(نص) كلمة السيد عبد الملك بن الحوثي في ذكرى استشهاد الإمام زيد “ع” 1445هـ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
وعظَّم اللّٰه أجرنا وأجركم في ذكرى استشهاد الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي أميرِ المؤمنين “عَلَيهِم السَّلَامُ“، الذي كان لحركته، ونهضته، وجهاده، واستشهاده، إسهامٌ كبيرٌ في استمرارية الإسلام المحمديِّ الأصيل، فكرًا، وثقافةً، ومشروعًا عمليًا، وثورةً في وجه الطغيان، وتأثيرًا في صناعة المتغيرات، كما كان ذلك أيضًا امتدادًا لنهضة جده الإمام الحسين سبط رسول اللّٰه “صَلَّى اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ”، وأعطى للحق دفعًا وحضورًا؛ كمشروع عمليٍ وكموقف.
ما تميَّزت به نهضة الإمام زيد “عَلَيهِ السَّلَامُ“:
أولًا: به كرمزٍ عظيمٍ من رموز الإسلام بأجماع الأمة الإسلامية على ذلك، فله مكانته ومقامه بين أوساط الأمة جمعاء باختلاف أطيافها، فهو “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ”، من سلالة بيت النبوة، أبوه الإمام زين العابدين “عَلَيهِ السَّلَامُ“، وجدُّه الإمام الحسين سبط رسول اللّٰه “عَلَيهِ السَّلَامُ“، وأخوه الإمام الباقر باقر علم الأنبياء “عَلَيهِ السَّلَامُ“، وهو بما عرفته الأمة به، في مستوى عالٍ وعظيمٍ من الإيمان، والوعي، والرشد، والهداية، إلى درجة أنه كان يُلقَّب في أوساط الأمة بحليف القرآن، فأن يكون هو قائدًا لنهضةٍ معينة، وقائمًا في حركةٍ وثورةٍ مهمة، بما يمتلكه من مؤهلات، وما يحمله من قيمٍ ومبادئ، هو في موقع القدوة، وفي موقع الهداية، وفي الموقع الذي تستلهم منه الأمة ما تحتاج إليه من الدروس والعبر، كما أن لنهضته التأثير الكبير الممتد فيما بعد ذلك في أوساط الأمة جيلًا بعد جيل.
كما أنه تحرك بأهدافٍ عظيمة، ذات علاقةٍ بالأمة في كل زمان ومكان، فهو انطلق من منطلق غيرته على دين اللّٰه، وعلى أمة جده رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، هو الذي كان يقول: (واللهِ مَا يَدَعُنِي كِتَابُ اللّهِ أنْ أسكُت، كيفَ أسكُت؟ وقد خُولِفَ كِتَابُ اللهِ، وَتُحُوكِمَ إلَى الجِبتِ وَالطَّاغُوت)، هو الذي كان لشدة اهتمامه وعظيم اهتمامه بأمر أمة جده يقول: (لَوَدِدتُ أنَّ يَدِي مُلصَقَةٌ بِالثُّرَيَّا ثُمَّ أَقَعُ إلَى الأرضِ، أو حَيثُ أقَعُ، فَأتَقَطَّعَ قِطعَةًً قِطعَة، وَأنَّ اللّهَ يُصلِحُ بِذَلِكَ أَمرَ أُمَّةِ مُحَمَّد)، “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، يحمل هذا الاهتمام تجاه أمة جده، فهو تحرك حريصًا على إنقاذها، وعلى هدايتها، وعلى إصلاح أمرها، هو الذي كان يقول: (أَعِينُونَا عَلَى مَن أَخرَبَ أَمَانَتَنَا، وَاسْتَعبَدَ أُمَّتَنَا، وَعَطَّلَ كِتَابَنَا).
بهذه الأهداف بهذه القضية المهمة والعظيمة والمقدسة، تحرك الإمام الشهيد زيد بن علي ” عَلَيهِما السَّلَامُ “، وسعى في نهضته تلك إلى إعادة الأمة إلى المسار الصحيح، الذي انحرف بها عنه طغاة بني أمية، الذين اتخذوا دين اللّٰه دَغَلًا، وعملوا بكل ما يستطيعون وعبر علماء السوء إلى تحريف مفاهيم الدين الإسلامي، ليسهل عليهم من خلال ذلك السيطرة على الأمة بشكل تام، والاستعباد لها؛ بعد أن يغيروا فكرها، وقناعتها، وثقافتها، وتصورها للدين الإسلامي، وبالذات المبادئ ذات الأهمية الكبيرة، التي يترتب عليها إقامة الحق، إقامة القسط، إقامة العدل، إنقاذ الأمة، إصلاح واقع الأمة، والتي لها أهمية كبيرة في تحصين الأمة، وفي إكسابها المنَعَة التي تساعدها على الاحتماء من الطغاة والظالمين، ومن سيطرة المجرمين، فعملوا على تحريف تلك المفاهيم، وسعى الإمام زيد “عَلَيهِ السَّلَامُ” إلى إنقاذ الأمة مما تعانيه، من طغيان طغاة بني أمية، الذي وصل إلى درجةٍ رهيبة من انتهاك الحرمات، والتعدي على المقدسات، والاستباحة للأمة، فهم لم يرعوا أي حرمةٍ من الحُرُمات، ولم يعطوا أي شيءٍ من مقدسات المسلمين، ومن المبادئ الإسلامية أي قيمة أبدًا.
انتهاكهم لحرمة المقدسات وفي مقدمتها أنواع الإساءة إلى رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، من ضمن ذلك التغاضي عن سَبِّه في مجالسهم الرسمية، التي كان يحضر فيها- من جلسائهم من اليهود ومن الكافرين- من كان يسبُّ الرسول “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” في محضرهم، وهم يسمعون، ومع ذلك يتضاحكون، ويغضون الطرف، ولا يزعجهم ذلك، بل إضافة إلى ذلك كانوا يطلبون من بعض الشعراء أن ينشدوا لهم الشعر الجاهلي الذي كان في أيام حرب المشركين ضد رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وفيه الهِجاء للرسول “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، والإساءة إلى رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، إضافة إلى التشويه المتعمد للرسول “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، من خلال الافتراءات، والمرويات المكذوبة، التي تتضمن التنقيص منه، التنقيص من رشده، التنقيص من حكمته، الانتقاص من أخلاقه وقيمه، الإساءة إليه بأشكال كثيرة، وهذا معلومٌ وثابتٌ قطعًا عليهم وعلى علماء السوء المرتبطين بهم، وأيضًا التقليل من مكانته، لصالح من؟ لصالح مكانة أولئك الملوك الجبابرة من طغاة بني أمية، وكان بعض ولاتهم يصرِّح بذلك، ويتحدث بذلك، ويسعى إلى إقناع الآخرين بذلك، إلى درجة أن يسعى بعض ولاتهم في أثناء شعائر الحج، ويتخاطب مع الحُجَّاج ليقول لهم: [إنَّ خليفةَ الرَّجُلِ خَيرٌ مِن رَسُولِه]، ثم يبني على ذلك القياس في مسألة الرسل، والأنبياء، والملوك، ومن يسمونهم بالخلفاء، ثم يحاول أن يقنع الآخرين بذلك، إلى هذه الدرجة من الوقاحة، الوقاحة العجيبة جدًا. بل وصل الحال إلى المجاهرة في بعض المقامات بتكذيب النبي “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، كما قال أحد ملوك بني أمية؛ وهذا ثابت في كتب التاريخ:
تَلَعَّبَ بِالبَرِيَّةِ هَاشِمِيٌّ بِلا وَحيٍ أتاهُ وَلا كِتابِ
إلى هذه الدرجة من الوضوح في التكذيب، والتصريح بذلك، التكذيب لرسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وهكذا عملوا إلى حدٍّ كبير في أوساط الأمة للتقليل من مكانة رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”.
وكذلك الانتهاك لحرمة القرآن الكريم، فبذلوا جهدًا كبيرًا على إبعاد الأمة عن الاتِّباع للقرآن، في العلاقة بالقرآن، وحرصوا على أن تكون طبيعة العلاقة بالقرآن الكريم في مستوى التلاوة؛ في أكبر الأحوال، وفي أعظم الأحوال، وعند الضرورة، على مستوى التلاوة لآياته، والقراءة لآياته، وعملوا على إبعاد مسألة الاتِّباع، والتمسك العملي من ذهنية الأمة إلى حدٍّ كبير، وبقيت التأثيرات لذلك ممتدة في أوساط الأمة جيلًا بعد جيل.
عملوا على تحريف المعاني والمفاهيم القرآنية، وذلك أيضًا عبر علماء السوء الذين اعتمدوا عليهم لفعل ذلك، وهم بذلك ارتكبوا جنايةً فظيعةً على الأمة، وحرموها من الاستفادة من كتاب اللّٰه الذي هو النور، الذي هو منبع الهداية للأمة. ووصل ما فعلوه في ذلك إلى درجة أن يقوم أحد ملوكهم؛ وهو في موقع السلطة في موقع القيادة في موقع التحكم بالأمة، يقوم بالاعتداء على المصحف الشريف، ورميه بالسهام، وتمزيقه، وهو الملك الأموي (الوليد)، وقال شعره المعروف في كتب التاريخ، وهو يخاطب القرآن الكريم، وكان استفتح في المصحف فطلع في تلك الصفحة التي استفتح فيها قول الله “تبارك وتعالى” وهو يتوعد الجبابرة: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ}[إبراهيم: 15-17]، فغضب عند ذلك غضبًا شديدًا، وجعل المصحف غرضًا للسهام، وقام برميه بالسهام ومزَّقه، ثم قال شعره المعروف في كتب التاريخ:
أَتُوعِــــــــــــــــــــدُنِي بِجَبَّـــــــــــــــــــارٍ عَنِيدِ فَهَــــــــــــــــــا أنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ
إذَا مَا جِئْتَ رَبَّكَ يَومَ حَشرٍ فَقُل يَا رَبِّ مَزَّقَنِي الوَلِيدُ
إلى هذا المستوى من الإساءة إلى مقدسٍ من أعظم مقدسات المسلمين، وهو كتاب اللّٰه القرآن الكريم، فيتجاسر عليه، ويمزقه، ويستهدفه بالسهام.
انتهكوا حرمة الكعبة المشرفة في حربين متتاليين، وكانوا يتعمدون الكعبة نفسها بالرمي بالمنجنيق لإحراقها، وكذلك لتهديمها، بدون أي مبرر، وليس هناك ما يمكن أن يقبل كمبرر لهدم الكعبة واستهدافها، مع قدسيتها، وأهميتها، وشرفها، ومكانتها العظيمة في نفوس المسلمين؛ إلا أنهم تجاسروا على فعل ذلك.
وكذلك الاستباحة لمكة المكرمة، واستباحتها بالاقتحام العسكري، وقتل الناس فيها، حتى في المسجد الحرام، وفي محيط المسجد الحرام، وكذلك الاستباحة للمدينة المنورة، والقتل الذريع للناس فيها، والاستباحة لمسجد رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، والقتل للناس فيه، والقتل لهم حتى على قبر رسول الله “صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، فلم يرعوا أي حرمةٍ لتلك المقدسات.
استباحوا الأمة بالقتل للصالحين فيها، من أخيارها، وعلمائها الربانيين، ومن عرفوه فيها من أهل الصلاح، من أهل الحق، من أهل الثبات على الحق والتمسك بالحق، فكان عندهم دائمًا مُهدَر الدم، من هو معروف بالخير بالصلاح، لأنه لا يقف معهم، لا ينسجم معهم، هو مستهدف من جانبهم، فقتلوا الآلاف من الصالحين، قتلوا مئات الآلاف من أبناء الأمة، قتلوا حتى من عامة الناس، كانوا يقتلون لأبسط وأتفه الأسباب، وأحيانًا بدون سبب، يقتلون الأعداد الكبيرة من المسلمين، بجرائم الإعدام بدمٍ بارد، قتلوا أعدادًا كبيرةً جدًّا من المسلمين، مئات الآلاف من المسلمين، من غير من قُتِلوا في حروب، حتى في غير الحروب، من كانوا يخرجونهم من السجون أو يعتدون عليهم ويأخذونهم من منازلهم ويذهبون بهم إلى الإعدام، أعداد كبيرة، وأعداد هائلة، وبشكل مروِّع ووحشي.
أما جرائم التعذيب التي كانوا يمارسونها بحق أبناء الأمة فهي هائلة ومرعبة ووحشية إلى حدٍ كبير، فجرائم السَّمْل للعيون، يسمُلون الأعين، هذا فعلوه بحق الآلاف من المسلمين، كانوا يمارسون بحقهم هذا النوع من التعذيب الذي يصيبهم بالعمى، جرائم التعذيب بقطع الأيدي أو قطع الأرجل، وهذا فعلوه بحق الآلاف من المسلمين ظلمًا وعدوانًا.
أنواع الجرائم الأخرى التي تحكيها كتب التاريخ بالتفصيل وهي: إلى درجة رهيبة جدًّا من التوحش، والإجرام، المتنافي تمامًا مع قيم الإسلام، وأخلاقه، ومبادئه، وتعاليمه، والمتنافي حتى مع الفطرة الإنسانية.
الاستئثار بالفيء ونهب المال العام، والتوزيع له فيما بينهم، بملايين الدراهم والدنانير الذهبية والفضية، وحرمان المجتمع الإسلامي الذي انتشر فيه البؤس، والفقر، والحرمان، والمعاناة الشديدة، فكانوا ينهبونه ويوزعونه فيما بينهم، ويستأثرون به، ثم من خلاله أيضًا يقومون بشراء الذمم، وكسب الأنصار الذين يقفون في صفهم؛ ليمكنوهم من السيطرة على الأمة، ومن الظلم للأمة، والتعذيب للأمة، وأصَّلُوا مدرسةً للطغيان، ورثها عنهم الطغاة من أبناء الأمة فيما بعد ذلك، فحذوا حذوهم، وسلكوا مسلكهم، واتجهوا على نفس ما كانوا عليه من ممارسة ظالمة بحق الأمة.
ولذلك في مقابل ذلك الطغيان، والظلم، والجور، الاستهداف للأمة، في دينها، وقيمها، وأخلاقها، ودنياها، كانت نهضة الإمام زيد “عَلَيهِ السَّلَامُ“ ضرورةً دينية؛ عبَّر عنها بقوله: (لا يَدَعُنِي كِتَابُ اللّهِ أنْ أسكُت، كيفَ أسكُت؟ وقد خُولِفَ كِتَابُ اللهِ)، لم يعد للقرآن في مبادئه، في تعاليمه، فيما فيه من توجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أي قيمة في واقع هذه الأمة التي هي تنتمي للإسلام، ويُفترَض أن تبنى مسيرة حياتها على أساسٍ من تعليمات اللّٰه، وتوجيهات اللّٰه، “جَلَّ شَأنُهُ” على أساسٍ من مبادئ الإسلام وقيمه، فكان لا بد من تحركه كضرورة دينية، وأيضًا كمصلحة حقيقية للأمة، من أجل إنقاذها؛ لأن السكوت والجمود والقعود لا يمكن أن يغير واقع الأمة، ولا أن ينقذها مما تعانيه من ذلك الظلم، ومن ذلك الطغيان.
وكان في نهضته عنوانان مهمان جدًّا، هما: البصيرة والجهاد، فكان ينادي: (عِبَادَ اللّٰهِ البَصِيرَةَ البَصِيرَة، ثُمَّ الجِهَاد)، وهذا من أحوج ما تحتاج إليه الأمة في مواجهة الطغاة والطغيان، وفي العمل على تغيير واقعها. تحتاج الأمة إلى البصيرة، إلى الوعي، إلى الهداية، إلى أن يكون لديها فهم صحيح، ومعرفة صحيحة. البصيرة تجاه الواقع، البصيرة تجاه الأعداء، البصيرة تجاه المسؤولية، البصيرة في الموقف، البصيرة في التعامل مع الأعداء، فيما تحتاج إليه الأمة، فيما ينبغي أن تتحرك به. تحتاج في كل ذلك إلى البصيرة، البصيرة في دينها، في الفهم الصحيح، لدينها ومبادئها وقيمها.
الأمة بحاجة إلى البصيرة، والقرآن الكريم من أهم ما يقدمه: أنه يقدم البصيرة؛ لأنه نور، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}[الأنعام: 104]، والجهاد؛ الوعي بالمسؤولية في التحرك في سبيل اللّٰه، “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والجهاد في سبيل اللّٰه، “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بفهم صحيح لهذه الفريضة المقدسة العظيمة، وما تعنيه للأمة، وكيف هو التحرك الصحيح في إطارها، وباستعدادٍ للتضحية، وكان الإمام زيد “عَلَيهِ السَّلَامُ” على استعدادٍ تامّ للتضحية في سبيل اللّٰه، فهو باع نفسه من اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكان يرى ويدرك، وعبَّر عن ذلك في كثيرٍ من المقامات والمناسبات، ونقلت كتب التاريخ بعضًا مما قاله في ذلك، أنه لا مجال إلا التحرك، أما التقصير، أما التفريط فعواقبه خطيرة جدًّا؛ فيه هلاك الأمة، فيه التفريط على مستوى الالتزام الإيماني والديني؛ أن يُخِلَّ الإنسان بمسؤوليته الدينية والإيمانية، وإضافة إلى ذلك فيه تمكين الطغاة والظالمين، تمكينهم من الاستمرار في ممارساتهم الظالمة والإجرامية.
وفعلًا كان لتحركه أثر كبير جدًّا، مع أنه عانى من تخاذل الكثير من الناس، حتى مِن تخاذل أولئك الذين كانوا قد استعدُّوا لنصرته، وأن يقفوا معه، وأن يتحركوا معه، فتخاذلوا عنه، وقال كلمته الشهيرة وهو يخاطب (نصر ابن خزيمة) أحد أصحابه والقادة معه: (أَتَرَى أَهْلَ الكُوفَةِ قَد فَعَلُوهَا حُسَينِيَّة)، يعني خذلوه، مثلما خذلوا جده الحسين “عَلَيهِ السَّلَامُ”. فهو بالرغم من كل ذلك، كان يرى ضرورة التحرك حتى لو تخاذل الناس، هو الذي قال كلامه الشهير والعظيم والمهم: (لَو لَم يَخرُجْ مَعِي إلَّا ابْنِي يَحيَى لَقَاتَلتُهُم)، كان يمتلك هذا المستوى من العزم، من اليقين، من الإرادة، من التوجه الجاد في أداء واجبه، في النهوض بمسؤوليته، في أن يقول كلمة الحق، في أن يبذل جهده أمام ذلك الواقع المظلم، الممتلئ بالظلم والطغيان والفساد والمنكر، كان لا يرى مجالًا للاستمرار في ذلك، وهو من سمع في مجلس هشام أحد اليهود يسبُّ رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وعندما انتهره، وزجره، وغضب عليه، وتهدده، غضب منه هشام الملك الأموي: “لا تؤذِ جليسنا يا زيد”، يقول له هكذا، هو من يخاطب الإمام زيد أن يسكت، يخاطب الإمامة زيدًا أن يسكت عن أن يتوعَّد ذلك اليهودي وأن يزجره، بينما كان يسبُّ رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”.
فأمام ذلك الواقع المظلم كان يقول: (لَو لَم يَخرُجْ مَعِي إلَّا ابْنِي يَحيَى لَقَاتَلتُهُم)، وخرج دون أي تردد، وباستعداد كامل للتضحية، وهو يحذر الأمة من العواقب السيئة التي لتكبيل الخوف للأمة، عندما تُكَبَّل الأمة بالخوف والذل، فيخضعها ذلك للظلم والطغاة، فتكون النتيجة خطيرة جدًّا؛ لأن الأمة تعاني، وتخسر، وفي نفس الوقت تقدم تضحيات بدون نتيجة، بدون أن يكون ذلك في إطار قيامها وسعيها لإنقاذ نفسها، بل في حالة من الخضوع والاستسلام، وهي الحالة الخطيرة جدًّا.
كان يقول: (مَا كَرِهَ قَومٌ قَطُّ حَرَّ السُّيُوفِ إلَّا ذَلُّوا)، فحالة الذلة والتهيُّب من المواجهة؛ عندما لا يبقى لدى الأمة استعداد للتضحية وإدراك لقيمة وأهمية التضحية في إطار النهوض بالمسؤولية وأداء الواجب. فهو كسر حاجز الذل والخوف، وأعطى للحق دفعًا، وللإسلام المحمديّ الأصيل استمراريةً، ومن بعده- بعد استشهاده- كانت نهضة ابنه يحيى بن زيد “عَلَيهِما السَّلَامُ”، ومن بعد ذلك بدأت التغيرات الكبيرة في الساحة الإسلامية، بدءًا من (خُراسان)، التي استُشهد فيها يحيى بن زيد “عَلَيهِما السَّلَامُ”، فكانت النتيجة في نهاية المطاف: هي الثورة العارمة، للإطاحة ببني أمية، وسيطرتهم على الأمة الإسلامية، والتحرر منهم.
من أهم الدروس التي نستفيدها من نهضة الإمام زيد “عَلَيهِ السَّلَامُ“، من مواقفة، مما قدَّمه في تلك النهضة، من تعاليم مهمة، من إيضاحات مهمة، من إرشادات مهمة، مما قدَّمه في سبيل تنوير هذه الأمة، وإرشادها، وتوعيتها، وتبصيرها: أن ندرك نحن مسؤوليتنا في مواجهة طغيان العصر، أنه كذلك ضرورة دينية، يرتبط بالتزامنا الإيماني والديني، وانتمائنا للإسلام، وهذه مسألة مهمةٌ جدًّا؛ لأن الكثير من الناس لم يعد ينتبه لهذه المسألة، أو يتصور أن لا علاقة لذلك بالتزامه الإيماني والديني، فهو يغفل أو يجهل مدى أهمية هذه المسألة في ديننا، في انتمائنا الإيماني والديني، كما أن ذلك أيضًا ضرورة واقعية، كما كانت آنذاك ضرورة واقعية، فهذه هي ضرورة واقعية لدفع الشر عن أنفسنا، عن مجتمعنا، عن أمتنا، لإنقاذ أنفسنا وأمتنا من حالة الاستعباد.
وحالة الطغيان في هذا العصر– كما كانت آنذاك– هي حاضرة في كل تلك العناوين وفي كل تلك الممارسات، وإن كان بمستوى أكبر؛ بحسب الإمكانات في هذا العصر. حالة الطغيان في هذا العصر، التي تستهدف الأمة الإسلامية في دينها ودنياها، وتشكل خطورة عليها، ليس هذا فحسب، بل وعلى المجتمع البشري بشكلٍ عام، هي حالة واضحة، يتحرك في مقدمتها وعلى رأسها، ويحمل رايتها ولواءها: الأمريكي والإسرائيلي واللوبي اليهودي الصهيوني، ومن يقف في صفهم، سواءً من العالم الغربي، أو من الشرق والعالم الإسلامي. ونحن نجد في معالم الطغيان في عصرنا، في ممارسات الطغيان في زمننا، الإساءة المباشرة إلى القرآن الكريم، وبشكلٍ متكرر. الأمريكيون، والإسرائيليون، واللوبي اليهودي الصهيوني، يقودون حملةً عدائيةً شاملة، ضد الإسلام والمسلمين، وفي مقدمتها التشويه للقرآن الكريم، للإسلام، والعمل على نشر صورة سلبية في العالم بشكلٍ عام، والتحريض ضد المسلمين، ضد رموز الإسلام، ضد مقدسات المسلمين بشكلٍ عام، وهذه مسألة واضحة جدًّا.
والنفوذ للوبي اليهودي الصهيوني، والنفوذ للأمريكيين والإسرائيليين، في أوروبا وفي الغرب بشكلٍ عام، هو نفوذٌ معروف، ولذلك هم يجعلون من أوروبا بشكلٍ عام؛ من المجتمعات الغربية، ميدانًا يتحركون فيه بشكلٍ مستمر؛ لترسيخ حالة العداء الشديد، ضد الإسلام، وضد رموز الإسلام، ضد نبي الإسلام “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وضد القرآن الكريم، وضد المسلمين بشكلٍ عام، وهذا أمرٌ معروفٌ في المجتمعات الغربية: أن هناك حركة واسعة، بأنشطة مكثفة، لترسيخ حالة العداء الشديد ضد الإسلام، وضد نبي الإسلام، وضد القرآن الكريم، وضد المسلمين بشكلٍ عام، بل ضد كل العناوين الإيمانية والدينية.
في المجتمعات الغربية لم يبقَ هناك أي اعتبار ولا حرمة لكل ما له صلة بأنبياء اللّٰه، ورسله، والدين الإلهي الحق، والقيم، والأخلاق العظيمة. فتحوا مجالًا هناك، في الوسط الغربي، في المجتمعات الغربية، في الإساءة إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، جعلوا هذا من المباحات، وفتحوا المجال لذلك، أن يسيء الإنسان عندهم إلى اللّٰه؛ هذا عندهم من الأشياء الطبيعية تمامًا، وأن يسيء إلى رسله وأنبيائه قاطبةً، أو إلى أي رسولٍ منهم، إلى إبراهيم، إلى موسى، إلى عيسى، إلى نوح، إلى خاتَم الأنبياء محمد “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، فهم فتحوا المجال للإساءة، بكل أشكال الإساءة، السبّ، الافتراء، السخرية، كل أنواع الإساءة، كل أنواع التكذيب، كل أنواع التشويه، فتحوا المجال لها، تجاه الأنبياء “عَلَيهِم السَّلامُ”، سواءً بشكلٍ عام، أو أيًّا منهم، هذا عندهم من المباحات في المجتمع الغربي.
فتحوا المجال للإساءة إلى كتب الله، سواءً بالكلام، أو بالفِعال، مثلما يعملونه مع القرآن الكريم. أما التشكيك، أما الكذب، أما الإساءات، أما الافتراءات، فهو مجال مفتوح عندهم بشكلٍ تام. والحالة في المجتمع الغربي: هي انقلابٌ تام، على المبادئ الإلهية، على رسالة اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، موقفٌ سيئٌ من رسل اللّٰه وأنبيائه، وفتحٌ للمجال في اتجاهٍ مخالفٍ لذلك، ومسيءٍ إلى ذلك تمامًا. والمستثنى عندهم في أوروبا وفي أمريكا: هو الانتقاد لليهود، المجال عندهم مفتوح لسبِّ اللّٰه، والإساءة إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لسبِّ كل أنبيائه ورسله، وأن تقول فيهم ما تريد أن تقول، وأن يقول فيهم أولئك الأشرار، والمجرمون، والكافرون، ما يريدون أن يقولوا، وأن يسيئوا بكل أنواع الإساءة، لكن الممنوع الوحيد عندهم هو الانتقاد لليهود، حتى بالاستناد إلى حقائق تاريخية، وحقائق موجودة معاصرة، فهذا عندهم ممنوع ويسمونه بالمعاداة للسامية، ومن أجله يحاكِمون، ومن أجله يسجنون، ومن أجله يتخذون إجراءات متنوعة، ويتصدون بكل أشكال التصدي لأي شيءٍ من هذا القبيل، وهذا يكشف واقعهم، وما هم عليه من الضلال، والانحراف، ويبيِّن أن الذي يمتلك النفوذ في أوساطهم، ويسيِّرهم في تلك التوجهات المنحرفة والسيئة: هو اللوبي اليهودي.
اللوبي اليهودي الصهيوني، الذي يتحكم بهم، أضلَّهم، وانحرف بهم، وأفسدهم، حتى لم يبقَ مقدسٌ إلا هو! وجعلوا قدسيته عندهم، وفي أوساطهم، وفي واقعهم، فوق قدسية اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورسله، وأنبيائه، ورسالته، وكتبه، جعلوا لهم ميزةً تخالف ذلك كله، وتفوق ذلك كله عندهم، وهذا يكشف ما هم عليه من ضلال، من باطل، من سوء، وما هم عليه من حالة استعباد، وما هم عليه من حالةٍ سلبية.
أمام هذا التوجه بالنسبة لهم، والذي يعبِّرون به عن عدائهم للحق، للقيم، والأخلاق، للمبادئ، لكل ما هو عظيمٌ فعلًا، ومقدسٌ حقيقةً، وهم أيضًا يوجهون رسالة عداء، إلينا نحن في العالم إسلامي، وهم بذلك يعبِّرون عن توجه معادٍ للرسالة الإلهية، للإسلام، لنبي الإسلام، للمسلمين؛ ما هو موقفنا نحن، كأمةٍ إسلامية، كيف يجب أن يكون أثر ذلك بالنسبة لنا، في أن نغضب، في أن يستفزنا ذلك، في أن تتحرك مشاعر الإباء فينا، مشاعر العزة الإيمانية، في أن ندرك مسؤوليتنا تجاه ذلك.
إذا كانوا هم قد وصل بهم الضلال، والكفر، والانحطاط، والزيغ، والانحراف، إلى ذلك المستوى السيئ جدًّا من الخنوع والخضوع لليهود، والتعظيم لهم فوق كل شيء، يبقى هم، الشيء الوحيد المعظم في أمريكا وفي الغرب: هو اليهود، هم الذين لا يمكن السماح بالإساءة إليهم، أو الانتقاد لهم، حتى نبي اللّٰه عيسى “عَلَيهِ السَّلَامُ”، هم يسمحون بالإساءة إليه في أمريكا والمجتمعات الغربية، بكل أنواع الإساءة، بكل أنواع السخرية. ليس هناك أي نبي من أنبياء اللّٰه له حالة استثناء في حرمة الإساءة إليه، في أمريكا أو في أوروبا، فقط اليهود، الشيء المعظم، الشيء الممنوع أن تنتقده حتى بالحقائق: هم اليهود، إذا كانوا قد وصلوا إلى ذلك المستوى الدنيء والمنحط من الخنوع لليهود، والخضوع لهم، ثم يحركهم اليهود في مختلف البلدان، بما فيه إساءة للقرآن الكريم، إساءة للإسلام، استفزاز للمسلمين، كيف يجب أن يكون موقفنا؟ كيف يجب أن تكون ردة فعلنا نحن؟ هل نسكت عن ذلك حتى يتحرك اليهود بمثل ذلك في ساحتنا الإسلامية؟ أم يجب أن يكون لنا موقف يرقى إلى حجم المسؤولية، إلى مستوى المسؤولية تجاه هذه الأمور التي هي ذات أهمية كبيرة جدًّا في المعيار الديني، في المقام الديني، بحسب أهميتها في انتمائنا الإسلامي، المسألة مهمة جدًّا.
ولذلك فنحن نعتبر الموقف الرسمي لمعظم البلدان العربية والإسلامية، لم يرقَ أبدًا إلى الحدِّ الأدنى من الموقف المطلوب، إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع من يحركهم اليهود. الموقف من اليهود أنفسهم، من العدو الإسرائيلي، من اللوبي اليهودي الصهيوني في العالم، من أمريكا وإسرائيل، يجب أن يكون موقفًا صارمًا، وحاسمًا، وحازمًا، ثم من أتباعهم؛ من يتحرك معهم، من يخضع لهم، سواءً في السويد، أو الدنمارك، أو في أي بلدٍ أوروبي، يتحرك معهم تحت إطار تحركهم العدائي لرسالة اللّٰه، لكتب اللّٰه، لرسل اللّٰه وأنبياء الله، المفترَض أن يكون هناك موقف حاسم.
عندما تهرَّب الكثير من الزعماء، تهرَّبت الكثير من الأنظمة في العالم الإسلامي، من أن يتبنوا موقفًا هو في الحد الأدنى: قطع العلاقات الدبلوماسية، والمقاطعة الاقتصادية، هذا يبيِّن ويكشف مدى الخلل الكبير، في مستوى الانتماء للإسلام، والوفاء لهذا الانتماء، والمصداقية في هذا الانتماء، أين الغيرة على الإسلام، أين الحمية للإسلام! وإذا كان وصل الحال بكثير من الأنظمة في عالمنا الإسلامي، في المنطقة العربية، وفي غيرها، إلى درجة التهرُّب من اتخاذ موقف بهذا المستوى: قطع علاقات دبلوماسية، ومقاطعة اقتصادية، فماذا يمكن أن يفعله أولئك، من أجل أمتهم، إذا وصلوا إلى هذا المستوى من التفريط واللامبالاة، تجاه أقدس مقدساتهم، فهل هناك شيءٌ آخر يمكن أن يغضبوا من أجله، أن يتخذوا موقفًا لأجله، أن يتحركوا من أجله، لا يمكن أن يكونوا أوفياء لشيءٍ يتعلق بدينهم وأمتهم.
من هو جاهز للتفريط في أقدس المقدسات، سيفرط في أمته، سيفرط في أبناء أمته، سيفرط في الأوطان، والأعراض، والممتلكات، إذا كان ما ينبغي أن تكون حرمته وقدسيته في أعلى القائمة، في المستوى الأعلى، لا أهمية له عندهم، لا ترقى أهميته في نفوسهم إلى درجة أن يتخذوا من أجله موقفًا كذلك الموقف: قطع علاقات دبلوماسية، ومقاطعة اقتصادية، فهل سيتخذون موقفًا لما هو أدنى من ذلك أهميةً، لما هو أقل من ذلك أهميةً، لا يمكن. فلذلك هم يكشفون عن عدم أهليتهم، وعن عدم جدارتهم، لموقع المسؤولية الذي هم فيه، ليسوا أمناء على أمتهم، ليس عندهم اهتمام بقضايا أمتهم، ليس عندهم مبالاة، ولا استشعار للمسؤولية، تجاه أمتهم في دينها، في مقدساتها، وبالتالي فيما دون ذلك من بقية أمورها، هذه مسألة خطيرة جدًّا.
وبقدر ما نراه من هذا التخاذل، لدى أوساط الكثير من الأنظمة، لدى الكثير من الزعماء، يجب أن نكون حذرين من ذلك، أن نعي مسؤوليتنا نحن، وأن ندرك خطورة التقصير، خطورة التفريط، وأن نتحرك في الموقف الصحيح، في الاتجاه الصحيح؛ لأننا لا نرهن مواقفنا المبدئية، والايمانية، والأخلاقية، بمواقف الاخرين؛ من المتخاذلين، من المفرطين، من الذين ابتعدوا عن مبادئ الإسلام، وقيمه، وأخلاقه، ولم يحملوها.
في هذا العصر عندما نرى تحرك طغاة العصر، وهم يعملون بكل وضوح لتدمير القيم والأخلاق، ونشر الرذائل، وتفكيك المجتمع، وإبادة النسل البشري، مسؤوليتنا ونحن نستذكر- من تاريخنا- نهضة أولئك الأعلام العظماء، والهداة الأولياء، الذين نهضوا في ظروفٍ صعبة، وقدَّموا كل التضحيات، بما في ذلك بأنفسهم، فمسؤوليتنا نحن، ونحن نرى طغاة العصر يتحركون بكل وضوح، بكل وقاحة، وهم يحملون لواء الرذيلة، يجاهرون بذلك دون أي ذرة من حياء، لم يبقَ لديهم أي ذرةٍ من حياء أو خجل، فيجاهرون بتنكرهم للأخلاق والقيم، التي هي إنسانية، وفطرية، ودينية، وأتت بها الرسالة الإلهية، ويعرف البشر في كل المجتمعات بفضلها، بشرفها، بقيمتها، ذات قيمة إنسانية عظيمة، ومع ذلك يتنكّرون لها.
فلديهم برامج، وأنشطة، وأعمال كثيرة، سواءً ما يتحركون به من خلال وسائلهم الإعلامية، من خلال جوانب تثقيفية، وفكرية؛ كتابات، وكتب، ومقالات، ومن خلال- أيضًا- نشاطهم عبر المنظمات، وأصبحت هذه المسألة من ضمن الأولويات لدى المنظمات التي تتحرك بها لاختراق المجتمعات: المحاولة بنشر الفساد، بالترويض للمجتمعات والشعوب بتقبل الفساد، وكسر حاجز الحياء أمام ذلك، والسعي لتضييع القيم، والأخلاق العظيمة، مكارم الأخلاق التي هي ذات قيمة إنسانية لدى المجتمعات البشرية، وهي ضمن الالتزامات الإيمانية والدينية، السعي لتضييعها. وتفكيك المجتمع البشري، عندما أصبحوا يروجون للشذوذ الجنسي، فاحشة الشذوذ الجنسي، ويحاولون أن يصلوا بها إلى مختلف المجتمعات، هم بذلك أيضًا يستهدفون الأسرة، يستهدفون النسل البشري، يعملون على تفكيك المجتمع بشكلٍ تام، هي وسيلة استهداف قذرة جدًّا للمجتمعات البشرية، وفي نفس الوقت يهدفون من خلالها إلى تمييع المجتمعات، إلى الوصول بها إلى أسوأ مستوى من الانحطاط؛ لأن ذلك يساعدهم على السيطرة التامة عليها والاستعباد لها.
استهدافهم المستمر للشعوب بالحروب، بنشر الفتن، بنهب الثروات، بحرمان الشعوب من خيراتها، من ثرواتها، وما ينتج عن ذلك من مظالم كبيرة، وبالدرجة الأولى في عالمنا الإسلامي، الأمة الإسلامية استُهدِفت بالدرجة الأولى بهذا الشكل من الاستهداف: بالحروب، والفتن، والمشاكل، والأزمات، ونهب الثروات والخيرات، سواءً في العالم العربي، أو في مختلف المناطق الأخرى من آسيا، أو في أفريقيا. هناك ظلم عام استهدف الكثير من الشعوب والبلدان، وهناك أيضًا على مستوى الاستهداف للمسلمين، في مختلف الأوطان والبلدان بشكلٍ أكبر، وهذه مسألة واضحة ومعروفة. في عالمنا العربي هناك فلسطين، ظُلم على مدى عشرات السنين، من أسوأ أنواع الظلم، ظلم واضح، لا غموض فيه ولا خفاء، استباحة وقتل يومي للشعب الفلسطيني، اغتصاب للأرض والممتلكات بشكلٍ واضح ومكشوف، ومع ذلك يقف الغرب بشكلٍ عام بكل وضوح، مناصرًا، ودافعًا، ومحاميًا، وداعمًا للعدو الإسرائيلي.
الغرب يتحدث عن حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وعن الحريات، ويقدِّم مختلف العناوين تلك، ولكن أين هي في الواقع الفلسطيني، تجاه الشعب الفلسطيني؟ أين تلك الحقوق التي تضمنتها مواثيق الأمم المتحدة؟ أين تلك العناوين التي يتغنى بها الغرب؟ وهو يدعم كل أشكال الدعم العدو الصهيوني، ويقف إلى جانبه بكل وضوح؛ لقتل الشعب الفلسطيني، لاغتصاب ممتلكات الشعب الفلسطيني، للسيطرة على أرض فلسطين، يظلم شعبًا بأكمله، ويشرد شعبًا بأكمله. والمعاناة اليومية في فلسطين من القتل، من الاعتقال، والسجن، والأسر، من الأشكال الاعتداءات: بالضرب، بالإحراق للمنازل، بالتدمير للمنازل، بالقلع لأشجار الزيتون، والاستهداف للمزارع، كل أشكال الظلم يمارسها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني؛ بدعمٍ كاملٍ وتام من أمريكا ومن الدول الأوروبية، وبشكلٍ واضح.
ما حصل في بقية البلدان العربية– سواءً على مستوى التاريخ في الماضي؛ في الحروب الصليبية وما بعد ذلك في مرحلة الاستعمار، أو في الوقت الراهن من مؤامرات– من استهدافات؛ كانت نتيجتُها: إلحاق المآسي الكبيرة بحق شعوبنا في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي، ما فعلوه في سوريا، في العراق، في الشام بشكلٍ عام، ما فعلوه في بلدانٍ أخرى؛ هو أمر معروف، من قتل، من مجازر رهيبة، من فتن كبيرة، من مظالم متنوعة وشاملة، النهب للثروات، والحرمان من الخيرات، والتسبب ببؤس الشعوب وعنائها، معاناة كبيرة يعاني المسلمون، في مختلف بلدانهم، سواءً في العالم العربي، معظم الشعوب العربية تعاني معاناة شديدة؛ لأنها محرومة من ثرواتها، من خيراتها. ثرواتها ما قد استُخرِج منها؛ يُنهَب أكثره، الثروات النفطية، والغازية، والمواد الخام، ينهب أكثره، وتحرَم الشعوب منه وتحرم الشعوب منه.
كذلك في أفريقيا، من آخر الأمثلة: ما يحصل الآن في (النيجر)، هناك في أفريقيا نهب رهيب للثروات، وبؤس كبير، ومعاناة شديدة للمجتمعات والشعوب، وهذا أمرٌ معروف. في النيجر، (فرنسا) تنهب اليورانيوم، وهو مادة مهمة من المواد الخام هناك، وثروة ضخمة، يفترَض أن تكون عائداته لمصلحة الشعب هناك في النيجر، بما ينهي بؤسه، ومعانته، وفقره المدقع، ومع ذلك لا أثر لاستفادة الشعب النيجيري من تلك الثروة أبدًا، شعب في غاية البؤس، في غاية الفقر، في منتهى الحرمان، ولديه ثروة وطنية ضخمة جدًّا، تنهبُها فرنسا، وتسرقها فرنسا، تتجه بتلك الثروة التي تُستخرَج لصالح مفاعلاتها النووية، ومحطاتها النووية، والشعب النيجيري يعاني من البؤس الشديد، والفقر المدقع، وكأنه لا يمتلك أية ثروة، وبريطانيا من ذلك الاتجاه، وهكذا في مختلف البلدان.
ما حصل عندنا في اليمن؛ ويحصل بشكلٍ مستمر، عدوان شامل، وحرب على مدى ثمان سنوات، ونحن الآن في العام التاسع، حرب شاملة، قتل، جرائم رهيبة، بإشرافٍ أمريكي مباشر، بتدخلٍ وإشرافٍ وإسهامٍ بريطاني إلى الجانب الأمريكي، وتنفيذ عملائهم في المنطقة: السعودي والإماراتي، تنفيذ مباشر، عدوان لا مبرر له أبدًا، قتل لعشرات الآلاف من الناس، من الكبار والصغار والأطفال والنساء، احتلال لمساحات كبيرة من بلدنا. سيطرة مباشرة على ثروة شعبنا؛ الثروة الوطنية، على النفط، على الغاز، على منابع هذه الثروة، في مأرب وحضرموت وشبوه وغيرها. سيطرة وتحكم في معظم المناطق ذات الأهمية الكبيرة، على مستوى المطارات، على مستوى الموانئ، على مستوى المنشآت والقواعد العسكرية ذات الأهمية الكبيرة، سيطرة تامة ومباشرة عليها. حصار شامل، حصار ظالم، حصار جائر، تسبب في معاناة كبيرة لشعبنا العزيز. سياسات عدائية على مستوى الاستهداف للاقتصاد الوطني، تسببت بمعاناة هذا الشعب في معيشته إلى أقصى حدّ، ولا يزال شعبنا يعاني.
كل هذا يستمرون فيه، ويصرون عليه بالرغم من المعاناة الكبيرة لشعبنا العزيز، ما هو ذنب شعبنا حتى يفعلوا به كل هذا! حتى يظلموه كل هذا الظلم، أهداف شيطانية، إصرار على الظلم، استهداف مستمر.
أمام كل هذا يجب أن نعي مسؤوليتنا نحن. هم أولئك الظالمون، هم أولئك الأشرار، هم أولئك المجرمون، بتوجهاتهم وأهدافهم الشيطانية والإجرامية وممارساتهم الظالمة، يريدون أن يحتلوا، أن يسيطروا، أن يستعبدوا، أن يُذِلُّوا شعوب أمتنا، لكن ما هي مسؤوليتنا؟ نحن ندرك أهمية التوجه الجهادي، أهمية الوعي والبصيرة والشعور بالمسؤولية؛ لنتصدى لهذا الظلم، ندرك أن مسؤوليتنا كبيرة، وأن تحركنا هو أمر ضروري على مستوى انتمائنا الإيماني والديني، وعلى مستوى الواقع، يمثل التحرك حلًّا بالنسبة لنا؛ لدفع شرهم عنا والتصدي لظلمهم وطغيانهم.
في ظل هذه الظروف الراهنة، على مستوى واقع الأمة، وعلى مستوى واقع شعبنا العزيز، ندرك أهمية هذه الفريضة المقدسة: وهي الجهاد في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، على أساسٍ من الوعي والبصيرة، والتحرك الواعي على مستوى كل المجالات: في المجال السياسي، في المجال الإعلامي، يجب أن يكون تحركنا تحركًا جهاديًا ثوريًا؛ من واقع الإحساس بالمسؤولية. عندما نتحرك في المجال الإعلامي، عندما نتحرك في المجال السياسي، عندما نتحرك في المجال الاقتصادي، في المجال الفكري والثقافي، في مختلف المجالات، وفي المقدمة أيضًا المجال العسكري، الذي يُعتبَر التحرك فيه أيضًا ضرورةً لابد منها؛ للتصدي لأعداء اللّٰه، هم الذين يبتدئون بالعدوان بالظلم، بارتكاب أبشع الجرائم، بالاحتلال، فالأمة مضطرة إلى التصدي لهم في كل المجالات.
فعندما نتبنى الموقف الحق والتحرك الصحيح على أساسٍ من انتمائنا للقرآن، من انتمائنا للإسلام الذي تضمَّن القرآنُ الكريم الحديثَ عنه كفرضٍ مهم، وتحركٍ أساسيٍ لا بد منه في مئات الآيات، المئات من الآيات القرآنية تحركت عن الجهاد في سبيل الله، آيات كثيرة تحدثت آيات كثيرة تحدثت عن الجهاد في سبيل الله، آيات كثيرة تحدثت عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفريضة أساسية، ومسؤولية أساسية من مسؤوليات المؤمنين، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التوبة: من الآية 71]، المسؤولية الجهادية كمسؤولية ملازمة للإيمان، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[ التوبة: من الآية 111].
ندرك أهميتها أيضًا كضرورة واقعية، أنها هي الطريق الصحيح الذي يمكن من خلاله إنقاذ الأمة كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية 7]، وعشنا ورأينا في واقعنا جدوى هذا التحرك في صمود شعبنا، في جهاده، في تضحياته، كم حقق شعبنا من الانتصارات، بقاء هذا المستوى من التماسك في واقع شعبنا، من الثبات، ما حققه من الانتصارات، ما فشل فيه الأعداء إلى حد الآن: هو ثمرة لهذا الجهد، لهذه التضحية، لهذه الانطلاقة الواعية، المستبصرة، المضحية. كذلك ما حققه مجاهدوا فلسطين في غزة وما يحققونه -إن شاء الله- في المستقبل. ما حققه حزب اللّٰه في لبنان، ما حققه أحرار الأمة في مختلف أوطان الأمة، وما يمكن أن يتحقق هو أكبر بكثير. كلما ارتفعت نسبة الوعي، كلما زاد الاهتمام، كلما استشعرت الأمة مسؤوليتها أكثر، كلما كان هناك فرص أكبر وإنجازات أكبر، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قدَّم وعده الذي لا يتخلَّف ولا يتبدل، وهو القائل “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية 47].
عندما نقارن بين مستوى ما هو حاصل من ظلم، وطغيان، وأجرام، وفساد، ومنكر، وشر، وإجرام، بمستوى المسؤولية، نجد أن المسؤولية كبيرة، وأن التفريط في المسؤولية يشكل خطورةً بالغة أمام ما هناك من طغيان، من ظلم، من فساد، كل أنواع الطغيان، كل أنواع الفساد، كل أنواع الشر موجودة كأهداف، كتوجهات، كممارسات يتحرك فيها طغاة العصر: الأمريكي، والإسرائيلي، واللوبي الصهيوني اليهودي، وأعوانهم من العجم والعرب، كلها موجودة في واقعهم. وبالتالي فمن الشرف لنا، ومن المسؤولية علينا، ومن الخير لنا، وسبيل لا بد منه لنجاتنا، لفلاحنا، لفوزنا، لأنْ نحظى بمعونة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ونصره، أن نتصدى لطغيانهم، ألا نقبل بسيطرتهم علينا، بما هم عليه من فساد، من شر، من طغيان، من إجرام، ألا يتمكنوا في أي جبهة، أو في أي ميدان يتحركون فيه: إعلاميًا، أو ثقافيًا، أو فكريًا، أو في أي مجال، أو عسكريًا، أو أمنيًا، ألا يتمكنوا من خلال ذلك من السيطرة علينا، من الإخضاع لنا، من الإذلال لنا، من الاستعباد لنا.
فالتحرك هو شرف، هو عزة، والتحرر من هيمنتهم، بما هم عليه من فساد، وإجرام، وطغيان، وسوء، وشر، وقبح، التحرر من هيمنتهم هو شرفٌ كبير، ومسؤوليةٌ دينية، وهو الذي يحافظ لنا على إنسانيتنا، على كرامتنا، على شرفنا.
نحن كشعبٍ يمني؛ في إطار ما نعانيه من جهة تحالف العدوان، من إصرارهم على الاستمرار في الحصار لنا، من إصرارهم على الاستمرار في احتلال أجزاء واسعة من بلدنا، من مساعيهم المستمرة لتفكيك بلدنا، واستقطاع مساحات وأجزاء منه، ونشر الفتن بين أبنائه، نواجه ذلك من منطلق انتمائنا الإيماني، كمسؤولية إيمانية، كمسؤولية دينية في المقدمة، وكضرورة واقعية، ونحن واثقون بنصر اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”. ولذلك أمام هذه المرحلة التي تشهد خفضًا للتصعيد، وإفساحًا للمجال للوساطة العمانية، إلا أننا لسنا في غفلة عن مساعي الأعداء، عن خططهم، عن تحركهم السيئ جدًّا لأهدافهم الشيطانية. ومشكلة السعودي والإماراتي، بالرغم مما قد كلَّفه عدوانه على شعبنا، سواء الإماراتي وما قد كلفه ذلك، أو السعودي قبله وما قد كلفه ذلك، مشكلتهما في الخضوع لأمريكا وبريطانيا.
الأمريكي حريص على استمرار الاستهداف لبلدنا، حريص على أنه في الحد الأدنى إذا لم يتمكن من احتلال كل بلدنا، فاستقطاع ما قد احتله منه.
طالما بقي السعودي مرتهنًا للأمريكيين، ومتوجهًا ضمن إملاءاتهم، فهذه مشكلة كبيرة عليه؛ لأنه لا يمكن بالنسبة لنا أن نسكت على استمرار هذا الوضع، الذي يعاني فيه شعبنا معاناة كبيرة، أن يتصور السعودي أن بإمكانه أن يأتي ومعه الإماراتي، لتنفيذ أجندة وإملاءات وتوجيهات ومخططات أمريكا وبريطانيا، ضد بلدنا: بالحرب، والدمار، والاحتلال، والحرمان من الثروة الوطنية، والتسبب بمعاناة شعبنا، وتجويعه، وبؤسه، ومعاناته، ومع ما حصل أثناء القصف والاستهداف لهذا البلد من تدمير هائل لمنازل المواطنين، لمصالح أبناء هذا البلد، لمنشآتهم الحيوية، لخدماتهم العامة، مع ما حصل من حرب اقتصادية ظالمة، لإفقار شعبنا وتجويعه إلى أقسى مستوى، لا يمكن أن نسكت عن الاستمرار تجاه ذلك، فيتصور السعودي أن بإمكانه أن ينتقل إلى (الخطة ب)، إذا لم يمكنه الاستمرار في حرب عسكرية شديدة مستعرة، تهدئة فيها إلى مستوى معين، خفض للتصعيد إلى مستوى معين، ثم استمرار في الحصار، واستمرار في التجويع، واستمرار في نهب الثروة الوطنية، أو في الحرمان للشعب منها، والتسبب بمعاناة شعبنا نتيجةً لذلك الحصار، ثم لا إعمار، لا انسحاب، لا إيقاف للحصار، ويتصور أن بإمكانه أن يضيع مع الوقت كل شيء، أن ينسى شعبنا ما فعلوه به، من قتل وتدمير، وأن يصبر على حالة الحصار ويتحول سخطه إلى مشاكل داخلية فقط! هذا تصور خاطئ، لا يمكن للحال الراهن أن يستمر بما هو عليه أبدًا، على السعودي أن يعي هذه الحقيقة، وأن يدرك أن استمراره في تنفيذ الإملاءات الأمريكية والبريطانية ستكون عواقبها الوخيمة عليه؛ لأنه لا يمكن أن يعيش في أمن ورفاهية، وتحريك للاستثمارات في (نيوم) أو في غيرها، واهتمامات وأنشطة اقتصادية، ثم يتسبب باستمرار الحصار والمعاناة والبؤس في واقع شعبنا العزيز، فيتصور أن بإمكانه أن يبقى بلدنا مدمرًا وخرابًا ومحاصرًا، وأن يبقى شعبنا جائعًا ومعانيًا، ويشغله أيضًا بمشاكل داخلية، ويبقى هو هناك نائنٍ بنفسه عن كل التبعات لما قد فعله ويفعله، ولما هو مستمر عليه من سياسات عدائية، وظالمة، وخاطئة، وتدخُّل سافر ومكشوف ومفضوح في كل شؤون شعبنا. هذا لن يحقق له السلام، ولا يمكنه أن ينأى بنفسه عن التبعات والالتزامات نتيجة عدوانه الظالم على بلدنا، ثمان سنوات من التدمير، والقتل، والحصار، والتجويع، والتضييق في كل شيء.
عندما تصل سفينة إلى ميناء الحديدة تصل بعد سلسلة طويلة من الاتصالات، والمتابعات، والوساطات، ورحلات محدودة جدًّا من مطار صنعاء بعناء وجهد جهيد، والبقية لا شيء! حصار مستمر، خراب مستمر على ما هو عليه، دمار، سعي لتفكيك هذا البلد، سعي لاستقطاع أجزاء واسعة منه، لا يمكن أن تمر هذه الأمور.
نحن لا يمكن أن نسكت عما هو حاصل طويلًا، افسحنا المجال للوساطة بالقدر الكافي، إذا لم يحصل تطورات إيجابية، إذا لم يحصل معالجة لتلك الإجراءات الظالمة بحق شعبنا، إذا لم يُقلع السعودي عن سياساته العدائية، وعن إصراره في الاستمرار على النهج العدائي ضد شعبنا، والاستمرار في حالة العدوان، والحصار، والظلم، والمؤامرات، والاحتلال، فإن موقفنا سيكون موقفًا حازمًا وصارمًا، ونحن -بحمد الله- لسنا غافلين خلال هذه المدة، نحن نسعى إلى تطوير قدراتنا العسكرية بكل ما نستطيع، من أجل هدفنا المقدس في التصدي للأعداء، في دفع الظلم عن شعبنا، في السعي لتحقيق الأهداف المقدسة لتحرير وإنقاذ بلدنا، ولأن يحصل شعبنا على حقه في الحرية والاستقلال التام.
أنا في هذا المقام أوجه التحذير الجاد إليهم، وأقول لهم: لا يمكن أن نسكت ولن نسكت، تجاه الاستمرار في حرمان شعبنا من ثروته الوطنية، تجاه الاستمرار في الاحتلال لبلدنا، تجاه الاستمرار في حالة العدوان والحصار، وإذا كنتم تريدون السلام فطريق السلام واضحة، وليس هناك من جانبنا أي شروط تعجيزية.
في وضعنا الداخلي أتمنى أن يدرك الجميع أهمية العمل على الاستقرار الداخلي، وإفشال كل مؤامرات الأعداء لإثارة الفتن في الداخل تحت عناوين متعددة، عناوين ومشاكل اجتماعية، سياسية، غير ذلك. الحالة التي نحن فيها لا زالت حالة حرب، حالة عدوان، حالة حصار، نحن لا زلنا نعاني من العدوان، والحصار، والاستهداف، وجزء كبير من بلدنا هو في حالة احتلال. أولوياتنا واضحة، ويجب أن نبقى كل اهتمامنا بالدرجة الأولى متجهًا إلى التصدي للأعداء، وإلى الوصول إلى تحقيق سلامٍ عادل بكل ما تعنيه الكلمة، لا نفرط فيه لا باستقلالنا، ولا ببلدنا، ولا بديننا، ولا بكرامتنا، ولا بحقوق شعبنا المشروعة، ومنها الإعمار، وتعويض الأضرار.
فيما يتعلق بالجانب الرسمي نأمل– إن شاء اللّٰه– أن نعمل على إحداث تغييرات جذرية، نحن نُخضِع الواقع الرسمي الآن للتقييم، وتشخيص الإشكالات، ولديه الآن الكثير من الخطط والبرامج والأنشطة، ومن الواضح أن واقعه يتطلب الإجراء لتغييرات جذرية، ولكن نحن الآن في حال التمهيد لذلك.
نَسْأَلَ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛