم، وهو يبين لنا طبيعة هذه المعركة، أسباب وحيثيات تطوراتها.
عندما نأتي مثلاً لندرس كيف نشأ هذا الكيان على بقعةٍ من بقاعنا الإسلامية، في مراحل متعددة، بدءاً بعصابات يهودية توافدت إلى أرض فلسطين، كيف كان موقف الأمة بشكلٍ عام؟ كيف كان مستوى اهتمامها بهذه المسألة آنذاك في وقتٍ مبكر، هل تعاطت مع الموضوع كما ينبغي؟ بالتأكيد لا، بالتأكيد لا، ولا زالت هذه الروحية سارية في واقع الأمة، وقائمة تجاه مختلف الأخطار.
لا يستوعب الكثير أهمية التحرك المبكر كما ينبغي للتصدي للخطر، ويريدون أن يكتمل الخطر في الواقع؛ لكي يصدِّقوا بأنه خطر، ولكي يصدِّقوا بأن مستوى خطة العدو تهدف إلى أن يصل الوضع إلى ما يصل عليه، هذا هو الحال عندما نقول: هناك فعلاً مؤامرات واضحة لأعداء الأمة للسيطرة على كل العالم الإسلامي، على كل بلداننا، للسيطرة علينا جميعاً في هذه الأمة، على كل الشعوب، لا يستوعب البعض هذه الحقيقة، لا يدرك أنَّ أولئك- بالتأكيد- لهم أطماعهم، لهم نزعاتهم ودوافعهم العدائية، وإذا وجدوا الظروف مهيَّأة، ووجدوا هذه الأمة مهيَّأة، لا تمتلك المنعة، العزة، القوة، لا تمتلك المشروع، الذي تتصدى به لمؤامرات أعدائها، فلن يترددوا في اغتنام هذه الفرصة، التي وصفها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” فيما روي عنه، عندما قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تتداعى الأكلة على قصعتها))، كأنهم يتداعون إلى وليمة، وليمة دسمة، وليمة مغرية، وليمة جذَّابة، يتداعون إليها من هنا وهناك، ((قالوا: أمن قلةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل))، هذه الحالة السلبية التي تصاب الأمة فيها- وهي أمة كبيرة، بمقدرات ضخمة، ورقعة جغرافية كبيرة- بالوهن، بالوهن، عندما قال: ((ويزرع الوهن في قلوبكم))، هذه الحالة الخطيرة جدًّا، غثاء كغثاء السيل، تحول الأمة تفقد القيمة لإمكاناتها، وعددها، وعدتها، الفاعلية اللازمة لذلك، فلا تكون قويةً بمقدار ما تمتلك، أو ما يتهيَّأ لها وما هو متاحٌ لها من عناصر القوة، والإمكانات اللازمة، مما هو متوفر، أو متاح، متاحٌ بين أيديها؛ إنما هي لا تقبل على ذلك؛ لأنها غافلة عن الموضوع من أساسه.
فأن تكون الأمة في وضعية من التفريط، والتقصير، والعصيان، والغفلة، والبعد عن منهج الله الحق، تسبب لنفسها التسليط عليها، تمكين أعدائها منها، هذا- بحد ذاته- أمرٌ خطيرٌ للغاية.
ثم عندما نأتي إلى طبيعة الصراع مع هذا العدو، كما نشوؤه حالة تدل على واقعٍ غير سليم في أمتنا، وخللٍ حصل، حتى حدث ما حدث، فكذلك هو وجود حالة المسارعة من البعض من أبناء الأمة لتولي ذلك العدو، للتحالف معه، للتعاون معه، ونحن قلنا بالأمس: إنما هم يمكِّنون ذلك العدو من السيطرة عليهم، وإضلالهم، وإفسادهم، واستغلالهم، لن يتحول إلى صديقٍ حقيقيٍ لهم، مهما فعلوا له، مهما قدَّموا له، لن يتحول إلى صديق حقيقي، لا للسعودي، ولا للإماراتي، ولا لآل خليفة… ولا لأي عربيٍ، أو مسلم، من أي بلدٍ يتجه هذا الاتجاه الخاطئ في الولاء للإسرائيلي، يبقى عدوٌ، لكن يستغل الفرصة، يتمكن أكثر من السيطرة بتلك الطريقة الناعمة، من أجل الإضلال، والإفساد، الإضلال في كل شيء، بما في ذلك في المواقف والتوجهات، وأيضاً الإفساد، الإفساد لهم، والإفساد داخل شعوبهم؛ لأنهم يفتحون كل الأبواب أمام العدو الإسرائيلي، يفتحون له كل شيء، ويعطونه الامتيازات ليتمكَّن أكثر، وكل التسهيلات اللازمة التي يتمناها هو، ليتمكن من خلالها أن ينشط بدون قيود، ولا عوائق، ولا حواجز، لتنفيذ مؤامراته في الإضلال، والإفساد، والاستغلال، في نهاية المطاف يبقى أولئك بالنظر له، في نظره يبقون مجرد بقرات حلوبة، وأتانات مركوبة… وغير ذلك، حيوانات لا قيمة لها، تستغل إلى غاية الاستغلال، وأقصى مستوى من الاستغلال، هذا الذي يحدث.
الحالة- بحد ذاتها- هي حالة غير سليمة أبداً، ليست مجرد رأي سياسي، وخيار سياسي، ليقول لك: [أنا بلد حر، أتخذ أي خيار سياسي في علاقاتي الدولية]! هذا ليس من هذا القبيل، الولاء للعدو، الذي هو عدوٌ لك، ولأمتك، ولدينك، ولرسولك، ولكتابك، عدوٌ لكل شيء، لكل ما هو عزيزٌ ومقدَّس لديك بحسب انتمائك الإسلامي، وإن لم يبق لديك شخصياً، لكن بحسب انتمائك، ليست مسألةً بسيطة.
ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}[المائدة: من الآية52]، فتصبح المسارعة في توليهم، المسارعة والعمل النشط- وهذا ظاهرٌ في واقع المطبعين- العمل النشط السريع في خدمة أولئك، فيما يخدمهم، في تقديم التسهيلات لهم، في الانتقال بقفزات إلى الأمام في العلاقات معهم، قفزات غريبة، غريبة جدًّا، هذه الحالة تكشف عن حقيقةٍ مهمة ذكرها الله في القرآن الكريم، عندما قال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، حالة ليست سليمة على المستوى الأخلاقي، على المستوى الفطري السليم، أولئك فقدوا الإيجابيات للفطرة، القيم الفطرية، وفقدوا أيضاً القيم الإسلامية، فقدوا القيم الإسلامية، لم يعد لديهم إيمان، ولا تقوى، ولا عزة، ولا كرامة، ولا إباء… ولا أي شيءٍ من القيم الفطرية والأخلاقية، الإسلامية أيضاً.
وهذه الحالة من الخلل الكبير التي تحدث، فتبنى عليها مواقف، هي تعبِّر عن انحراف حقيقي عن مبدأ الإسلام، ودخول في حالة النفاق، وجزءٌ أساسيٌ من خطة العدو الإسرائيلي هو الاختراق لهذه الأمة إلى الداخل؛ ولذلك هو يركِّز- ومعه اللوبي الصهيوني بشكلٍ عام من ورائه- يركِّز على الولاء والتطويع، كأسلوب أساسي يعتمد عليه في السيطرة على أبناء هذه الأمة، أن يكسب ولاءهم، وأن يحولهم إلى مطيعين له، ينفذون هم مؤامراته عليهم، وهو يقدمها بشكل سياسيات، وبشكل خطط، تحت عناوين مخادعة، ينخدع بها الكثير منهم؛ فيتجهون هم يمولون تنفيذها، وينفذون ما فيها، وهي تضعفهم، تفسدهم، تضلهم، وهي تُمَكِّنه منهم، وهي تبعدهم عن تأييد الله “سبحانه وتعالى”.
ولذلك عندما يبقى الحس العدائي غائباً، وتحل محله الغفلة؛ تظهر هذه السلبية إلى حدٍ كبير، عندما يركِّز العدو يركِّز على أن ينشر حالة الولاء له، وأن يفقد الأمة شعورها العدائي تجاهه، الشعور العدائي نحوه كعدو، والتعبئة العدائية نحوه كعدو، من أهم ما ركز عليه القرآن الكريم، ومن أهم ما فرَّط فيه المسلمون، إلى درجة أن البعض يعارض ذلك، يعتبر هذا الأمر لا داعي له، لا ضرورة له، ويظهر انزعاجه، عندما يكون هناك نشاط تعبئة عدائية ضد ذلك العدو، وهي الحالة التي تحصِّن من الولاء له، التعبئة العدائية الشديدة، التي تترجمها مواقف، تترجمها أنشطة، تترجمها هتافات، تترجمها شعارات، ولا تبقى حالة مخفية، لا يعبَّر عنها حتى بالكلام، أمر سخيف للغاية، البعض من الآراء آراء سخيفة، لا تنسجم بأي حالٍ من الأحوال لا مع القرآن، ولا مع الواقع أيضاً.
فلذلك عندما يركز العدو على التطويع، ويركز على الولاء، ويركز على بيئة مفتوحة أمامه، لا يوجد فيها أي تعبئة عدائية تجاهه، يجدها بيئةً سهلة، قابلة للاختراق، قابلة لأن تنجح فيها مخططاته ومؤامراته؛ بينما إذا كان هناك نشاط يتمثل في تعبئة عدائية، وفي نشرٍ للوعي من خلال القرآن الكريم؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” ركَّز في القرآن الكريم أن يحذر من الولاء للعدو، وتحذير واسع ومتكرر في القرآن وبشدة، وهذا يجب أن يكون عبارة عن نشاط قائم في واقع الأمة، في التثقيف، في التعليم، في الإعلام، وليس أمراً مسكوتاً عنه، إذا لم يكن هناك داعٍ للكلام حول ذلك، فلماذا يتحدث الله عنه في القرآن الكريم، ويركز عليه، ويأتي له بأهم العبارات، وبلهجة قوية، يعني: بعبارات قوية جدًّا، بالتحذير الشديد جدًّا؟ إلا لأهمية المسألة، وأنها تتطلب الحديث عنها في واقع الأمة.
والله “سبحانه وتعالى” حذَّر من طاعتهم، هو القائل: {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية100]، يردوكم كافرين، هذه الحالة التي يسعون فيها في واقع الأمة، من خلال التطويع للأمة، أن يسيروا بالأمة في حالة الارتداد، الارتداد عن قيم هذا الدين، عن مبادئ هذا الدين، عن أخلاق هذا الدين، شيئاً فشيئاً بأسلوبهم الترويضي، وهذه حالة واضحة في واقع الذين اتجهوا للولاء لهم تحت عنوان التطبيع، يرتدون عن مبادئ الدين، عن قيمه، عن أخلاقه، عن تشريعاته، وبشكلٍ مستمر ومتسارع، بخطى متسارعة، وهذه مسألة معروفة لمن يرصد حالهم.
من أهم ما يرشد إليه القرآن في ذلك، هو: الاعتصام بالله، الالتجاء إلى الله تعالى، والانطلاقة الإيمانية، التي لابدَّ منها في الارتقاء بالأمة، لتكون في مستوى مواجهة هذا التحدي والخطر، والاهتداء بالقرآن الكريم، والاقتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وأن تسير الأمة على منهجية الهدى بشكلٍ موحد، في إطار قيادةٍ موحدة، وتوجهٍ موحد، وأن تعتصم بحبل الله جميعاً، وأن تحذر من الفرقة، وأن تحذر من الخلاف، وأن تتجه على أعلى مستوى من الإحساس بالمسؤولية، ومن التقوى، {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: من الآية102]، تتجه هذا التوجه بجدية، تستشعر الخطورة الرهيبة للتفريط في أدائها لمسؤولياتها، وفي اهتمامها بهذه القضية، وهو الموقع الوحيد في القرآن الذي أتى فيه ذلك التعبير القرآني: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}؛ ليدل على الخطورة البالغة والرهيبة في التفريط تجاه هذه القضية، وأنه لابدَّ أن تكون الانطلاقة فيها بأعلى مستوى من التقوى، من الجدية، من الاهتمام، من الحذر من التفريط.
ثم يأتي الأمر في القرآن الكريم، في الآيات المباركة من سورة آل عمران، في هذا السياق نفسه، ليتحدث عن أهمية الأخوّة، والتعاون، أن تنطلق الأمة متكاتفة للنهوض بمسؤوليتها في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كل هذا يرشد إليه في القرآن الكريم في سياق رسم خطةٌ للأمة في التصدي لذلك العدو، فالمسألة في غاية الأهمية.
يبين كذلك في الآيات المباركة من سورة المائدة ما يتعلق بهذه المسألة، وما يحصِّن الأمة منها، وأن الواقع الذي ستعيشه الأمة أمام هذا التحدي هو لا يخلو من حالتين: إمَّا حالة ارتداد وتراجع، أو حالة توجه وفق المواصفات التي رسمها الله في القرآن الكريم، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: الآية54].
لو كانت المسألة مجرد ناس يرتد عن الإسلام، وناس يبقى مسلماً عادياً، لكان قال: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يسلمون، ويصلون، ويصومون، ولا يفطرون في رمضان… إلى آخر الروتين المعتاد)، لكن المسألة أكبر من ذلك، مستوى الالتزام الإيماني والديني يمتد أيضاً ليشمل جوانب المسؤولية، فيأتي بتلك المواصفات في مقابل من؟ في مقابل حالة الارتداد، وهذا التقابل لهذه الآية من أهم ما يهز ضمير الإنسان، ويحرِّك مشاعره، ويجعله يدرك أهمية المسألة؛ لأنه إن لم يكن متجهاً ليكون ضمن تلك المواصفات، فالحالة البديلة هي: حالة الارتداد عن مبادئ من هذا الدين، عن قيم أصيلة وأساسية من هذا الدين، عن مسؤوليات ومهام رئيسية، هي من صميم هذا الدين الإلهي، فهذا التقابل مهمٌ للغاية: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
ثم يتحدث القرآن الكريم قبل ذلك مبيناً خسارة الذين يسارعون في الأعداء، بأي شكلٍ كانت أشكال المسارعة، وهي في الاتجاه المنحرف، الاتجاه الذي يخدم الأعداء، يفيد الأعداء، يستغله الأعداء، فيبين كيف سيصبحون نادمين وخاسرين، {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}[المائدة: من الآية53]، تذهب آمالهم، تتلاشى آمالهم تلك، التي خططوا لها من وراء مسارعتهم، فيصبحوا نادمين.
هذه حقائق أكد عليها الله في القرآن الكريم، ولذلك نحن نلحظ مثلاً في واقع الأمة إيجابية، ثمرة ونتيجة ملموسة للتحرك في الاتجاه الصحيح، ضمن الروحية الجهادية، ضمن تحمل المسؤولية، والنهوض بها، رأينا الثمرة الإيجابية، النجاح يتحقق في فلسطين في واقع المجاهدين هناك، النموذج الراقي والمميز والكبر والناجح جدًّا في حزب الله في لبنان، رأينا هذه النماذج، رأينا النجاح الكبير عندنا ضمن هذا التوجه الإيجابي في اليمن، هو توجهٌ يرضي الله “سبحانه وتعالى”، ويبني الأمة، يبني الأمة في وعيها، يبني الأمة لتكون قوية، ينتشلها من حالة الضعف، ينتشلها من حالة الوهن، ينتشلها من الحالة التي تخدم أعداءها، تمكِّن أعداءها منها، يبنيها في كل المجالات، لتكون بمستوى التحديات، هذا هو الخير للأمة، والمصلحة الحقيقية للأمة، هو المفيد للأمة، هو الذي يحفظ لها دينها، ويحفظ لها دنياها، وهو الذي يفيدها في مستقبلها، وهو الذي يصلها بالله “سبحانه وتعالى”، برحمته، بنصره، بعونه، بتأييده.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛