النص كاملاً للمحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك الحوثي 06 رمضان 1445هـ
النص كاملاً للمحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك الحوثي 06 رمضان 1445هـ
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
https://www.masirahtv.net/mediasave.php?id=249571&q=720
نستكمل الحديث على ضوء بعضٍ من الآيات القرآنية المباركة، التي تُبَيَّن لنا أهمية التقوى، وما تعنيه لنا التقوى في الدنيا والآخرة، وتحدثنا في المحاضرات الماضية عن أهمية التقوى، فيما تحققه للإنسان في هذه الحياة فيما وعد الله به، وأيضاً عن المخاطر الرهيبة للتفريط في التقوى، والعواقب السيئة من عذاب الله في يوم القيامة، هناك عقوبات في الدنيا، وهناك العذاب العظيم والخسارة الكبرى الأبدية في الآخرة.
نتحدث في هذه المحاضرة عن: المكاسب الكبرى، التي تتحقق للإنسان من خلال التقوى في الآخرة.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر : 20]، الإنسان له حياتين: حياة في الدنيا، وحياة في الآخرة، وهناك ترابط ما بين الحياة الدنيا والآخرة في مصير الإنسان المستقبلي، ما عمله في حياته الأولى، يتحدد به مستقبله في حياته الأخرى، والمصير الحتمي في عالم الآخرة، الذي لا يفصلنا عنه إلا فاصلٌ قصير، هو: الموت ونهاية هذه الحياة، والتي يستشعرها الناس في يوم القيامة مدةً قصيرةً جداً، يتصورها البعض من الناس أنها كانت بمقدار ساعة، البعض يتصور أنها كانت بمقدار بعض يوم، أكبر التقديرات أنها كانت بمقدار عشرة أيام، أو عشر ليال، يأتي عالم الآخرة أقرب مما نتصور نحن قبل الانتقال من هذه الحياة، يتصور الإنسان المسألة بعيدة، لكن من بعد، لا، يستشعرها كانت قريبةً جداً، فالمصير الحتمي للإنسان هو:
- إمَّا إلى الجنة، ويحظى برضوان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
- وإمَّا إلى النار.
ليس هناك مجال ليكون للإنسان اتجاه آخر (لا إلى الجنة ولا إلى النار)، إمَّا أن يكون إلى الجنة، وإذا لم يكن إلى الجنة فهو إلى النار حتماً والعياذ بالله، المسألة مرتبطة بأعماله في هذه الحياة، والطريق واضح، الأعمال والطريقة التي توصلك إلى جهنم قد بيَّنها الله وكشفها لك في هذه الدنيا، الطريق والأعمال التي توصلك إلى الجنة قد بيّنها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من خلال كتبه ورسله، وأوضحها لعباده، يبقى الدور دورك أنت، أنت أيها الإنسان ما هو قرارك؟ ما هو توجهك؟ ما هو اختيارك لنفسك؟ لأنه مرتبطٌ هذا المصير المهم الأبدي مرتبطٌ بتوجهك، بأعمالك، بقرارك أنت؛ فاتخذ قرارك، انظر المصلحة الحقيقية لنفسك.
طريق الجنة هي ميسَّرة، وإذا اتجه الإنسان فيها بصدق مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” زاده هدىً ونوراً، وشرح صدره أكثر، فيتجه على المستوى النفسي برغبة، وارتياح، وسرور بالأعمال الصالحة التي يعملها، وأيضاً بانسجامٍ تام معها، وكره للأعمال السيئة، هذا ما وعد الله به في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: الآية17]، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}[الأنعام: من الآية125]، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات: من الآية7].
الأعمال نفسها (أعمال الجنة) ليست من نوعٍ آخر، يعني: خارج مجهود الإنسان، وخارج طاقات الإنسان، هي في إطار الأعمال التي يمكن للإنسان أن يقوم بها، وهي في إطار وسعه وطاقته، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يسَّر للإنسان ذلك، ولكن الإنسان هو بحاجة إلى أن يتجه الاتجاه الجاد، وأن يحذر مما يصرفه عن طريق الجنة، عن طريق الفوز العظيم، عن طريق رضوان الله “جلَّ شأنه”، الإنسان بحاجة إلى أن يرسِّخ في نفسه الخوف من العواقب السيئة لأعماله، ومن عذاب الله الشديد، ومن النتائج الوخيمة للأعمال السيئة، والعواقب الخطيرة في الدنيا والآخرة، وفي الآخرة على نحوٍ رهيبٍ جداً، هذا يساعد الإنسان على أن يستقيم في هذه الحياة؛ لتستقيم حياته في الآخرة، وبالتالي يصبح اهتمامه بأن تستقيم حياته في الآخرة عاملاً في أن تستقيم حياته أيضاً هنا في الدنيا، فهناك ترابط ما بين الحياتين.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[النازعات: 3438-]:
{طَغَى}: تجاوز الحق، وتجاوز الحد، وانحرف عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ولم يستقم على نهجه.
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}: آثرها على الآخرة؛ فضحى بالآخرة من أجل أن يحصل في هذه الدنيا على ما تهواه نفسه، ولو بالحرام، ولو بالمفاسد، ولو بالظلم، ولو بالباطل.
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 39]، مسار واضح ونهايته واضحة: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}، إذا كانت اهتماماتك في هذه الحياة متجهة نحو رغباتك وأهواء نفسك، ولو على سبيل التضحية بمستقبلك في الآخرة؛ فالنتيجة محتومة.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 40-41]، الإنسان بحاجة إلى أن يخاف، أن يخاف مقام الله يوم القيامة، ووقفته للسؤال والحساب في مستقبله في الآخرة، إذا توفر هذا الخوف؛ فهو يضبط الإنسان أمام أهواء النفس، في حالات الإغراءات، وفي حالات الأطماع؛ فيتوقف الإنسان عمَّا يمكن أن ينزلق به نحو المحرمات، نحو المفاسد، ينضبط بهذا الضابط المهم (بالخوف)، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، وأيضاً يتحرر من المخاوف التي تؤثِّر على الكثير من الناس، إمَّا في التنصل عن مسؤوليات مهمة من أهم الأعمال الصالحة، التي بها نجاتهم في الآخرة، وبها عزتهم وكرامتهم في الدنيا؛ وإمَّا أيضاً في الخنوع لهم فيما هو معصية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتجاوزٌ لحدوده، الإنسان يتأثر بالمخاوف، ويتأثر بالإغراءات، فهذا الخوف من مقامه بين يدي الله يوم القيامة يضبط عند الإنسان هذه الحالة.
يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}[البقرة: من الآية281]، هذا الرجوع الحتمي، الذي لا يمكن لأحدٍ أن يمتنع منه، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: من الآية281]، الإنسان بحاجة إلى التقوى، التقوى هنا في هذه الحياة بالأعمال التي فيها نجاة الإنسان، وقايةٌ له من عذاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من الخزي، من الشقاء الأبدي.
المكاسب الكبيرة جداً للتقوى في عالم الآخرة من بداية الحشر، بدءاً بالأمن في يوم الفزع الأكبر، أهوال يوم القيامة أهوال رهيبة جداً، والحالة التي يُبعث فيها الإنسان، ويرى الأرض وقد تغيرت كل معالمها، لم يبق فيها لا جبال، ولا أشجار، ولا نباتات، ولا أي حالة أو شكلية مما كانت عليه سابقاً، يُبعث فيرى نفسه بين مليارات البشر، من كل الأجيال الماضية من الأولين والآخرين، في ساحة المحشر، الساحة المستوية تماماً، ويُدرِك أنه قد بُعِث في يوم القيامة، يستشعر أنَّ تلك اللحظة هي بدايةٌ للبعث والنشور والحساب، هي حالة ليست عادية أبداً بالنسبة للإنسان، حالة رهيبة جداً يُبعث فيها، ولكن بالتقوى يحظى الإنسان بالطمأنة، بالبشارات حتى من تلك اللحظة، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: من الآية30]، تأتي البشارات من بداية بعثهم، يشاهدون الملائكة، ويتخاطب معهم الملائكة، ويُكلمهم الملائكة بهذه الطمأنة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}، بل يُبشرونهم بالجنة، وأنهم على مقربة من الجنة.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل: الآية89]، مع أنه فزع رهيب جداً، حالة ليست عادية أبداً، ولكنهم يعيشون حالة الآمن، والاطمئنان، والطمأنة من ملائكة الله، ويمنحهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الطمأنينة إلى قلوبهم، {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.
يقول أيضاً: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: الآية103]، فهم يتلقونهم، ويطمئنونهم، وهذا له أهمية كبيرة في أن يكونوا في تلك الحال في منتهى الاطمئنان؛ بينما غيرهم في حالة رهيبة جداً من الفزع، من الاضطراب، من الخوف الشديد، يصور القرآن لنا تلك الحالة لغيرهم، فيقول: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: من الآية18]، تطلع قلوب غيرهم لتصل إلى حناجرهم؛ من شدة الخوف، من شدة الفزع، من شدة الهول، وهم يحظون بتلك الطمأنة من ملائكة الله.
في مرحلة الحساب تأتي البشارات أيضاً، كما قرأنا في الآية المباركة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق: الآية7]، تصبح مسألة التسليم لصحف أعمالهم وكتبهم بأيمانهم، من تلقاء وجوههم، من أمامهم، تعتبر من المبشرات التي يطمئنون بها، من لحظة استلام كتابه، أن كان تسليمه كتابه بتلك الطريقة، فهذا بحد ذاته يطمئنه، وهو بشارةٌ له.
عندما يطَّلع على كتابه، ويشاهد أعماله ويراها، يرى الأعمال التي وفَّقه الله لها في هذه الدنيا، الأعمال الصالحة، الأعمال التي ترضي الله “جلَّ شأنه”؛ فيطمئن، ويفرح، ويرتاح، يفرح بتلك الأعمال؛ لأنه عرف آنذاك، والإنسان في يوم القيامة يعرف أهمية الأعمال بشكلٍ كبير جداً، في الدنيا قد يتجه الإنسان من منطلق الاستجابة لله، بالدافع الإيماني ليعمل الأعمال الصالحة، وهو أيضاً يستشعر أنها أعمال ذات أهمية، وقيمة في نجاته، في فلاحه، في الخير له في الدنيا والآخرة، لكن لا يتخيل ولا يستوعب أنَّ لها ذلك المستوى من الأهمية، وعليها ذلك القدر العظيم وذلك المستوى الكبير من الأجر والثواب، وحينها يفرح فرحاً عظيماً: {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة: من الآية19]، هو في حالة من الفرح العظيم، يقول للآخرين: انظروا أعمالي، وما وعدني الله به، وما عليها من الأجر والثواب، ويرى أنه لا نقص ولا هضم في جهوده وما عمل، بل إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يوفيه أعماله، كما قال “جلَّ شأنه”: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء: الآية47].
يحشر في إطار الحساب، وبالذات الحساب الجماعي، في زمرة النبيين وأولياء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذين نهج نهجهم في هذه الحياة، واقتدى بهم، واتجه في طريقهم، وتولاهم، وسار معهم في هذه الحياة في طريق التقوى، في صراط الله المستقيم؛ فيحشر معهم، وهذا أيضاً من الطمأنة الكبيرة جداً، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[الزمر: من الآية69]، فهذا مما يطمئنه أيضاً، ويرتاح به في يوم القيامة، يحظى معهم (مع أولياء الله، مع الهداة من عباد الله، مع أنبياء الله، والصفوة من عباده الأبرار الأخيار( يحظى معهم في ساحة المحشر بعد الحساب بالنعيم، بما يُقَدَّم لهم في ساحة المحشر، يُقَدَّم لهم الشراب، يُقَدَّم لهم الطعام، تُقَدَّم لهم كذلك الأماكن التي يجلسون عليها بتكريم، وهم في ساحة الحساب قبل الانتقال إلى عالم الجنة، ويشاهد الحال الرهيب للذين كانوا في هذه الدنيا معرضين عن هدى الله، صادِّين عن سبيل الله، متَّجهين الاتجاه المناوئ للهدى والحق وطريق الجنة.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ}[المطففين: 22-23]، آرائك حتى في ساحة المحشر، {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ}[المطففين: 23-26]، يعني: معلبات، تُقدَّم لهم مشروبات من مشروبات الجنة، في معلبات يشربونها وهم في ساحة المحشر، إضافة إلى ما ورد في الآثار النبوية عن الحوض، الذي يشربون منه في ساحة المحشر، {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون}[المطففين: 26-28]، {خِتَامُهُ مِسْكٌ}: الغطاء الذي على تلك المعلبات صنعه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من المسك، برائحته الفواحة العطرة جداً.
في تلك المشاهد التي يشاهدون فيها حال أعداء الله، يقول الله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المطففين: 34-36].
في ساحة المحشر نفسه، في تلك الحالة التي هم فيها مع أولياء الله، لديهم الطعام والشراب، والآخرون يطلبون منهم إذا أمكن أن يعطوهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[الأعراف: من الآية50]، فلا يمكن أن يعطوهم شيئاً منه؛ ينتظرون الانتقال من ساحة الحساب إلى الجنة.
يُقَرَّب عالم الجنة، عالمٌ عظيمٌ وكبيرٌ جداً، وشاسعٌ للغاية، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم عن الجنة: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، هذا عرضها، فحجمها هائل، حجمها كبيرٌ جداً، بحجم السماوات والأرض، يُقَرَّب عالم الجنة من ساحة الحشر؛ تمهيداً للانتقال إليه، يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}[ق: الآية31]، وهم يشاهدون من ساحة الحشر نفسها يشاهدون عالم الجنة وقد اقترب، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}، ما أهم التقوى، ما أهم التقوى! {غَيْرَ بَعِيدٍ}؛ لكيلا يحتاجون في الانتقال إلى عالم الجنة إلى سفر بعيد جداً، وإلى وقت طويل، أو إلى متاعب؛ لأنهم سيتجهون بسلام، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ}[الحجر: من الآية46]، ينتقلون بسلام، ليس هناك متاعب ومخاطر بعد اكتمال عملية الحساب في الانتقال إلى الجنة، بل يحشرون إليها بتكريم، بتكريم وسلام، واطمئنانٍ تام.
ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عن انتقالهم إليها: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم: الآية85]؛ لأنهم ينتقلون إلى ضيافة الله، إلى مستقر رحمته، إلى دار كرامته، إلى دار السلام؛ فهم ينتقلون في غايةٍ من التكريم كوفد، كما هو حال الوفد الذي هو وافد، بتكريم، واحترام، وتقدير، وسلام، واطمئنان {وَفْدًاء}.
في مقابل الحال الرهيب للمجرمين والمنحرفين عن نهج الله، الذين قال الله عنهم: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم: الآية86]، يُسَاقُونَ كما الحيوانات التي تساق بالضرب، والدفع، وغير ذلك، وهم في حالة عطش، وفي حالة رهيبة جداً، أشبه شيء بحالة الحيوانات إذا كانت تساق والعياذ بالله.
أمَّا حالة المتقين ففي تكريمٍ عظيم، يقول الله عنهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا}[الزمر: من الآية73]، ينتقلون جماعات جماعات، ينتقلون في مواكب من النور، مواكب {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}[الحديد: من الآية12]، كما في الآية المباركة، وينتقلون الله أعلم كذلك ما هي وسائل النقل التي ستنقلهم من ساحة المحشر إلى أن يصلوا إلى عالم الجنة! لكنها وسائل ينتقلون عليها بكل سلام واطمئنان- بالتأكيد- كما هو واضحٌ في القرآن الكريم.
عندما يصلون إلى مشارف الجنة وأبوابها، يقول الله عن ذلك، وهي لحظة عظيمة في فرحهم، في استبشارهم، على العكس من حال أهل النار، الفارق كبير جداً بين الحالتين: أهل الجنة عندما يصلون، المتقون وأولياء الله عندما يصلون إلى مشارف الجنة هم كلما اقتربوا كلما ازدادت فرحتهم، وازداد سرورهم، واطمئنانهم، وشوقهم؛ لأنهم يعرفون أين يتجهون، سمعوا عن الجنة في القرآن الكريم، اطَّلعوا على ما ذكره الله عنها، لكن الأمر يختلف في الفارق الكبير في المشاهدة والمعاينة، عندما يعاين الإنسان عالم الجنة من بعيد، ثم وهو يقترب أكثر فأكثر، ثم حين يصل على مشارف ذلك العالم العجيب والعظيم:
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا}، وهي لحظة عظيمة جداً، لا يمكن أن يتخيل الإنسان حالة الفرح والسرور حينما يصلون؛ لأنهم وصلوا إلى دار السلام الأبدي، إلى الاطمئنان الدائم، إلى النجاة المؤكدة الدائمة من عذاب الله، إلى أرقى نعيم، إلى مستقر رحمة الله، ودار كرامته، إلى حيث يحظون بكل مظاهر التكريم الإلهي، وما يعبِّر عن رضوان الله عنهم على أرقى مستوى، إلى حيث يستشعرون القرب من الله في أنفسهم وفي واقعهم بشكلٍ عظيم.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا}، ما أعظمها من لحظة! {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر: الآية73]، يتلقاهم خزنة الجنة، الملائكة، القائمون على تدبير شؤونها وإدارة الوضع فيها، يتلقونهم بالترحيب، والتسليم، والتكريم، والاحترام، والتقدير، وهذا من التكريم العظيم لهم، أن يكون الذي يستقبلهم ملائكة الله، بالسلام، والترحيب، والتهاني، نعمةٌ عظيمة، وفوزٌ عظيم بكل ما تعنيه الكلمة.
{فَادْخُلُوهَا}: تفضلوا يعني، {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، الفارق الهائل جداً بين الحالة تلك التي يدخلون فيها إلى عالم الجنة بكل رغبة، بكل سرور، وحالة أهل النار وهم يلقون إجبارياً إلى جهنم والعياذ بالله. يدخلون الجنة، في بعض الآثار عن النبي “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”: أن سرورهم وفرحتهم بما عاينوه، وما شاهدوه في الجنة، وما وصلوا إليه، واستشعارهم لعظيم النعيم الذي وصلوا إليه، يصل إلى درجة هائلة جداً من السرور والفرح؛ لدرجة أنه لو بقي موتٌ لماتوا من ذلك، لكن لم يبق موت، لم يبق موت، يعني: لا نستطيع أن نتخيل مستوى السرور والفرح، والاطمئنان والانسجام، وتلك المشاعر الراقية جداً لحظة وصولهم إلى الجنة.
هم يحمدون الله على هذا النعيم العظيم الذي وصلوا إليه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ}، يحمدون الله، ويدركون النعمة العظيمة والفوز العظيم الذي وصلوا إليه، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[الزمر: الآية74]، أدركوا أنه نعيمٌ عظيمٌ جداً، {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}، لابدَّ من العمل، لابدَّ من الالتزام بهدى الله، بتوجيهاته، بالتقوى، فهم يحمدون الله، ويستبشرون.
وعالم الجنة هو فسيحٌ جداً جداً، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، وسكانها- للأسف- قليل، في يوم القيامة يتجه مليارات البشر نحو جهنم، ويتجه القليل إلى الجنة، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}[الواقعة: الآية13]، عن السابقين يقول: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: الآية14]، يقول عن أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 39-40]، لكن إلى جهنم ليست المسألة (ثُلَّة) بل أفواج، أفواج هائلة جداً جداً والعياذ بالله، وهذا أمر مؤسف في واقع البشر!
الجنة عالمٌ فسيحٌ شاسعٌ جداً، لكنها بكلها في منتهى الروعة والجمال، كلها معدة لنعيمهم، ليس هناك مثلاً أماكن في الجنة هي مجرد صحاري، أو أماكن لا نباتات فيها، لا، هي كعالمٍ واحد جنة، جنة بكلها، في كلها تتوفر الفواكه، النباتات الراقية جداً، الأنهار، المساكن الطيّبة، ويمكن للإنسان المؤمن، المتقي لله، الذي فاز بالدخول إليها، أن يتنقل في أرجائها، أن يتنقل فيها إلى حيث يريد، ليس هناك عوائق، وموانع، وصعوبات، وتعقيدات، ولا يحتاج داخل الجنة إذا أراد أن ينتقل إلى بقعة هنا أو هناك، أو جهة هنا أو هناك، إلى ما يعانيه أهل الدنيا في الدنيا، من صعوبة التنقل من بلد إلى آخر، لا إجراءات تُعَقِّد، ولا مشقة في الانتقال، يتهيأ الانتقال بوسائل مريحة جداً في الجنة، وسريعة، وفي الآثار النبوية أنها وسائل طيران تطير بهم، لكن تختلف- بالتأكيد- عمَّا هو في الدنيا.
ثم كذلك أيضاً على مستوى الاستقرار والتنقل، هذه العبارة في الآية المباركة: (نَتَبَوَّأُ) {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}[الزمر: من الآية74]، تفيد أنه يمكنهم أن يتجهوا وأن يتحركوا في الجنة إلى حيث يشاءون ويريدون فيها، وأن يستقروا هنا أو هناك، فهي عالم وسيع فسيح، وليس هناك نزاعات عليها، لا على أراضي، ولا على قصور، ولا مشاكل، ولا اختلافات، ولا أي شيء.
في داخل الجنة لكلٍّ منهم أربع جنات خاصة به، كما وضَّحها الله في (سورة الرحمن): {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن: الآية46]، ثم تحدث عن أوصاف النعيم فيها، وتوفر كل أنواع الفواكه والثمار، وما فيها من أصناف النعيم، ثم عَقَّب بعد ذلك بقوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن: الآية62].
ثم غير ذلك، غير ما يخصك في الجنة، عالم الجنة بكله، بقية الأماكن فيها تتوفر الفواكه، تتوفر أنواع النعم بشكلٍ عظيمٍ جداً، وبما لا يتخيله الإنسان، يفوق كل تصوُّر، النعيم المادي، والنعيم المعنوي في الجنة على أرقى مستوى.
ملابس أهل الجنة في الجنة من أرقى الملابس، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[الحج: من الآية23]، من حرير الجنة، الذي لا مثيل له أبداً، ليس هناك في الدنيا مثل تلك الملابس لأي شخص يكون قد توفرت له أو حصل على مثلها نهائياً، من كل أهل الدنيا: من ملوكهم، من تجارهم، من أثريائهم، لا أحد أبداً امتلك مثل تلك الملابس، أو حصل على مثلها، أو لبس مثلها، {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}[الكهف: من الآية31]، أفخر وأجود الملابس وأرقاها في زينتها، في نعومتها، في الارتياح بلبسها وهم في الجنة.
في مقابل حال أهل النار، الذين: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج: من الآية19]، الذين: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}[إبراهيم: من الآية50]، فهم في حالة فظيعة جداً من الألم الشديد من تلك الملابس الجهنمية، وفي نفس الوقت في حالة بشعة، ومنظر فظيع، ليست زينة.
أمَّا أهل الجنة فهي زينة، وهي راحة، زينة من أرقى أنواع الزينة، ملابسهم التي يلبسونها من حرير الجنة الناعم جداً، والمريح للجسم وهم يلبسونها، زينة من جهة، وراحة من جهة أخرى، فالحالة والفارق كبير جداً، فارق كبير جداً.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}[الحج: من الآية23]، الحلية والزينة التي يلبسونها (الأساور)، {مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}[الحج: من الآية23]، الأساور نفسها من ذهب الجنة، ذهب الدنيا، وهو من أرقى الزينة لدى البشر، لا يساوي شيئاً، وهو في الدنيا محرَّم على الرجال طبعاً، لكن في الجنة يلبس أهل الجنة من رجالهم ونسائهم الأساور الذهبية، التي هي مرصَّعة باللؤلؤ، ومن ذهب الجنة، ولؤلؤ الجنة الراقي جداً، {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[الحج: من الآية23].
على مستوى المشروبات، يقول الله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان: من الآية21]، من شراب الجنة، من مائها النقي جداً، العذب للغاية، يشربونه بهناء، بارتياح، يقول أيضاً: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الصافات: الآية45].
يقول عن أنواع المشروبات الأخرى المتوفرة في الجنة، ليس فقط فيما يؤتى للإنسان في قصره في الجنة، وفي جناته، التي فيها أنواع الماء من عيونٍ تجري، ومن غير ذلك، من عيونٍ نضَّاخة، تضخ بالماء، ولكن أيضاً في عالم الجنة بشكلٍ عام: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}[محمد: من الآية15]، {غَيْرِ آسِنٍ}: لا يتغير، ولا يتلوث، نقيٌ ولا يتغير مذاقه، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}[محمد: من الآية15]، ألذ وأهم المشروبات لدى الإنسان: اللبن، العسل، خمر الجنة، الذي يختلف عن خمر الدنيا المحرَّم، خمر الدنيا المحرَّم فيه آفات، فيه مصائب، فيه كوارث، يضرُّ بالإنسان في صحته، يدمِّر كبد الإنسان، يفقد الإنسان عقله وصوابه، يسبب للإنسان حالة السُكر والعياذ بالله، حالة رهيبة جداً، يفقد الإنسان فيها رشده وتمييزه، ويتحول إلى معتوه، كالمجنون تماماً، لا يميز شيئاً، يفسد نفسية الإنسان، يدمِّر صحة الإنسان؛ أمَّا في الجنة فالحالة تختلف، خمر الجنة يختلف عن كل ذلك: {لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}[محمد: من الآية15]، فليس لها أي أضرار، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}[محمد: من الآية15]، لبن الجنة لا يتغير طعمه، ليس له تاريخ انتهاء، مثل لبن الدنيا، إذا تأخر بعض الوقت؛ تغيَّر وفسد، لبن الجنة راقٍ جداً في مذاقه، ولا يتغير، ولا يفسد، العسل مُصَفَّى في الجنة، ليس فيه أي شوائب، وأنهار متدفقة بألوانه العجيبة.
في الغذاء في الجنة يقول الله: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[محمد: من الآية15]، من كل الثمرات، ليس هناك فقط شيء محدود يحصل الإنسان عليه، يقول عن أنواع الثمار في الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}[البقرة: من الآية25]؛ لكثرة أصنافه وأنواعه، التي يتعجَّب الإنسان منها، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}[البقرة: من الآية25]؛ لكثرته.
يقول: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان: الآية55]، بكل فاكهة، كل أصناف الفواكه المتوفرة جداً، والمتنوعة جداً، والتي هي على أرقى مستوى، ليس فيها أي خلل، أضرار، عاهات، أمراض، آفات… ولا أي شيء، سليمة وراقية جداً، في مذاقها، في رائحتها العطرة، في قيمتها الغذائية لهم، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}، (آمِنِينَ): ليست فاكهة ملوثة، أو فيها آفات معينة، أو تسبب لهم شيئاً من الأمراض، أو يتضررون من أكل بعضها، كما هو الحال في الدنيا، البعض من الناس متمكن وثري، لكن ممنوع، ممنوع من كثيرٍ من الفواكه، يقول “جلَّ شأنه”: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الطور: الآية22]، يمدهم الله وكل شيء متوفر جداً، ومما يشتهون ويرغبون به.
تقدَّم لهم ما يقدَّم من غذاء الجنة، ومن الطعام فيها، بتكريم، يقدِّمه لهم خدم الجنة، يقدِّمونه لهم في صحاف وأوانٍ من أواني الجنة، وكلها ذهبية، من ذهب الجنة، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}[الزخرف: من الآية71].
أيضاً الحور العين: الحور العين، المؤمنات اللواتي دخلنّ الجنة، يخلقهن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في غاية الجمال، في ما وصف الله به الحور العين، فهن هن حورٌ عين في الجنة، المرأة المؤمنة هي في الجنة حورٌ عين، من الحور العين، يقول: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات: 48-49]، ثم كذلك بقية المواصفات، التي وصف الله بها الحور العين في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة.
مع ذلك النعيم بكله، يلتئم شمل الأسر المؤمنة في نعيم الجنة، الإنسان المؤمن، زوجته المؤمنة، أولاده المؤمنون المتقون، أسرة يلتئم شملها بما لا ينقص على أيٍّ منهم أجر عمله، بمعنى: لا يكون مجرد تابع في نعيمه مما لدى والده مثلاً، بل له أيضاً نعيم جزاءً لأعماله، وعلى أعماله الصالحة، دون أن يُنقَص أيٌّ منهم أي شيءٍ من أجره؛ ولهذا يقول الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الطور: من الآية21]، إلى مستوى النعيم الراقي الذي هم فيه يعني، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}[الطور: من الآية21]، لا ينقص على أيٍّ منهم شيءٌ من أجره، ومن جزاء عمله، بل يتحقق ما دعا به ملائكة الله، حينما كانوا يدعون للمؤمنين في الدنيا: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}[غافر: من الآية8].
هناك أيضاً في الجنة مع النعيم المادي، الذي هو على أرقى مستوى، والذي يفوق كل خيال، والذي يتوفر بأصناف هائلة جداً، مع مساكن الجنة وقصورها، التي سمَّها الله بالمساكن الطيِّبة، كلها مبنيةٌ من فوق ما نتخيله، في بعض الآثار ما يفيد أنَّ قصور الجنة منها ما هو من الذهب، منها ما هو من الزمرد، منها ما هو من الفضة، منها… أنواع راقية جداً، ورائعة للغاية، مبنية بشكلٍ عجيب، يرى الإنسان منها المناظر البهية للجنة، وللأنهار في الجنة، {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ}[الزمر: من الآية20]، طوابق في الجنة.
هناك أيضاً التكريم المعنوي، في مقدِّمة التكريم المعنوي، ومن أعظمه، بل هو أعظم مستوى من التكريم المعنوي: تحية الله لهم، وأن يبلِّغهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” رضاه عنهم، هذا نعيمٌ عظيم، وشعورهم الدائم بالقرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنَّ الله راضٍ عنهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[المائدة: من الآية119]، هذه الحالة من رضاهم عن الله، وشعورهم برضى الله عنهم، وشعورهم بالقرب من الله، والتحية التي تَبلُغُهم من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما في القرآن الكريم: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس: الآية58]، هي أعلى درجات التكريم، تكريم عظيم جداً، الإنسان عندما يشعر بأنه يحظى برضى الله عنه، وأنَّ له منزلة عند الله، وأنَّ الله يحبه، ثم يرى كل ذلك النعيم المادي يقدَّم في جو ذلك التكريم، كله تجليات لرضوان الله عنهم، لرحمة الله لهم، لمحبة الله لهم، كله يقدَّم لهم بإعزاز، وتكريم، وتقدير، يعتبرهم الله في ضيافته الأبدية، ضيوفاً عند الله ضيافة أبدية، هذا بحد ذاته نعيمٌ عظيم، وتكريمٌ لا يساويه شيء.
ثم مع ذلك زيارة الملائكة لهم، وهي في إطار تكريم الله لهم، ورضاه عنهم، منذ دخولهم إلى الجنة، في بعض الآثار النبوية: أنَّ من أول ما يعملونه بعد دخولهم إلى الجنة، ووصولهم إليها، أنهم يغتسلون في نهر مخصص من أنهار الجنة، نهر عظيم جداً، فيغتسلون في ذلك النهر، ثم يلبسون من ملابس الجنة، ثم تزفهم الملائكة إلى جناتهم وقصورهم الخاصة بهم، وتعرِّفهم عليها، كل إنسان تذهب به الملائكة إلى قصره، وجناته، وبساتينه، ويطوفون به فيها، ويدخلونه إلى قصره ومسكنه الجديد في عالم الجنة، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}[الرعد: 23-24]، وهم يطوفون بهم في قصورهم، ويزورونهم إلى مساكنهم، يهنِّئونهم ويسلِّمون عليهم، هذا من التكريم العظيم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}، وهذا من التكريم، يقولون لهم: انظروا عاقبة صبركم، ونتيجة صبركم، وصلتم إلى هذا النعيم، إلى دار الجنة، إلى قصور الجنة، إلى مساكن الجنة، إلى نعيم الجنة، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: الآية24].
في عالم الجنة أيضاً من التكريم المعنوي، ومن السعادة الكبيرة: المجاورة لأنبياء الله وأولياء الله، أنت في عالم الأنبياء، في عالم الرسل، في عالم أولياء الله، والأخيار الأبرار من عباده، وهذا نعيمٌ عظيم؛ لأنهم في الجنة يلتقون بأنبياء الله، يلتقون برسل الله، يمكنهم أن يزوروهم إلى قصورهم، إلى جناتهم، أن يلتقوا بهم في الأماكن أيضاً التي أُعِدَّت وَهُيِّئَت لاجتماعات المؤمنين وأولياء الله، وهذا نعيم عظيم، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: من الآية69]، عندما تكون برفقتهم، وفي زمرتهم، وفي عالمهم، هناك السعادة، هناك الكرامة، هناك الراحة، هناك النعيم الحقيقي.
من مظاهر التكريم: أنهم يُخدَمُون في الجنة؛ ولذلك لا يحتاجون إلى تعب، ولا إلى عناء في توفير أي شيء يحتاجون إليه، لا يحتاجون أن يتعبوا أنفسهم كما في هذه الدنيا، الإنسان في أي شيء يريده: لتوفير غذائه، لتوفير متطلبات حياته؛ يحتاج إلى الكد، إلى العمل، إلى التحرك، إلى العناء، إلى بذل جهد معين، هناك بكلهم في سعادة، المؤمنون والمؤمنات، المؤمنة لا تحتاج أن تذهب هي للطبخ، وتحضير الطعام، وتوفير المتطلبات الأخرى، المؤمن المتقي لله لا يحتاج أن يذهب لبذل كل جهد، كمزارع في الجنة يشتغل ويكد في عالم الجنة، من أجل أن يوفر احتياجات ومتطلبات منزله، لم يعد هناك أي تعب، ولا أي كد، هناك خدم يوفِّرون لهم كل ما يريدون، ولهذا يقول الله عنهم: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ}[الطور: من الآية24]، يعني: متخصصون للاهتمام بهم، لرعايتهم، لتوفير احتياجاتهم ومتطلباتهم المتوفرة في عالم الجنة، {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}[الطور: من الآية24]، في غاية من النظافة، فالنعيم هناك متوفر بدون أي كد، ولا عناء، ولا تعب.
من مظاهر التكريم المعنوي، هو: الاحترام الكبير، كل إنسان متقي لله، فاز بهذا الفوز العظيم، يدخل الجنة، يعيش في الجنة معززاً، مكرَّماً، محترماً، الكل يحترمه، الكل يقدِّره، ليس هناك من يؤذيه، ليس هناك من يسخر منه، ليس هناك من يزعجه، ليس هناك من ينازعه، من يخاصمه، من يشاجره. في هذه الدنيا لا يكاد يسلم أي إنسان من أن يكون هناك من يزعجه، من يؤذيه، من يسعى لإشغاله، من يسعى للمشاكل معه، وإذا امتلك شيئاً من الدنيا، قد يواجه عليه المشاكل الكثيرة، لديه قطعة أرض، يواجه عليها نزاعات، وشجارات، وخصومات، ومشاكل كثيرة… أو ما شابه. في عالم الجنة يحظى الإنسان بالاطمئنان التام، والسَّلام الحقيقي، والاحترام، والتقدير، والتكريم، فيعيشون فيها بكل نعيم، بكل اطمئنان، يقول الله عنهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر: الآية47]، بل الأخوة بينهم جزءٌ من نعيمهم، جزءٌ من راحتهم، ما بينهم من المحبة، من الأنس، ما بينهم من الأخوَّة، يفرحون ببعضهم البعض عندما يلتقون في مجالسهم، التي هي مجالس مميزة وراقية جداً.
يقول عنهم: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}[الحج: من الآية24]، ليس في كلامهم ما يزعج بعضهم البعض، أو يسيء إلى بعضهم البعض… أو أي شيءٍ من هذا القبيل، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}[مريم: من الآية62].
مجالسهم الراقية، التي يجتمعون فيها للحديث مع بعضهم، وللقاء ببعضهم، يشربون فيها من أرقى مشروبات الجنة، كما قال الله عن ذلك: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[الطور: الآية23]، يشربون بشكل جماعي، من مشروبات راقية، منعشة، تبعث الانشراح فيهم، والارتياح التام، وهم في راحة أصلاً، فيتساءلون عن عالم الدنيا، عن حياتهم الأولى، عن ذكرياتهم في حياتهم الأولى، عن ما منّ الله به عليهم ووفقهم له من الفوز العظيم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الطور: الآية25]، كيف وصلنا إلى هذا النعيم؟ كيف تجاوزنا كل تلك العراقيل الخطيرة في عالم الدنيا، التي أثَّرت على الكثير من الناس، فصرفتهم عن نهج الله، وهدي الله؟ {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}[الطور: الآية26]، كنا نحذر، نخاف ونحذر، نخاف من عذاب الله، من عواقب الأعمال السيئة؛ فنحذر، هذا الخوف والحذر يدفع الإنسان للتوبة إن زلّ، يدفع الإنسان للاستقامة، يدفع الإنسان للعمل، يدفع الإنسان لئلا يخضع لا للإغراءات التي تصرفه عن نهج الله، ولا للمخاوف التي تصده عن سبيل الله، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 27-28].
نعيمهم المستمر يتزايد، فيه الأشياء الجديدة بعد كل مرحلة، بعد كل وقت، فيه المفاجآت من التكريم والنعيم العجيب، ليست حالة راكدة يملون منها؛ ولهذا يقول الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة: من الآية17]، يمنّ الله عليهم ما تقر به عيونهم، حجم النعيم، عظم ذلك النعيم، وما فيه من التكريم، يجعلهم في حياة طيِّبة هنيئة، وليس هناك مرض، ولا هرم؛ فيكدر عليهم ما هم فيه من النعيم، وليس هناك موت لنهاية ذلك النعيم، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[النساء: من الآية57]، {جَنَّاتِ عَدْنٍ}[التوبة: من الآية72]: بقاء في نعيم، (عَدْنٍ): بقاء في نعيم، ليس هناك ما ينغِّصه، ليس هناك ما يؤثِّر عليه، ليس هناك نصب، ولا تعب، ولا شقاء، ولا كد… ولا أي شيء من المنغصات، ولا مرض، ولا همّ، ولا غم.
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف: الآية108]، لن يسأموا ولن يملوا من ذلك النعيم العظيم، والعالم العجيب، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر: 34-35]، ليس هناك ما يمكن أن يمسَّ الإنسان من التعب، ولا عمل متعب؛ إنما يتحرَّك في إطار نعيمه، في إطار رحلات في الجنة، يزداد فيها سروراً، وارتياحاً، ونعيماً، كل ما في الجنة ليس متعباً أبداً.
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}[الدخان: 55-56]، يعني: التي حصلت في عالم الدنيا، {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الدخان: من الآية56]، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الطور: من الآية18]، الله وقاهم عذاب الجحيم، وهي نعمة عظيمة جداً، مع الفوز بالجنة، السلامة من عذاب الله في النار.
في عالم الجنة يمكنهم أن يطَّلعوا على حال أهل النار، أو على حال أشخاص معيَّنين من أهل النار، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الصافات: الآية55].
هذا النعيم العظيم، الأبدي، الذي لا نهاية له، الراقي جداً، الذي لا مثيل له، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يدعو عباده إلى هذا النعيم، إلى هذا الفوز، إلى هذا التكريم، ويعرضه عليهم، ويرغِّبهم فيه، وهو ما ورد كثيراً في القرآن الكريم.
ليس هناك منع لا لجهة معينة، مثلاً: أن يكون هذا خاصاً بالرجال دون النساء، أو بالفقراء دون الأغنياء، أو الأغنياء دون الفقراء، يُعرَض على الجميع رجالاً ونساءً، يعرض على الذكر والأنثى، والفقير والغني، يُعرَض عليهم هذا النعيم، وبوسع الكل وطاقتهم أن يعملوا الأعمال التي توصلهم إلى هذا النعيم، وهي مقارنة بغيرها أيسر، أيسر مما يكدُّه الإنسان لمعيشته في الدنيا هذه، في عاجل الدنيا في معيشته، في الحياة الدنيا، وأيسر حتى من أعمال النار، أيسر، النار تحتاج عمل، أهل النار في كد، في عناء لما يوصلهم إلى جهنم، يتعبون، ينفقون، يخسرون، يجهدون، يفعلون كل شيء- وأكثر من أهل الجنة- لما يوصلهم إلى جهنم.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ينادينا في القرآن الكريم، ويعرض أصنافاً كثيرة، كم في القرآن من آيات- هذه بعضٌ منها فقط- تعرض أوصاف النعيم في الجنة، لماذا؟ إنَّه ينادينا بذلك، يرغِّبنا بذلك، يعرض علينا ذلك النعيم، فلماذا يرفضه الإنسان؟! لماذا يتجاهله؟! لماذا أتفه الأشياء أو أتفه المخاوف تصرف الإنسان عن ذلك النعيم الأبدي العظيم، والفوز العظيم الحقيقي؟! {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: من الآية221]، {يَدْعُو}، هو يدعونا، ينادينا، يحثنا، يرغِّبنا، ولكن حالة الإعراض عن هذا النعيم العظيم أمر عجيب جداً في واقع البشر!
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}[يونس: من الآية25]، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي ابتدأنا بفضله وكرمه، ودعانا في آيات كثيرة، ورغَّبنا، وعرض علينا هذا النعيم، كان بالإمكان أن يكون جزاء الإنسان في يوم القيامة إذا نجا من عذاب الله، أن يكون هذا جزاؤه: ألَّا يدخل جهنم مع من يدخلون إلى جهنم، ثم يعود إلى وضعية مثل حال الدنيا، [دبِّر نفسك]، وكد، واعمل، وواصل حياتك، وأصبح نعمة كبيرة عليك أنك لم تدخل إلى جهنم، كان بالإمكان، يقول لك: [اذهب دبِّر نفسك، ودبِّر لك عمل، وكد، مثل ما كنت عليه]، لكن لا، مع السلامة من عذاب الله في نار جهنم، وهو فوزٌ عظيم، وأمرٌ مهمٌ جداً، يأتي هذا النعيم العظيم الذي يعرضه الله على عباده.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: الآية133]، فلماذا يتثاقل الإنسان عن الأعمال التي تصل به إلى ذلك النعيم، إلى ذلك الفوز العظيم؟! مجالٌ مفتوح للذكر والأنثى، وليس فيه مثل ما في حال الدنيا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[النساء: من الآية11]، المسألة مرتبطة بالعمل، مرتبطة بالعمل، يمكن للأنثى بعملها الصالح أن تكون درجتها في الجنة، ومنزلتها في الجنة، ونعيمها في الجنة، متفوقاً على كثيرٍ من الرجال، المسألة مرتهنة ومرتبطة بالعمل نفسه، بما قدَّمه الإنسان؛ ولهذا يقول الله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}[آل عمران: من الآية195]، ليس هناك مثلاً بالنسبة للفقراء كما في حال الدنيا، يتمنى الفقير أن يحصل على المسكن الطيب، على الغذاء الراقي، على الملابس الفاخرة… على أشياء كثيرة، فلا يتمكن من الوصول إليها، الفقير يمكنه أن يصل إلى أرقى نعيم في الجنة، إلى درجات عالية.
نعيم الجنة نعيمٌ عظيمٌ جداً، والدرجات متفاوتة، ولكن لو جُمِعَ كل نعيم الدنيا، الذي تفرَّق على كل بني آدم، وجُمِعَ بكله، كل ما قد حصل في الدنيا من نعيم، وثراء، وراحة، لو جُمِعَ بكله، كل الذي تفرَّق في بني آدم من الأولين والآخرين بكله؛ لما ساوى وضع الأبسط درجة من نعيم الجنة، من أهل الجنة، يعني: الذي هو أقل أهل الجنة في الجنة في مرتبة نعيمه، ودرجة نعيمه، وما أعطاه الله، هو في عالم الجنة، عالم الجنة بكله مجرد أن وصل الإنسان إليه، هذا شيءٌ لا يساويه أي شيءٍ آخر في الدنيا، هو أعظم نعيماً، ذلك الرجل الذي قد نرى أنه أقل أهل الجنة في الجنة، نعيمه يفوق كل ما قد حصل عليه البشر من النعيم، والثراء، والراحة، والسعادة في عالم الدنيا، وفوق ما يمكن أن نتخيل.
الرسول “صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” يقول عن الجنة: ((فِيهَا مَا لَا عَينٌ رَأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَر))، مهما قرأنا من الآيات المباركة عنها، فهي تقدِّم لنا الصورة التقريبية، التي نعجز نحن عن مستوى استيعابها بحقيقتها؛ ولذلك المفاجأة كبيرة، عندما يصل الإنسان إلى الجنة يراها بشكلٍ عظيمٍ جداً. وأيضاً حال أهل النار أمر رهيب جداً، والمسألة مرتبطة بالتقوى، الله يقول: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم: الآية63]، والتقوى أمرٌ متاحٌ للإنسان، أمرٌ متيسِّر، الأعمال التي أمرنا الله بها في وسعنا، في طاقتنا، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: من الآية286]، في متناول الناس، بل فيها الخير لهم في الدنيا، في عاجل الدنيا، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: من الآية78]؛ إنما الإنسان يضبط توجهه في هذه الحياة، لا يكون منفلتاً وراء المحرمات، وراء الأهواء، فيما يسخط الله.
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛