الإمام مجد الدين رائد نهضة وقائد أمة
الإمام مجد الدين رائد نهضة وقائد أمة
ليس من الغريب أن تلمع شخصية علمية أو دينية أو اجتماعية أو أدبية في أي عصر من العصور أو في أمة من الأمم.. فقد نرى مثلاً من برز في مجال العلوم الشرعية ووصل إلى درجات عالية فيها.. كما نرى إنساناً آخر ارتقى في مجال العبادة والزهادة والإنقطاع عن الدنيا حتى وصل إلى مراتب رفيعة في ذلك.
وكذلك قد نرى إنساناً وهبه الله أخلاقاً عالية، وتواضعاً جماً فاكتسب محبة الناس وحل في قلوبهم.. كما أن هناك أناساً وهبهم الله الحكمة والسداد في الرأي حتى صاروا مرجعية للمجتمع في جميع شؤونهم وقوانينهم العامة.. وهناك من الناس من برزوا من خلال امتلاكهم للذوق الرفيع والحس الأدبي العالي والمرهف الذي يحس بمشاعر الآخرين بل وقد يصورها في أساليب مختلفة من الشعر والنثر وغيرها من أساليب البيان..هذه الشخصيات وغيرها.. لا غرابة في أن توجد في المجتمع موزعة على أفراده فيأخذ هذا بصفة.. ويأخذ ذاك بأخرى.. ولكن الغريب والإستثنائي هو أن تجتمع كل هذه الصفات والشخصيات في إنسان واحد..تجمعت وتجسدت فيه كل الصفات العالية والمعاني السامية، فأصبح فرداً متميزاً عن بقية الأفراد.. بل عن بقية العلماء والعظماء وصار وحيد دهره وفريد عصره.. يشار إليه بالبنان وتتناقل فضله وعظمته الألسن والأقلام.. حتى سارت
وأما والدته عليه السلام فهي الشريفة الطاهرة حليفة العبادة والزكاة أمة الله بنت الإمام المهدي محمد بن القاسم الحسيني الحوثي..بسيرته الركبان،. وسمع به الخاص والعام… وأعظم شاهد ودليل قاطع على ما ذكرناه.. هو اجتماع الشخصيات المتناقضة، والتيارات المختلفة والإتجاهات المتباينة على احترامه ومحبته..وهي قلَّ أن تجتمع على حب شخصية واحترامها إلا أن تكون شخصية مميزة لا يكاد يوجد فيها ما يعاب، وإن كان الكمال هو للخالق جل وعلا، هكذا كان المولى العلامة الحجة مجدد الدين.. وإمام الآل الأكرمين… مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي.. رحمه الله رحمة الأبرار، وجعله في جنات تجري من تحتها الأنهار.. وقد ولد هذا الإمام الأعظم، والطود الأشم في السادس والعشرين من شعبان سنة ألف وثلاثمائة واثنين وثلاثين بالرضمة من جبل برط، دار هجرة والده علامة العترة وربانيها محمد بن منصور المؤيَّدِيُّ.
وفي ظل هذين الأبوين الطاهرين الزاكيين، نشأ الإمام مجد الدين على التقوى والصلاح والهداية.. وحب العلم والمعرفة منذ نعومة أظافره، فلم يبلغ مبلغ الرجال إلا وقد رقى في العلم أعلى منال.. وما زال يبذل كل جهده وجميع وقته في فترة الشباب.. وعنفوان النشاط في دراسة العلوم وإتقانها والبحث عن المهمات والمشكلات وحلها..لا يعتريه تعب أو فتور عن ذلك..
يقول أيضاً والدي رحمه الله: فكنا في ذلك الوقت نرى سيدي مجد الدين بعين الإجلال والتقدير الذي لا يكون لسواه..بل نراه كأنه ملك يمشي على الأرض.يقول والدي رحمه الله عبد الرحمن بن حسن الحوثي: كان سيدي مجد الدين يأتي إلى ضحيان وهو في عنفوان الشباب فيخرج كبار العلماء وعلى رأسهم والدي العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه الله.. والسيد العلامة يحيى بن صلاح ستين وهما كبار علماء ذلك العصر لاستقباله إلى خارج ضحيان. احتراماً وتقديراً له.
ويخبرنا مولانا الحجة مجد الدين عليه السلام عن قضية زواجه فيقول: كان والدي رحمه الله مصراً على أن يزوجني.. وكنت أرغب أن أتم دراستي وأخاف أن أشتغل بالزواج عن طلب العلم.. ونزولاً عند رغبته قبلت بالزواج، وجاء يوم العرس، ووصلت العروس وأخذوا يبحثون عني للدخول عليها..واستمر بحثهم لساعة متأخرة من الليل..وفي الأخير وجدوني وأنا تحت بيت الدرج أذاكر دروسي، فعاتبوني وأدخلوني على العروس.. ثم في الأيام الأولى للزواج كنت أبقى بالمسجد إلى ساعة متأخرة من الليل..فشكت زوجتي ذلك لوالدي رحمه الله وأصلح بيننا أن يكون لها ليلتان في الأسبوع والباقي خاص بي لطلب العلم.. واستمر رحمه الله على هذا المنوال والهمة العالية من تلك الأيام إلى أن قبضه الله إليه. وهو في عقده التاسع.
يروي لي والدي رحمه الله قال: كنا ضيوفاً عند مولانا عليه السلام.. فلما أتى الليل سمر معنا حتى وقت نومنا.. فهيأ لنا أماكن للنوم وهيأ له مكاناً معنا.. وخفض السراج كأنه يريد أن ينام، وعندما اعتقد أننا قد نمنا، قام وأشعل السراج ومكث يطالع حتى قبيل الفجر، وهكذا كانت عادته عليه السلام.. يقوم بتدريس العلم من الفجر إلى الليل.. ويكمل الليل بحثاً ومطالعة..وكان يكتفي من النوم بساعتين أو نحوها مدة طويلة مما أثر على صحته في آخر عمره.
وعلى العموم فشغفه بالعلم والتعليم يعرفه الخاص والعام حتى صار يضرب به المثل في ذلك، فلم يكن يتركه في سفر ولا حضر.. حتى في السيارة أو في أي مكان.. وقد كنا نخرج معه عليه السلام في نزهة فما يكاد يستقر به المكان إلا وطلب الكتاب وأمرنا أن نبدأ الدرس، ولشدة محبته للعلم والتعليم وأنسه بالبحث والإطلاع، كان يقول لنا يوماً وهو يبكي: والله إني أخاف أن لا أؤجر على طلب العلم وتعليمه؛ لأنه لم يعد لي راحة في الدنيا إلا بالعلم والتعليم.. فقد أصبح مصدرسعادتي وراحتي في هذه الدنيا.
ولم يكن الجانب العلمي في شخصيته عليه السلام هو ما جعله يتبوأ هذه المنزلة العظيمة في المجتمع حتى صار المرجع الأول للزيدية وإمامها بلا منازع؛ بل لأنه كان مع ذلك يحمل في نفسه مسئولية الأمة والدين.
فكان إحياء الدين ونصرة الإسلام هي همه الأكبر وشغله الشاغل..ساعياً في إصلاح أمة جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكل جد واهتمام.. متواضعاً للصغير والكبير.. دمث الأخلاق، لا يستطيع أحد ممن عرفه إلا أن يحبه.. عطوفاً على المؤمنين رحيماً بهم، قوياً في ذات الله لا يخشى في الله لومة لائم..ساعياً في جمع كلمة المسلمين عامة وأتباع أهل البيت عليهم السلام خاصة..حكيماً.. عادلاً، سديد الرأي، قوي الإدراك.. حازم الرأي، حسن التعامل، همه رد شبه الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ينتقد الخطأ من أي شخص كان بعبارة حسنة توجه الحق من غير تجريح بالآخرين.
حين تقرأ شيئاً من كلامه تحس وكأنك تقرأ كلاماً للإمام القاسم أو الإمام الهادي عليهما السلام أو غيرهما من قدماء أئمة الآل الطاهرين.
يحب طلاب العلم ويبجلهم حتى يعتريهم الحياء من فرط تقديره واهتمامه بهم..وهذا يعرفه كل من تفرغوا بالقراءة عليه والأخذ منه.
وعلى العموم فمقامه يحتاج إلى مجلدات.. وفضله لا يحصى وإنما أردنا التشرف بكتابة هذه الأسطر أداءً لبعض واجبنا تجاهه، ويكفيه أن معظم علماء الزيدية في هذا العصر هم من طلابه والآخذين عنه.. وهو رائد النهضة العلمية والدينية في هذا العصر، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وحشرنا في زمرته، وجعلنا من السائرين على نهجه المقتفين لأثره إنه سميع مجيب الدعاء..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين