غزة.. مارثون الوساطات وخداع الوسطاء
غزة.. مارثون الوساطات وخداع الوسطاء
يمني برس- تحليل د. عبد الرحمن المختار
منذ ثمانية أشهر وأفعال جريمة الإبادة الجماعية، متتابعة ومستمرة يوميا وعلى مدار الساعة، أزهقت تلك الأفعال ولا تزال تزهق أرواح الألاف الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة،.
أطفالا ونساء وشيوخا، وبالتزامن مع أول فعل من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، جرى الترويج وعلى نطاق واسع، لوساطات عربية وغربية، هدفها المعلن التوصل لما يسميه الوسطاء وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رغم أن ما يجري هناك لا يمكن وصفه بحال من الأحوال بأنه حرب، وفقا لما هو مستقر ومتعارف عليه دوليا،.
ووفقا لقواعد القانون الدولي، باعتبار أن الحرب نزاع مسلح بين دولتين أو أكثر، وهذا النزاع يُلزم أطرافه مراعاة قواعد القانون الدولي في ما يتعلق بالعمليات العسكرية، لكل طرف في مواجهة الطرف الأخر، سواء كانت الأطراف المتحاربة دولا أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، أو لم تكن كذلك جميعها أو إحداها، طالما أن كل طرف دولة مستقلة ذات سيادة، يؤكد الواقع عدم الالتزام بقواعد القانون الدولي.
حيث لم شمل القصف كل حي في قطاع غزة وكل بناء دون تمييز بين أعيان مدنية وعسكرية، وكلها في الحقيقة مدنية! ولا مجال لوصف المقاومة ومنشأتها بأنها عسكرية، باعتبار هذه الصفة لا تتحقق الا للقوات المسلحة في الدول المستقلة ذات السيادة.
وبالنظر الى أطراف النزاع الراهن في حالة قطاع غزة، لا نجد إلا طرفا واحداً يمثل دولاً مستقلة ذات سيادة، أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، بل وبعضها أعضاء دائمة في مجلس الأمن الدولي، وكل هذه الدول تمثل طرفاً واحداً، يزعم أنه في حالة حرب، في مواجهة فصائل المقاومة المسلحة في قطاع غزة، ولا يمكن وفقا لأحكام القانون الدولي، وصف فصائل المقاومة في قطاع غزة بأنها طرف في هذا النزاع المسلح مكافئ للطرف الاخر المكون من تحالف دولي صهيوغربي.
ولا يمكن وصف هذا النزاع بأنه حالة حرب، باعتبار أن أحد طرفية ليس دولة مستقلة ذات سيادة، بل إن قطاع غزة جزء من أرض فلسطين العربية المحتلة من جانب ما يسمى بدولة إسرائيل (الكيان الصهيوني)، منذ ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن.
ولا يمكن والحال هذه وصف ما يجري في قطاع غزة بانه حالة حرب، باعتبار أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، أو في غيره من الأراضي المحتلة، يرزح تحت نير الاحتلال الصهيوني البغيض، ولا سيادة لهذا الشعب على أرضه، ولا سلطة مستقلة وذات سيادة تمثله، ولا يملك مؤسسة عسكرية، يتوافر لها ما يتوافر للدول المستقلة ذات السيادة من وسائل دفاعية.
وجل ما تعمله فصائل المقاومة عمليات محدودة في مواجهة دولة الاحتلال، بهدف تحرير الأرض من دنس المحتل الغاصب، وهذا حق مشروع ومكفول بموجب أحكام القانون الدولي.
ووفقا لذلك ينتفي تماماً وصف الشعب الفلسطيني -ممثلا في فصائل المقاومة المسلحة- بأنه طرف في ما يسمى بالحرب على غزة، ويثبت بالنتيجة وصف ما يحدث في قطاع غزة، بأنه جريمة إبادة جماعية، يرتكب أفعالها المباشرة منذ ثمانية أشهر جيش الاحتلال الصهيوني، بشراكة كاملة من جانب الإدارة الامريكية، وعدد من حكومات الدول الغربية.
ومعلوم أن الوساطات في النزاعات المسلحة بين دول متكافئة أو قريبة من التكافؤ، تؤتي ثمارها في وقت قياسي، ودون أن تلحق بأطرافها أضرار جسيمة كما هو الحال في قطاع غزة نظرا لتوازن القوة بين طرفي النزاع المسلح الذي يؤدي الى فرض حالة ردع متبادل يجعل كل من طرفي النزاع يحسب الف حساب لكل عملية قصف جوي أو بري أو بحري، بحيث يتجنب المدنيين والاعيان المدنية،.
فستقابل عملياته بالمثل من الطرف الاخر، هذا من جهة ومن جهة أخرى سيعد منتهكا لأحكام القانون الدولي كل طرف يستهدف المدنيين أو الاعيان المدنية، ولأنه لا تكافؤ ولا ردع متبادل في حالة غزة ولا اعتبار لأحكام القانون الدولي فالكيان الصهيوني وشركائه لا يقيمون أي اعتبار لا لمدنيين ولا لأعيان مدنية، ونؤكد أن كل من في غزة وما في غزة مدنيين وأعيان مدنية بما فيهم فصائل المقاومة، ومساكنهم ومقرات عملهم.
ولان الحالة في قطاع غزة، ليست حالة حرب، بين دول مستقلة ذات سيادة، ومتكافئة في القوة العسكرية أو قريبة من التكافؤ، فإن ما يجري يعد جريمة إبادة جماعية، ولا معنى للوساطات في هذه الحالة، ويكون للوساطات معنى وجدوى فقط في حالة حرب بين دولة وأخرى أو مجموعة دول، وخصوصا عندما يكون طرفي الحرب في مستوى متقارب من القوة العسكرية، وأفعال كل منهما تؤثر على الطرف الاخر، وستكون للوساطات أثر واضح في قبول الطرفين بوقف النزاع المسلح، لتجنب المزيد من الخسائر.
أما في حالة غزة، ولأنها جريمة إبادة جماعية، والكيان المحتل المجرم يعلن بكل وقاحة إصراره على القضاء على المقاومة الشعبية، ويؤيده في ذلك وبشكل صريح وواضح وسافر شركائه في الجريمة من القوى الاستعمارية الغربية، فإنه والحال هذه، لا يمكن إقناع المجرم بالكف عن أفعاله التي تفتك بالضحية، لسبب بسيط هو أن المجرم مجرمٌ، قد انصرفت إرادته الى تحقيق النتيجة المترتبة على أفعاله الاجرامية.
ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤثر فيه مواعظ الوسطاء، حتى ولو كانوا يتمتعون بأعلى درجات الحياد، بين طرفي النزاع، وليس كما هو شأن من يزعمون تقديم أنفسهم وسطاء، وهم في ذات الوقت يقدمون للمجرم كل أنواع الاسناد، الذي لولاه ما تجرأ على مجرد التفكير في الاقدام على ارتكب جريمته.
وإذا كان معلوما أن المحارب يمكن أن تمنعه دوافعه الإنسانية الذاتية، عن ارتكاب ما يعد من الأفعال مخالفا للالتزامات الدينية والأخلاقية والإنسانية، فإن المجرم وهو مُقدم على تنفيذ جريمته، تنتفي لديه تماما أي قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية، يمكن أن تمنعه من تنفيذ جريمته، لان غايته أساسا تحقيق النتيجة الجرمية.
ومن ثم فالمجرم لا يمكن أن يكون معنيا بالوسيلة التي يرتكب بها جريمته، ولا يمكن أن يقيم للاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية أدنى وزن، وما شاهدناه وشاهده العالم بأسره، منذ ثمانية أشهر من استهداف للمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والاحياء السكنية.
وما ترتب على تلك الأفعال الاجرامية من دمار وقتل وجرح وتشريد وتهجير بمئات الألاف، كل ذلك يؤكد أن الكيان الصهيوني مجرم وشركائه مجرمون، وأنه وإياهم، لا يمكن أن يوصفوا بأنهم محاربين، وأنهم في حالة حرب، بل جميعهم في حالة اشتراك في اقتراف أفعال جريمة إبادة جماعيه، وفقا لما نصت عليه قبل قرابة ثمانية عقود من الزمن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وإذا كان واضحا أن ما يحدث في غزة ليس حالة حرب، باعتبار أن للحرب أخلاقياتها، التي تمنع المتحاربين من المساس بما هو متعارف عليه، ومتفق عرفا وقانونا على عدم المساس به، كما هو الحال بالنسبة للأعيان المدنية شاملا ذلك الأحياء السكنية والمدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات، ووسائل النقل، ومخازن الغذاء والدواء، والامتناع عن استخدام الحصار والتجويع كوسيلة من وسائل الحرب، بهدف إخضاع الطرف الاخر، أو فرض خيارات استسلاميه عليه، وعدم تعريض حياة من لا يشتركون في العمليات القتالية للخطر.
وإذا كانت كل الالتزامات التي يتوجب على المتحاربين وفقا لأحكام القانون الدولي عدم المساس بها أو انتهاكها، فإن ما هو واضح في غزة وضوحا لا لبس فيه ولا غموض، أن الأفراد الذين لا يشتركون في العمليات القتالية، تعرضوا وهم بعشرات الآلاف للقتل والجرح، بل والأطفال كذلك في مختلف الاعمار، حتى الخدج في حاضنات الأطفال، وذات القول ينطبق على قتل الالاف النساء وكبار السن، وما رافق كل ذلك من تدمير لكل مقومات الحياة في قطاع غزة، وقتل الالاف جوعا وعطشا، والالاف فتكت بهم الامراض والاوبئة، بسبب الحصار، ومنع دخول الماء والغذاء والدواء.
وإذا كان ذلك كذلك، والواقع يؤكد أن بما لا يدع مجالا للشك، أن ما حدث ويحدث في غزة جريمة إبادة جماعية، وليس حالة حرب، وأن من يقترف أفعال تلك الجريمة، ومن يشترك معه في اقترافها مجرم، وليس محارب، وإذا كانت القيم دينية واخلاقية وإنسانية، هي من تمنع المحارب من ارتكاب ما لا يتفق مع اخلاقيات الحرب، فإن المجرم بوصفه متجردا من أي قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية، لا بد من قوة تمنعه، وتردعه، وتقمع سلوكه الاجرامي.
أما بغير ذلك فإنه سيتمادى في أفعال جريمته متجاوزا كل الحدود، بسبب شعوره بنشوة القوة الغاشمة، ولا دراكه لضعف الضحية، والمجرم في جريمة الإبادة الجماعية في غزة، ليس الكيان الصهيوني بوصفه المباشر لأفعال هذه الجريمة، بل تنسحب صفة المجرم أيضا على الإدارة الامريكية، والحكومة البريطانية، وغيرهما من حكومات الدول الغربية المساندة للكيان الصهيوني، ولو بالموقف السياسي، ناهيك عن توريد الأسلحة والمعدات العسكرية، وتدفق الأموال.
وبذلك فإن هدف الوساطات العربية، قطرية ومصرية، والغربية بزعامة الإدارة الامريكية، هو توفير مساحات من الوقت الكافي للمجرم لاستكمال فصول جريمته، والملاحظ أن الوسيط الغربي تحديدا الأمريكي، يجمع بين صفتي الوسيط والشريك في الجريمة، بل إن دوره بوصفه شريكا في الجريمة يفوق دور الفاعل المباشر فيها، باعتبار أن هذا الفاعل يمكن أن يمثل أداة قتل بيد الإدارة الأمريكية.
ولولا تشجيع واسناد ودعم وتمويل واصرار هذه الإدارة، ما تجرأ الكيان الصهيوني على الاستمرار في جريمته بكل تلك الوحشية، ولا يختلف دور الوسيط العربي القطري أو المصري، عن دور الوسيط الأمريكي في إكساب المجرم وقتا إضافيا، لاستكمال تنفيذ فصول جريمته، ومن حيث المبدأ، فإن تقديم أي نظام عربي نفسه وسيطا في ظل ارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق شعب يرتبط مع شعبه برابطة الدين والعروبة والتاريخ والمصير المشترك، فذلك أمر مخجل ومهين ومخزي .
وبداهة لا تكون الوساطات كما ذكرنا أنفا إلا بين طرفين متكافئين أرهقهما النزاع المسلح، ولم يتمكن أحدهما من الفتك بالأخر أو سحقه أو هزيمته وإجباره على الاستسلام، بمعنى ان أفعال كل من طرف مؤلمة للطرف الاخر ومرهقة له، ومؤثرة عليه، وهنا يمكن أن يكون للوساطات جدوى، لكن في حالة جريمة الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، لا أساس أصلا لمسمى الوساطات، وإن كان ما يصدر عن المقاومة من عمليات تجاه الكيان المحتل.
إنما تندرج ضمن حق الشعب في مقاومة الاحتلال، ولا يمكن أن يقارن أثر هذه العمليات بعمليات جيش الاجرام الصهيوني وشركائه، وإذا ما كان لمقاومة هذا الشعب من تمثيل خارج حدود أرضه المحتلة، فإن هذا التمثيل وكما هو واضح، خاضع لضغوط الوسيط العربي المصري والقطري، ومن ثم فإن مقاومة الشعب الفلسطيني لا تواجه أفعال وضغوط مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية، بل إنها تواجه أيضا ضغوط الوسيط العربي، التي تنصرف نتائجها لخدمة مرتكبي الجريمة.
وخلاصة القول أن الترويج لوساطات عربية أمريكية غربية – لم تحقق شيئا منذ ثمانية أشهر- لا يعدو عن كونه حجز مساحات من الزمن، يمنحها من يسمون أنفسهم بالوسطاء للفاعل المباشر لجريمة الإبادة الجماعية، لاستكمال فصول جريمته، وأن الأدوار التي يلعبها الوسطاء، هي أدوار زائفة مكشوفة، هدفها صرف نظر الرأي العام عن جريمة الإبادة الجماعية، وتضليله من خلال إبراز أدوار وهمية زائفة، لوسطاء مخادعون مجرمون يصورون أنفسهم أنهم يبذلون جهودا متواصلة لإيقاف ما يسمونه -كذبا وزورا-.
حالة الحرب القائمة في قطاع غزة، وغايتهم من ذلك التأسيس لتوفير الحماية للكيان الصهيوني وتحميل فصائل المقاومة مسؤولية الجريمة وطمس حقيقة وجود طرف واحد في الاحداث قوامه الكيان الصهيوني الفاعل المباشر لجريمة الإبادة الجماعية، وشركاء أساسيين في اقترافها، بدونهم ما كانت أفعال الإبادة يمكن أن تبدأ، ناهيك أن تتتابع هذه الأفعال وتستمر!