إيران بـ عملية “الوعد الصادق” تثبّت قواعد اشتباك جديدة في ميدان الصراع مع العدو الإسرائيلي
لم تكن الجمهورية الإسلامية في إيران غائبة عن ميدان الصراع مع العدو الإسرائيلي قبل الهجوم الصاروخي والجوي التاريخي الذي شنته على الأراضي المحتلة فجر يوم الأحد الماضي رداً على جريمة استهداف العدو للقنصلية الإيرانية في سوريا.
وخلال السنوات الماضية كانت الدولة الأكثر حضوراً في هذا الميدان بدعمها وإسنادها الكبير والمستمر للمقاومة في فلسطين ولبنان والمنطقة، وقطع الطريق أمام مشاريع العدو ورعاته الأمريكيين لتحويل المنطقة بأكملها إلى معسكر صهيوني، لكن هجوم الرابع عشر من أبريل، ربما يكون نقطة التحول الاستراتيجية الأكبر في تأريخ الحضور الإيراني في ميدان هذا الصراع، كما أنه محطة مفصلية مهمة في مسار الصراع بأكمله، فهو الهجوم المباشر الأول الذي تشنه الجمهورية الإسلامية على العدو الصهيوني، وقد شنته باحترافية عسكرية وسياسية فائقة، وفي مرحلة بالغة الأهمية، لتؤسس به قواعد اشتباك إقليمية جديدة لا يستطيع العدو فعل أي شيء أمامها؛ لأنها تستند إلى مكاسب ثابتة راكمتها جبهة محور المقاومة على امتداد عشرات السنين، الأمر الذي يجعله أكثر بكثير من مجرد رد عادي أو حدث عابر، وهذا ما يعترف به العدو نفسه.
الهجوم الذي أعلن الحرس الثوري تنفيذه تحت اسم عملية “الوعد الصادق” جاء بعد تأكيدات واضحة من قبل قيادة الجمهورية الإسلامية في إيران على أن الكيان الصهيوني سينال عقاباً مؤلماً على جريمة استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق قبل أسابيع، وبالتالي فقد مثل تنفيذ الهجوم بحد ذاته ومنذ إطلاق أول صاروخ وطائرة مسيرة، تدشيناً لمعادلة جديدة تتجاوز التعقيدات التي كانت مفروضة على الحضور الإيراني في الصراع مع العدو الصهيوني، فالهجوم أنهى مرحلة الصبر الاستراتيجي فيما يتعلق بالرد على اعتداءات الصهاينة، ومنذ الآن أصبح على العدو أن يفكر بالضربات المباشرة التي ستوجهها له الجمهورية الإسلامية قبل أن يقدم على أي اعتداء حتى وإن كان خارج حدودها الجغرافية التقليدية، وقد أشارت وسائل إعلام عبرية إلى ذلك بوضوح قائلة إنه: “من الآن وصاعداً فإن أي اصطدام مع إيران يمكن أن يؤدي إلى صواريخ وطائرات مسيرة تستهدف إسرائيل”، وهو أمر غير عادي أبداً، فالعدو لا يفتقر إلى مصادر نيران إقليمية إضافية تستهدفه، ناهيك عن إيران هي قوة إقليمية ودولية كبرى ولا تخفي أبداً مشروعها الذي من أبرز عناوينه إزالة “إسرائيل” من الخريطة، فأي اشتباك معها هو تهديد على المستوى الوجودي للكيان الصهيوني.
وبالرغم من أن الكيان الصهيوني قد حاول استباق الهجوم بإعداد غير مسبوق، استنفر فيه حلفاءه وأصدقاءه الدوليين والإقليميين بدءاً بالولايات المتحدة وانتهاء بدول عربية منها الأردن والسعودية، لحشد كل الطاقات والإمكانات الدفاعية المتطورة، لتوفير قبة أمان للتصدي لضربات كان يعتقد أنها لن تستهدف سوى مواقع محدودة داخل الأراضي المحتلة، فإن ذلك الإعداد تحول في النهاية إلى معطى من معطيات الصفعة التأريخية التي تلقاها العدو، فقد استطاعت الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية الوصول إلى كيان العدو بأعداد كبيرة وغطت معظم جغرافيا الأراضي المحتلة من الجولان إلى بئر السبع، وحققت إصابات دقيقة للغاية في العديد من القواعد العسكرية، وقد تم توثيق ذلك بالصوت والصورة بمئات المقاطع الحية.
وقد أقر جيش العدو الصهيوني نفسه ومسؤولون أمريكيون بأن عدداً من القواعد العسكرية الصهيونية أصيبت بشكل مباشر بالصواريخ الإيرانية.
لقد أثبت ذلك أن أي اشتباك مستمر يسعى له الكيان الصهيوني مع الجمهورية الإسلامية سيكون بمثابة كارثة وجودية عليه، فبحسب تقديرات الخبراء العسكريين فإن الأسلحة التي استخدمها الحرس الثوري في الهجوم لم تكن هي الأكثر تطوراً في الترسانة الإيرانية، ولم تتضمن على الأرجح صواريخ فرط صوتية أو طائرات مزودة بقنابل ذكية وليزلرية، كما أن طهران أعلنت بوضوح أنها الهجوم لن يكون واسعاً، وسيراعي اعتبارات عدم إشعال تصعيد كبير في المنطقة، وبرغم ذلك فقد استطاعت تلك الأسلحة في عملية واحدة وبرغم الإجراءات الوقائية للعدو أن تحقق اختراقاً هائلاً ليس فقط في منظومته الدفاعية هو، بل في القبة الإقليمية والدولية التي صنعها حلفاؤه بمنظومات الرصد والتعقب والصواريخ الدفاعية بعيدة المدى والطائرات المقاتلة التي انتشرت على مساحة واسعة في المنطقة، علماً بأن تكرار مثل هذه الإجراءات الوقائية مرة أخرى سيكون صعباً للغاية، وحتى إن حدث، فإن تكراره مرة ثالثة ورابعة سيكون مستحيلاً، وحتى قبل أن يصبح العدو مكشوفاً بشكل كامل، ستكون الضربات الإيرانية القادمة قد حققت أصلاً أضراراً كبيرة للغاية بالنظر إلى ما حدث فجر الأحد الماضي.
وقد حرصت إيران على توضيح ذلك في تصريحاتها عقب عملية الرد حيث أكدت أن توجه العدو الصهيوني نحو ارتكاب أي حماقة أخرى ضد الجمهورية الإسلامية، فإن الرد القادم سيكون أقوى وأشد بكثير.
ومن خلال المقاطع التي وثقت الهجوم ومحاولات اشتباك الدفاعات الصهيونية مع الصواريخ الإيرانية، يلاحظ بوضوح أنه تم استخدام تشكيلات متنوعة من الأسلحة، بما في ذلك صواريخ ذات رؤوس انشطارية لديها قدرة فائقة على خداع المنظومات الدفاعية، بالإضافة إلى صواريخ عالية السرعة وثقت الفيديوهات وصول عدد منها إلى أهدافها بدقة متجاوزة كل محاولات الاعتراض، فيما أسهمت الطائرات المسيرة في عملية “إغراق” المنظومات الدفاعية الجوية والأرضية في الأراضي المحتلة وخارجها بشكل كشف عن إمكانية كبيرة لشل هذه المنظومات وتجاوزها في أي هجوم قادم، سواء من إيران، أو من قبل الجبهات الأخرى المساندة الإقليمية لطوفان الأقصى في حال تصاعد وتيرة المعركة مع العدو الصهيوني، فما حدث فجر يوم الأحد يمكن تنفيذه أيضا من الجبهات اللبنانية واليمنية والعراقية.
وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية فإن كلفة محاولات اعتراض الهجوم الإيراني، بلغت أكثر من 1.3 مليار دولار في ليلة واحدة، وهو ما يضع العدو الصهيوني أمام حقيقة استحالة الصمود في وجه اشتباك أوسع مع إيران، فضلا عن مواجهة إقليمية محتدمة مع محور المقاومة بأكمله.
وبرغم أن الهجوم الإيراني جاء ردا على جريمة استهداف العدو الصهيوني للقنصلية الإيرانية في دمشق، فإن ذلك لا يجعله منفصلا عن سياق معركة طوفان الأقصى والصراع الأشمل مع العدو، كما تروج الآلة الإعلامية للأنظمة العميلة، فاستهداف العدو للقنصلية جاء للانتقام من دور المستشارين الإيرانيين في عملية إسناد ودعم معركة طوفان الأقصى، وحتى التحليلات التي ترجح أن نتنياهو أراد من خلال تلك الجريمة الهروب إلى الأمام من خلال إشعال حرب أوسع في المنطقة هي أيضا تؤكد ارتباط الاستهداف وبالتالي الرد الإيراني بمعركة طوفان الأقصى التي باتت تشكل كابوسا على حكومة الاحتلال وفي مقدمتها نتنياهو.
والحقيقة أن هذا الكابوس قد ازداد سوءا بعد الهجوم، حيث أصبح العدو الصهيوني بين خيارين يفاقمان مأزقه، فاللجوء إلى أي اعتداء جديد على إيران، سيؤدي إلى رد آخر أوسع بحسب التأكيدات الإيرانية، وهو ما سيجر نحو اشتباك أوسع لا يستطيع الصهاينة الغارقين في خسائر ومأزق معركة طوفان الأقصى تحمله، والتعويل على جر الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة إلى هذا الاشتباك هو رهان خاسر، فواشنطن نفسها تدرك أن ذلك سيكون مجازفة انتحارية.
وأما خيار ابتلاع الهجوم الإيراني، فسيكون اعترافا مذلا للغاية بالهزيمة وبالعجز التام عن فرض أي “ردع” إقليمي، وهو ما سيثبت نتائج معركة طوفان الأقصى، باعتبارها الضربة التأريخية التي أنهت زمن العربدة الصهيونية وجعلت كيان الاحتلال مكشوفا ومحاطا بالتهديدات الإقليمية المباشرة، ومعرضا للخطر الوجودي أكثر من أي وقت مضى.
والهجمة الإعلامية الشرسة التي لجأت إليها الماكنة الإعلامية للدول العربية العميلة بالتنسيق مع الولايات المتحدة وكيان العدو، للتقليل من شأن الهجوم الإيراني، تمثل دليلا واضحا على افتقار العدو ورعاته لأي خيار ثالث لا يتضمن تثبيت حقيقة أنه قد تلقى صفعة مذلة تغير كل موازين الصراع.