الاستراتيجية العامة للثورة الشَّعْبية
الاستراتيجية العامة للثورة الشَّعْبية
أثبتت ثورة 21 أيلول/سبتمبر الطابع الإبداعي الخلاق للجماهير الشعبية اليَمَنية، والجماهير على الدوام مُبدعة الثورة، تتوقف قدرتها الإبداعية والتحويلية على المكون الثوري الذي يشجع ويهذب ويدير نشاطها الثوري.
كانت الاستراتيجية العامة في الثورة الشَّعْبية 21 أيلول/سبتمبر 2014م، هي ” التقدم إلى الأمام” وقد ظهرت في تلك المرحلة نكتة سياسية تعبر عن هذه الاستراتيجية وهي “شاصات أنصارالله بدون ريوس”، منشأ هذه الاستراتيجية الثقة بصوابية الموقف السياسي الثوري والإيمان العميق بدور الجماهير وقدرتها على تحدي الصعاب إذا ما استشعرت المسؤولية الدينية والوطنية وتحركت بجدية متوكلة على الله، هذا الاعتقاد الراسخ يرد في مختلف خطابات قائد الثورة.
بناء على هذه الاستراتيجية حُدد تكتيك مُعين للممارسة السياسية والميدانية في الثورة، ولم يكن التكتيك نتيجة التأمل الذهني بل عبارة عن الارتقاء في نشاط أنصار الله من العفوية إلى التخطيط أي من المقولة الشَّعْبية “ما بدأ بدينا عليه” ورد الفعل إلى المفهوم القرآني “وأعدوا لهم” الذي يتطلب التخطيط للمواجهة، وفي ذلك قال قائد الثورة: “المطلوب في هذه الخطوات المهمة هو التالي الصبر والعزم والتوكل على الله والانضباط وفق تعليمات اللجان التنظيمية لأنه مطلوب منا أن يكون تحركنا تحركاً منظماً وحكيماً ومنضبطاً هذا سيعطيه فعالية كبر.. المقام مقام مسؤولية يؤسس فيه شعبنا اليمني لمستقبله وليس فقط لحاضره، مقام يوقف فيه شعبنا سياسة العبث والفساد والاستغلال والاستئثار والاستبداد والظلم بكل أشكاله. صحيفة المسيرة، “السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي خطاب بدء المرحلة الأخيرة من الثورة”،( العدد (4) 1 أيلول/سبتمبر 2014م)
وهذا الارتقاء من العفوية إلى التخطيط والتفاعل الإيجابي مع الأحداث وتطوراتها السريعة والمتشعبة والانضباط الذي تحقق إلى حد ما في تجربة ثورة 21 أيلول/سبتمبر كان حصيلة خبرة سنوات من الحراك الميداني السياسي منذ الحروب الست ولاحقاً في أحداث دماج وعمران التي تعد إرهاصات للثورة الشَّعْبية والتي صقلت أنصارالله بفعل الضغوط المتعددة وفتح أكثر من جبهة سياسية وعسكرية وإعلامية في آن ومواجهة تحالفات واسعة ويمكن معرفة التكتيك من خلال ملاحظة العلاقة التفاعلية (الجدلية) بين الشعارات والمواقف السياسية والممارسة الميدانية التي تحققت في الملموس التاريخي في ثورة 21 أيلول/سبتمبر 2014م .
وضع أنصارالله شعارات تكتيكية مبدئية – ولا يقصد بالتكتيك الانتهازية بل وضع أهداف القريبة المتدرجة ضمن الهدف العام والنهائي- بهدف توحيد كافة القوى الاجتماعية التي لها مصلحة في الثورة، وتتلخص هذه الشعارات التكتيكية في “إسقاط الجرعة السعرية، إسقاط الحكومة الفاسدة، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، ومحاربة الإرهاب التكفيري”، وهو ما جمع إلى جانب أنصارالله جماهير شعبية واسعة، توحدت في سبيل تنفيذ الأهداف والشعارات المطروحة، وهي قوى اجتمعت بناء على دوافع غاية في التباين ولها أهداف متمايزة، وأمزجة وتطلعات مُختلفة، إلا أنها وجدت في الشعارات المطروحة أو بعضها حافزاً للتحرك الجماهيري الثوري بقيادة أنصارالله.
كان لدى قيادة الثورة استيعاب للوضع الاقتصادي والمزاج الاجتماعي وتقدير للوضع السياسي والانقسامات بين النخب الحاكمة، وهو ما مكن قيادة الثورة أن تُقر الشعارات التكتيكية السليمة وصولاً إلى الأهداف المرجوة، مع الارتباط الوثيق بالجماهير الشَّعْبية وتنامي الثقة المتبادلة ما بين الشَّعْب والمكون القائد للثورة، بخلاف من كانوا يرفضون “الجرعة” والانقلاب على التوافق في مؤتمر الحوار الوطني، ويتحدثون عن الثورة والديمقراطية والشراكة والعدالة والدولة المدنية وهم معزولون عن الجماهير وخارج الصراع الملموس ما بين القوى الثورية والقوى المعادية للجماهير.
كانت الشعارات والأهداف التكتيكية التي طرحت في الثورة الشَّعْبية مرتبطة بالمبدئية والصلابة والمرونة، وفي تفاعل (جدلي) مع الوضع التاريخي الملموس، ففيما كانت الجماهير الثورية في الشارع تمارس الفعل الميداني كانت القيادة الثورية والسياسية تلتقي بالأطراف السياسية وبالسلطة، رافضة التنازل عن الأهداف المطروحة ومُبدية الموافقة على إيقاف العمل الثوري في حالة تلبية الأهداف المطروحة، وبهذا توحدت الصلابة المبدئية مع المرونة.
في هذه المرحلة الحساسة قادت قوى الثورة المعركة السياسية بشكل حكيم، مع الوضوح التام وإطلاع الجماهير على الحقائق والمفاوضات السياسية، ما عزز ثقة الجماهير بالقيادة الثورية، وقد تحدد الخطاب والأداء السياسي آنذاك بما كان يُعبر عنه قائد الثورة في مختلف خطاباته، بالوضوح المبدئي: ” موقفنا موقف الشَّعْب ونحن جزء منه، ويجب أن يكون تحركاً عاماً لا يعبر عن فئة بخصوصها”، ومواجهة الخطاب المعادي للثورة بالتأكيد “نحن جمهوريون”، وباجتذاب أحرار الجيش والأمن ودعوتهم بعدم خذلان الشَّعْب والالتحام به وعدم الإصغاء إلى القوى التي تريد الزج به إلى معارك غير عادلة، والتصريح ” بعدم قبول أي مساومة على حساب الشَّعْب”، والتأكيد على سلمية، الثورة، وإدانة مواقف السفارات المعادية للثورة، والتصريح بكل شجاعة بأن من حق الشَّعْب اليَمَني أن تستجاب مطالبه وأن يفرضها فرضاً.
لعب الوضوح والصلابة والمصداقية والشجاعة في التصريحات التي كانت ترد على لسان قائد الثورة دوراً مؤثراً في تعاظم ثورية الجماهير واتقاد حماسها، التي وجهت بشكل دقيق إلى أكثر القوى المضادة للثورة رجعية وعناداً وإجراماً والإطاحة بها عسكرياً، ثم فرض خيارات السلم والشراكة والتوافق على بقية النخب الحاكمة التي لم تصطدم بالثورة عسكرياً، فعلى الرغم من أن العمل الثوري المسلح استهدف على نحو خاص علي محسن الأحمر وميليشيات حزب الإصلاح، إلا أن اتفاق السلم والشراكة بمبادئه وقضاياه كان يضرب المصالح غير المشروعة وآليات الاستبداد والسيطرة غير الدستورية، لبقية النخب الحاكمة ومنها الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأسرته والنخبة النافذة المرتبطة به وحزبه وبالنخب النافذة غير العسكرية الموالية لحزب الإصلاح وآل الأحمر وشركائهم.
إن حقيقة كون الثورة صراع قوى اجتماعية حية موجودة في ظل ظروف موضوعية محددة، يعني أنها لا تسير طبقاً لتعاليم كتاب مدرسي، بل طبقاً للوضع التاريخي الملموس، ولمستوى التطور الاجتماعي الاقتصادي، وللخصوصيات الحضارية الثقافية للشعب وتجربته الثورية، وقد عكست ثورة 21 أيلول/سبتمبر هذه المعطيات التاريخية، وتميز الحراك الثوري بتمويله الذاتي من خلال القوافل الغذائية الشَّعْبية ورفع معنويات المعتصمين من خلال الوفود التي كانت تزور مخيمات الاعتصام، وباجتذاب السكان إلى المشاركة من خلال الرقصات الشَّعْبية والزوامل الحماسية والتشييع الجماهيري لشهداء العنف الرجعي التي مارسته القوى المضادة للثورة ضد الثوار السلميين قبل انتقال الثورة لخيار الدفاع فالهجوم المسلح.
بناء على المرونة المبدئية ومتطلبات الواقع الملموس، أخذت الثورة الشَّعْبية أشكال نضالية مركبة من خبرة وتجربة الشَّعْب اليَمَني عموماً وأنصار الله خصوصاً، من التقاليد الريفية ومن الأساليب المدنية، فبدأت حركة الثورة بمسيرات شعبية، كانت تخرج الجماهير لتطرح مطالبها وتعود من حيث أتت، ثم تطورت الممارسة الثورية إلى نصب خيام في مداخل العاصمة والاعتصام داخلها -دون أن تعيق خط السير- ثم تطورت الحركة الثورية بوضع خيام جديدة على مداخل العاصمة، وصولاً إلى القيام بعصيان مدني لساعات محددة داخل مدينة صنعاء وأمانة العاصمة، ثم ارتقت الثورة إلى مرحلة جديدة برفع الشارات الصفراء والتهديد باتخاذ خطوات ثورية أقسى إذا لم تستجب المطالب الشَّعْبية.
انتقلت الثورة إلى مستوى أرقى بنصب الخيام جوار الوزارات والمؤسسات الحكومية، ثم إيقاف الشوارع في عواصم المدن لفترة معينة، وطوال هذه المرحلة تطور الفعل الثوري في مدينة صنعاء في ظل السلمية، رغم أن المواجهات العسكرية مع الجماعات التكفيرية وميليشيات القوى المعادية للثورة كانت مستمرة في محافظات ومديريات أخرى كمأرب والجوف وأرحب، وبالتزامن مع النشاط الثوري في صنعاء ومع قدوم وفود شعبية ثورية إلى محافظة صنعاء من المحافظات القريبة كانت تخرج مظاهرات شعبية مساندة للثورة الشَّعْبية في أغلب محافظات الجمهورية.
بدخول الثورة في خطوات ثورية متقدمة في ظل النشاط السلمي المكفول دستورياً، قامت القوى المعادية للثورة بقطع التطور السلمي للثورة وقمعها بالعنف الرجعي، الأمر الذي دفع قوى الثورة إلى الانتقال نحو خيار العنف الثوري، ووفقاً لخطة عسكرية معينة، وللفرز والانقسام السياسي في أوساط الجيش وتحييد الثورة لغالبية القوات العسكرية وتحديد المعركة مع القوات العسكرية التابعة للجنرال علي محسن والإخوان وبيت الأحمر حصراً، استطاعت لجان الشَّعْب الثورية المسلحة أن تواصل الثورة عبر الكفاح المُسلح دون الاصطدام بالمجتمع، رغم أن الانقسام السياسي والتعصب المذهبي المناطقي -التي كانت تؤججه القوى المعادية للثورة- كان في مستويات حرجة، ولم تستمر المعارك الثورية لأكثر من ثلاثة أيام في مدينة صنعاء حتى سقوط الفرقة الأولى مدرع وانتصار الثورة الشَّعْبية في 21 أيلول/سبتمبر 2014م، وتأمين العاصمة صنعاء.
ظلت قيادة الثورة محافظة على الشعارات التي رفعتها، ففي يوم انتصار الثورة بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر 2014م أكدت القيادة الثورية “إننا لسنا في وارد تصفية الحسابات والثأر والانتقام. مستعدون للعمل مع الجميع، أيدينا ممدودة لحزب الإصلاح، إخوتنا في الجنوب متضررون ومظلومون ونحن بجانبهم لحين حل قضيتهم، الثورة مكسب لكل الشَّعْب ولن نقبل بعودة الاستبداد إلى بلادنا”، هذه المصداقية والمبدئية في الشعارات طمأنت مختلف القوى السياسية والاجتماعية والثقافية وكبار الموظفين في الأجهزة الحكومية، بل وصل خطاب التطمين إلى دول الجوار بأن الثورة لا تستهدفهم ولن تمس المصالح المشروعة لهم في بلادنا إذا ما التزموا باحترامهم السيادة الوطنية للجمهورية اليَمَنية واحترام حقوق الجوار، وهو ما دفع مختلف القوى السياسية إلى توقيع اتفاق السلم والشراكة الوطنية وإن كانت غير مقتنعة بقضية الشراكة، وهو الأمر الذي دفع مختلف الدول إلى مباركة اتفاقية السلم والشراكة وإن كانت لا تريد مشاركة أنصار الله في الفضاء العام اليَمَني.
هذا الاجماع غير المسبوق على اتفاق السلم والشراكة داخلياً وخارجياً، يُثبت مصداقية قوى الثورة، وموضوعية مطالبها، وعدالتها، ويُثبت نجاح الثورة الشَّعْبية في الميدان السياسي وقدرتها على أن تعبر عن الجوهري في القضية الوطنية اليَمَنية المتمثل في السيادة الوطنية والشراكة وبناء الدولة العادلة والمحافظة على وحدة أراضي الجمهورية من التفكك والانقسام، وقد اصطدمت هذه المهام الثورية الوطنية الآنية والاستراتيجية بالقوى المعادية للثورة والشَّعْب المحلية والأجنبية.
*نقلا عن وكالة سبأ.