نص الدرس الخامس من دروس حكم أمير المؤمنين علي عليه السلام للسيد القائد 6 ذو الحجة 1445هـ 12 يونيو 2024
نص الدرس الخامس من دروس حكم أمير المؤمنين علي عليه السلام للسيد القائد 6 ذو الحجة 1445هـ 12 يونيو 2024
يمني برس- محاضرات قائد الثورة
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
يقول أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” في خطبةٍ له:
((أَمَّا بَعْدُ))، وهو يتحدث إلى الناس، ((أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُم، فَالحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِي لَهُ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى العِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ، تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ المَزِيدِ أَهْلُهُ.
ثُمَ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الحُقُوقِ: حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةُ، فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، أَعَزَّ الحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدُّولَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ، وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الوَالِي بِرَعِيَّتِهِ؛ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الجَوْرِ، وَكَثُرَ الإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ؛ فَعُمِلَ بِالهَوَى، وَعُطِّلَتِ الأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ العِبَادِ.
فَعَلِيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحدٌ- وَإِنْ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللَّهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي العَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَاعَةِ لَهُ، وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ: النَّصِيْحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الحَقِّ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ امْرُؤٌ- وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلَا امْرُؤٌ- وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ العُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ…)).
هذا هو جزءٌ من خطبةٍ لأمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام”، وتضمنت طرحاً مهماً جداً، وحقائق، وقواعد، وأسساً، تتعلق بالمسؤولية العامة والشأن العام، وهي أسس مهمة جداً، ومن المهم الوعي بها، والاستيعاب لها، والاستفادة منها في مقام العمل، وفي مقام الالتزام، والمدخل- بنفسه- هو مدخلٌ مهم، تحدث عن حقه من موقع الولاية، من موقع ولاية الأمر، ولكن ليس كما يفعل البعض.
كثيرٌ من الناس إذا كانوا في موقع سلطة، حتى وإن لم يمتلكوا الشرعية فيما هم عليه، فهم يحاولون أن يرسخوا في الذهنية العامة ما يتعلق بهم، وما يطلبونه من الناس تجاههم، يريدون من الناس الخضوع التام، الطاعة المطلقة، الاستجابة لهم في كل ما يشاءون ويريدون، ولا يتحدثون ولا يلتفتون إلى ما هو عليهم، وما يلزمهم، وما يتحملونه هم من المسؤولية تجاه الناس، فيكون الأسلوب لدى الكثير ممن منهم في موقع السلطة هو أسلوب يجتزئ المسؤولية، ويُحَمِّل الناس كل شيء، ويقدِّمون أنفسهم وكأنه ليس عليهم مسؤولية تجاه الناس، ولا حقوقاً تجاه الناس؛ أمَّا أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” فهو يتحدث بمنطق الإسلام.
منطق الإسلام يربط المسألة أولاً بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هنا تتحدد الحقوق والمسؤوليات على أساس ما حددها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا أول مبدأ، وهو مبدأٌ مهمٌ للغاية، مهمٌ للغاية، نحن كأمةٍ مسلمة، ننتمي للإسلام، هويتنا إسلامية، انتماؤنا للإسلام، نحن ينبغي أن ننطلق في فهم شأننا العام، والمسؤوليات العامة، والعلاقات المرتبطة بها، بناءً على هذا المبدأ العظيم والمهم: أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في نهجه، في تعليماته، في قرآنه وعلى لسان نبيه “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، قد أنجز لنا هذه المسألة، لم تعد مسألة تعود إلى هوى أنفسنا، وإلى اختراعات أنفسنا، وإلى تقديراتنا، وإلى كيف نتنازع عليها فيما بيننا، المسألة محسومة، منجزة، وممن؟ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي له حق الربوبية، هو ربنا، وملكنا، وإلهنا؛ ولذلك هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد حدد لنا ما يتعلق بهذه المسألة المهمة، حدد، ووضح، وشرع، وبيَّن المسؤوليات والحقوق، حقوقاً يترتب عليها مسؤوليات، وتحدد هي طبيعة العلاقات فيما بين المجتمع، سواءً من هم في موقع المسؤولية، أو من هم أيضاً في إطار المسؤولية العامة من حيث هي مسؤولية إيمانية.
ولهذا قال: ((فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ))، يأتي هنا للحديث عن ماذا؟ عن الحقوق، وما يترتب عليها المسؤوليات، كما قدَّمها الله وشرعها وجعلها، الحقوق المرتبطة بولاية الأمر، الحقوق على المسؤولين، والحقوق على المجتمع، ولكن على أساس هذا المبدأ، وفق ما شرعه الله وحدده الله، هي حقوق متبادلة، ويترتب عليها مسؤوليات مشتركة، فليست المسألة أن المجتمع عليه هناك لوحده حقوق، والتزامات، وأعباء، يتحملها تجاه المسؤولين، والمسؤولون هناك في حالة ليس عليهم لا مسؤوليات ولا حقوق؛ إنما يتجهون دائماً للضغط على المجتمع، والمطالبة له، وتحميله الأعباء، وهم هناك كأنه ليس عليهم التزامات تجاه المجتمع.
المسألة هي كما قدَّمها أمير المؤمنين، قال: ((فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ))؛ لأنَّه مرتبط بمسؤولية، ومرتبط بمهمة معينة، هذا الحق بنفسه هو حق ارتبط بتلك المهمة، وهي: ولاية الأمر، وهذه المهمة تتطلب أن يكون هناك: استجابة، التزام، طاعة، في إطار تنفيذ ما يرتبط بها من مسؤوليات، وأداء ما يرتبط بها من حقوق، ووفق ما شرعه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لعباده.
هذه ضوابط مهمة جداً، لأن المشكلة تأتي في التعامل بعيداً عن كل هذا، تعامل وفق هوى النفوس ووفق ما يُقدم من الآخرين من خارج الإسلام، ومن خارج شرعه ونهجه، الآفات والمشاكل والعلل تأتي من هناك.
((وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُم، فَالحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ))، أوسع الأشياء في الحديث عنه، في وصفه، كثيرٌ من الناس يتحدث عن الحق حديثاً رائعاً، بل والكثير من الناس يدَّعون- بالرغم من ما هم عليه من باطل- أنهم على حقّ، ويعترفون بالحق في الكلام، في القول، ويحاولون أن يقدِّموا- كما قلنا- ما هم عليه أصلاً من الباطل حتى في لباس الحق، على مستوى الكلام، الكثير من الناس يقولون، وقد يحسنون فيما يقولون، قد يعبِّرون بتعبيرات رائعة وجميلة، عن مواضيع بمنطق الحقِّ فيها، ولكن على مستوى العمل والالتزام لابدَّ، لا يكفي الكلام، لا يكفي الكلام الجميل والرائع، والكلام بالحق عن التزامات ومسؤوليات ومهام وحقوق معينة؛ إنما يأتي الموضوع إلى الالتزام العملي، والتطبيق العملي، يعني المسألة مهمة جداً، ((وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ))؛ لأنَّه لابدَّ من الالتزام العملي، والكثير من الناس يتهربون عندما تكون المسألة متعلقة بالالتزام العملي.
((لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ))، وهذا مبدأ مهم أيضاً، من المبادئ المهمة المتعلقة بمسألة ولاية الأمر، وإدارة شؤون الأمة، والمسؤولية العامة: مبدأ الحق لك وعليك، وعليك، وأن يكون لدى الجميع: الإنسان وهو في موقع المسؤولية في منصب معيَّن، والإنسان في إطار المسؤولية العامة كمؤمن، في إطار الأمة، أن يكون لديه تَقَبُّلٌ وإيمانٌ والتزامٌ بهذا المبدأ، أن يقبل بالحقِّ ليس فقط له؛ وإنما أيضاً وعليه.
هذا المبدأ إذا التزم به الناس، وتوسعت دائرة الالتزام به؛ تترتب عليه نتائج مهمة وكبيرة، واستقامة في الأمور؛ لأنَّه– وللأسف الشديد- الكثير من الناس هو فيما يتعلق به يريد الحق، ليس فقط هذا، وأكثر من الحق، فيما يتعلق به هو يريد الحق وأكثر من الحق، يعني: لا يكتفي بالحق فقط؛ ثم على نفسه، وفيما عليه، لا يريد أن يعطي الحق، ولا أن يلتزم بالحق فيما عليه؛ إنما فيما له لا بس، وقد يتجاوز الحق، قد يكون يريد أكثر منه.
فهذا المبدأ: الالتزام، والقبول، والإيمان بالحق لك وعليك أيضاً، هذا شيء مهم جداً، ويساعد على استقامة الناس عملياً، في إطار مسؤولياتهم العامة، ومعاملاتهم، وشؤونهم، إذا انطلقوا وفق هذا المبدأ، كم سيتخلصون من المشاكل، مشاكل كثيرة يتخلصون منها، ويستقر حالهم، وتنجز معاملاتهم، وتستقيم أمورهم، وتصلح شؤونهم، هذه مسألة مهمة جداً.
ولترسيخ هذا المبدأ يقول: ((وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِي لَهُ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى العِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ، تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ المَزِيدِ أَهْلُهُ))، وهذا درس عظيم جداً، ومهم، ويبيِّن سوء حالة الإنسان الذي يتعنت تجاه ما عليه من الحق.
أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَام” يقول: إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو في عظيم مقامه “جَلَّ شَأنُهُ”، هو الربّ، هو الإله، هو الملك، يعني: علاقتنا به من موقع أننا عبيدٌ له “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنه المتفضل علينا بالنعم، والمبتدئ لنا بالنعم، ومع كل ذلك، مع أنه ربنا، وإلهنا، وملكنا، والمبتدئ لنا بنعمه العظيمة، الواسعة، التي لا تحصى، مع ذلك جعل هو، تفضلاً منه، وليس لأنَّه يلزمه، أو أن أحداً سيضايقه، أو يؤاخذه، أو ينازعه، أو يجبره، أو يؤذيه، يتمكن من الحاق الضرر به، لا، جعل “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جعل جزاء العباد، جعل هذا على نفسه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في كتابه الكريم، في آياته، يتخاطب معنا بهذه اللغة، وكأن ذلك عليه، عندما يقول “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}[التوبة: من الآية111]، وعندما يقول: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل: الآية12]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]، يُقدَّم المسألة وكأنها حقوق عليه، يُقدِّم في التأكيد على وعده وكأن المسألة التزام عليه، ومسؤولية عليه، وكأن المسألة حقّ عليه مستحق، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}[التوبة: من الآية111]، ومن أوفى بعهده من الله، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[البقرة: من الآية40]… وهكذا كثير في القرآن الكريم، يتخاطب الله مع عباده بهذا المنطق، في تأكيد وعده بما وعدهم به، مع أنه متفضلٌ ومحسنٌ، في واقع الحال ليس هناك حقوق لهم على الله، هو المنعم عليهم ابتداءً، المتفضل عليهم ابتداء بعظيم النعم، ومع ذلك هكذا تعامل مع عباده.
فلماذا الإنسان، وهو عبد مع بقية العباد، يريد أن يتعنت فيما عليه من الحق، يريد أن يكون له الحق، لكن أمَّا فيما هو عليه لا يريد أن يستجيب ولا أن يلتزم؟ معنى ذلك: حالة رهيبة من التكبر، والعناد، والظلم، والبعد عن الإنصاف.
((ثُمَ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ))، ونجد أهمية أيضاً هذا التعبير؛ لأنَّه يقدِّم المسألة في إطار التقديم الإسلامي والقرآني، وليس وفق منطق الآخرين، الذين يفترضون أن ينفصل الإنسان في مسيرة حياته وشؤون حياته عن هدي الله، وعن تعليماته، وعن نهجه، يحاولون أن يفصلوا الناس عن منهج الله، وعن رسالته، ورسله، وكتبه، وتعليماته، وهديه، وأن يربطوهم بما تقدِّمه جهات أخرى: جهات ضلال، جهات باطل، جهات شر، جهات مستغلة، ضالة مضلة.
هنا يقول: ((ثُمَ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ))، فهي امتداد لحق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفرعٌ عن حقوق الله على عباده، ليست منفصلةً عن ذلك، هي أولاً باعتبار أنه شرعها، وفرضها، فهي حقٌ بهذا الاعتبار، وباعتبار أيضاً أنها مترتبة على التدبير الإلهي في شؤون الناس.
ولهذا لو نأتي– مثلاً- من أول نطاق لهذه الحقوق، على المستوى الشخصي والأسري، علاقة الإنسان بوالديه، هذه العلاقة يرتبط بها جانبٌ يعود إلى التدبير الإلهي، في التكوين، والخلق، وما يتفرَّع عنه، وأيضاً جانبٌ آخر هو: التشريع الإلهي، والتعليمات التي أتتنا من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنت ترتبط في علاقتك بوالديك ارتباطاً يتعلق بنشأتك، بوجودك في هذه الحياة، الله أوجدك منهما، من أبيك وأمك، وتعلَّق بذلك أمور عملية، أمور تتصل بهما في حياتهما، في واقع حياتهما، في ظروف حياتهما، في أنفسهما، وأبدانهما، وظروف حياتهما، وواقعهما، وارتبطت بذلك حقوق معينة، هكذا علاقتك في محيطك الأسري، في محيطك الاجتماعي، لها جانب يرتبط بالتدبير الإلهي المتعلق بحياة الناس، بوجودهم، بظروف حياتهم، بمعاملاتهم، بمصالحهم، ويأتي الجانب التشريعي مرتبطاً بذلك، وليس منفصلاً عنه، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جعل تشريعه مرتبطاً بالتكوين وبالتدبير المتعلق بمجريات الحياة، وظروفها، وظروف حياة الإنسان فيها، فهذه مسألة مهمة جداً.
لكن عندما نأتي إلى المسؤولية العامة في أهميتها، أهميتها التي تؤثِّر على بقية شؤون الناس، تؤثِّر عليهم حتى في ظروفهم الأسرية، إلى داخل بيوتهم، إمَّا في عدلها، وإمَّا في جورها، في ظروف العدل والخير والحق، تمتد آثار هذه إلى حياة الناس حتى في داخل بيوتهم، وفي الحالة المعاكسة، تمتد أيضاً الآثار السيئة إلى داخل بيوتهم، إلى كل شؤون حياتهم.
((ثُمَ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ))، ولهذا- مثلاً- فيما يتعلق بالوالدين، يقول الله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء: من الآية24]، {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، دورهما، إسهامهما، معاناتهما، ما قدَّماه لك، هذا قابله حقٌّ عليك، وهكذا هي هذه القاعدة، وهذا المبدأ المهم: أنَّها حقوق يقابلها حقوق، وتتفرع عنها مسؤوليات مشتركة.
((وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الحُقُوقِ: حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي))؛ لأن لها تأثيرها الكبير في الواقع بكله، في شؤون الناس بكلها، في مختلف شؤون حياتهم، وهي تتعلق بمهمة أساسية في حياة الناس: ولاية أمرهم، وإدارة شؤونهم، تتعلق بهذه المهمة؛ ولذلك تأثيرها عليهم في واقعهم تأثير كبير، في وضعهم الأمني، الاقتصادي، الديني، الثقافي، الفكري… في كل مجالات الحياة، تأثيرها عليهم، أو تأثيرها إيجاباً لهم كبيرٌ جداً، ومهمٌ جداً.
فهنا يقدِّم المسألة متكافئة، ((حَقُّ الوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ))، يعني: في إطار تلك المهمة نفسها، ((وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوَالِي))؛ حتى لا يفكر بأنه هناك له حقوق، ومشغول أن يُقدِّم على الناس التزامات وأعباء، ثم لا يلزمه شيءٌ تجاههم، وليس عليه مسؤولية تجاههم.
((فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ))؛ ولهذا ترتبط هذه المسؤولية باعتبار أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي فرضها، ووفق ما فرضها، وفق ما فرضها، لا تأتي المسألة أن يقدِّم الإنسان هو من تلقاء نفسه، ووفق هوى نفسه، حقوقاً يقدِّمها خارجةً عن ما شرعه الله، وعن ما حدده الله، مثل ما هي الحالة التي يحاول الغرب الكافر أن يخترق بها مجتمعنا الإسلامي، فيأتي تحت عنوان الحقوق، ليقدِّم قائمة طويلة عريضة مما يخالف أصلاً الحقوق الحقيقية، ويخالف التشريعات الإلهية، يخالف التعليمات التي أتتنا من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيجعل ممارسة الجرائم، والرذائل، والمفاسد، تحت عنوان (حقوق)، وتحت عنوان (حريات)، والحريات حقوق، ويجعل مسألة انسلاخ المرأة من أسرتها، ومن دينها، ومن قيمها، ومن أخلاقها، يجعل هذه في إطار مسألة الحقوق… وهكذا.
ولهذا تُضبط هنا مسألة الحقوق بهذه الضوابط الإيمانية القرآنية، بما شرعه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وحدده؛ لأنَّه هو الحق، هو الحق فعلاً، مع عداه إنما هي مهزلة، يقدِّمون مفاسد تحت عنوان حقوق، مفاسد تشكِّل خطورة على الناس في أنفسهم، في دينهم، في زكائهم، في إنسانيتهم، في أمنهم، في وضعهم الاجتماعي… في كل شؤونهم، مفاسد يفسدون بها حياة الناس، ثم يقدمونها تحت عنوان حقوق، مفاسد تفكك المجتمع تحت كل العناوين، تبعثره، تمزقه، تثير الفتن فيه، تغرقه بالمشاكل، والنزاعات، والخلافات، والصراعات، ثم يقدِّمونها تحت عنوان حقوق.
فهذه المسألة مسألة مهمة: أن يكون لدى الناس فهم ما هي الحقوق، وما هي الالتزامات، وما هي المسؤوليات المترتبة عليها، على الوالي، وعلى المجتمع، على المسؤولين وعلى بقية المجتمع، وما هي المسؤولية العامة التي هم جميعاً معنيون بها، في إطار تكامل الأدوار؛ لأنَّه في منهج الإسلام ليست المسألة أنك هناك مواطن، ليس عليك مسؤولية، الكل في إطار مسؤولية، الكل في إطار مسؤولية الاستخلاف في الأرض، ومسؤوليات مقدَّسة، مسؤولية إقامة القسط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النساء: من الآية135]، هذه مسؤولية للجميع، للمجتمع والمسؤولين، الكل في إطار مسؤولية واحدة؛ وإنما تتكامل الأدوار فيما بينهم، وتتحدد مستويات هذه المسؤولية، وكذلك يتحدد داخلها اختصاصات معينة، وفق مواصفات والتزامات ومؤهلات معينة، وإلَّا فالأصل مسؤولية واحدة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}[المائدة: من الآية8]، مسؤولية عامة على الجميع، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية104]، مسؤولية عامة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ}… وهكذا، حتى الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحدود والعقوبات، تخاطب المجتمع المسلم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة: من الآية178]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}[المائدة: من الآية38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور: من الآية2]، فيأتي الخطاب باعتبارها مسؤولية جماعية وعامة، ولكن بشكلٍ منظم، هذه المسؤولية تتكامل فيها الأدوار، في إطار هذه المسؤولية هناك اختصاصات معينة، وفق مؤهلات معينة، جهات تُعنى بجوانب معينة، أمور تترتب عليها- مثلاً- مسائل قضائية، تُفصَل أولاً في الجانب القضائي، جهات محددة معنية بتنفيذ مهام محددة، فيأتي توزيع هذه المهام، وضمن هذه الأدوار التي تتكامل فيما بين الأمة، كأمة واحدة، في إطار مسؤولية ومهام تتحرك فيها بشكلٍ منظم.
((فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ))، فهناك حقوق على الجميع، تترتب عليها مسؤوليات عليهم، على الوالي، والمسؤولين، وعلى بقية المجتمع.
((فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ))، هذه الحقوق، وما يترتب عليها من مسؤوليات، إذا اتَّجهوا جميعاً على أساسها، وللالتزام بها، ووفق تعليمات الله وهديه، هذا له نتائج عظيمة جداً، أولاً: الألفة فيما بينهم، والاستقرار الشامل: استقرار سياسي، استقرار اقتصادي، استقرار أمني، جواً تعاونياً مريحاً، جواً بعيداً عن الكراهية، والنزاعات، والصراعات، والمشاكل الداخلية، بل قائماً على أساسٍ من الوعي بتلك المسؤوليات، والالتزام بها، والتعاون على أدائها، فيكون الجو جواً رائعاً جداً، يسوده الاستقرار، تتحقق في النتائج العظيمة للأمة، تنهض، تنهض في كل شؤونها، تستطيع أن تنهض اقتصادياً، تستطيع أيضاً أن ترتقي في نظامها، نظامها الاجتماعي، نظامها في كل المجالات المهمة، تنتظم كل الأمور، يساعد على انتظام كل الأمور.
((فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ))، الأمة تعتز؛ لأنَّه ينتظم لها التزامها بدينها، وباعتزاز بهذا الدين، والتزام، وبهيمنة لقيمه ومبادئه وأخلاقه؛ وبالتالي تظهر ثمرة هذا الدين، الذي هو لمصلحة الحياة، دين الله هو للناس في حياتهم، ويترتب عليه جزاء الآخرة، ولكنه يتَّجه أصلاً إلى حياة الناس، لصلاح حياتهم في كل مجالات حياتهم.
((فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ))، نعم، إذا كان الولاة سيئون، المسؤولون سيئون، فاسدون، ظالمون، مجرمون، فلا يمكن أن يصلح واقع الرعية، واقع المجتمع؛ لأنَّ تأثيرهم في واقع المجتمع في كل المجالات سيكون تأثيراً سيئاً، ظلمهم، فسادهم، إجرامهم، إهمالهم، عبثهم، استهتارهم، ينزل ويمتد إلى حياة الناس في كل شيء، إلى حياة الناس في كل شيء، فلو حاولت الرعية، حاول المجتمع أن يصلح مع خراب المسؤولين وفسادهم، لا يتمكن من ذلك؛ لأنَّهم يتدخلون في شؤونه، هم يتحركون من موقع إدارة شؤون المجتمع، فيديرونها هم بما يأتي إليها بالخراب، بالاختلال، بما يحول دون صلاحها، وسياساتهم أصلاً، عادةً إذا كانوا فاسدين، وسيئين، وظالمين، غير جديرين بالمسؤولية، سياساتهم تكون سياسات خاطئة، يحرصون من خلالها على تعزيز نفوذهم، وإحكام سيطرتهم، ويتَّجهون إلى المجتمع في ذلك، كيف يسيطرون عليه، كيف يتحكمون به، كيف يديرون شؤونه بما يعزز مصالحهم هم الشخصية بعيداً عن مصالح المجتمع، فيلعبون في واقع المجتمع، فلا يستقيم أبداً صلاح حياة المجتمع، مع فساد وخراب المسؤولين، حتى لو كان لدى أحد أو جهة معينة فكرة أنه يتَّجه إلى صلاح واقع المجتمع مع الإعراض عن واقع الدولة والمسؤولين؛ فلا يمكن، لا يمكن ذلك، لا يتحقق.
((وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةُ))، وكذلك إذا كان هناك ولاة عندهم اهتمام واتجاه إيجابي لأداء مسؤولياتهم، وأداء ما عليهم من الحقوق، ولكن هناك في واقع المجتمع حالة من عدم الاستقامة، وهذه أيضاً حالة سلبية جداً، وتفشل أي مساعٍ لإصلاح الأمور، إذا كان المجتمع في واقعه مجتمعاً ليس عنده تفهُّم، ولا استجابة، ولا وعي، ولا التزام بما عليه من مسؤوليات وحقوق، فالحالة السائدة في واقعه حالة تعنّت، وعدم التزام، وعدم استجابة فيما ينبغي عليه أن يستجيب فيه، أن يلتزم به، في إطار الحق، والحقوق، والمسؤوليات، هذا أيضاً يعيق صلاح الواقع؛ لأنَّه ينتج عنه أن يكون هناك دولة ضعيفة، أو حكومة ضعيفة، عاجزة، لا تستطيع أن تتحرك في المجتمع في أداء مسؤولياتها تجاه المجتمع، بما هو مصلحة للمجتمع؛ لعدم تجاوب المجتمع، إذا كانت لا تحظى بالمساندة من المجتمع.
الحالة الإيجابية والناجحة: عندما يكون هناك ولاة صالحون، يتَّجهون لأداء مهامهم في خدمة المجتمع، ولمصلحة المجتمع، وتجاه المجتمع، بتجاوب من المجتمع، باستجابة، بتعاون، بتفاهم، بمساندة شعبية، هنا يمكن أن يتحقق نجاح كبير، لكن إذا كان هناك- مثلاً- حكومة ضعيفة، المجتمع يتعنَّت عليها، ولا يستجيب لها، يفشل خططها، تظهر في واقع المجتمع جهات وشخصيات وتكتلات، إمَّا ذات طابع اجتماعي، أو ذات طابع سياسي، أو عصابات، تتحرك في الساحة لفرض أجندتها ومصالحها الضيِّقة المحدودة بها، التي تضر بالمجتمع من حولها، وينتشر الخلل الكبير في الساحة، ثم لا تستطيع الحكومة، أو أولئك المسؤولون لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً في الساحة، لا يتمكنون من أبسط الأمور، يريد- مثلاً- أن ينظم واقع الناس في تخطيط حضري؛ يواجه عراقيل، وإعاقات، وامتناع في الساحة، في المجتمع، من المجتمع، يريد- مثلاً- أن يرسِّخ قواعد العدل، وأسس العدل، ويمنع التظالم؛ فتظهر تكتلات اجتماعية تُعارض، وتُحارب، وتمتنع، وتنطلق وفق هوى نفسها لتفرض أو تتعامل مع الأمور مثل ما تشاء وتريد، وهذا كثيراً ما يحصل في بعض المجتمعات، وتتحول الحالة الشعبية إلى حالة سلبية، حالة فوضى، فيها تكتلات، فيها شخصيات نافذة، تتحرك وفق أهواء أنفسها، تكثر النزاعات، والصراعات، والخلافات، والتنافسات، وتسود حالة الفوضى بين الناس، والتظالم، وتزداد حالة النفوذ هنا وهناك لشخصيات، وجهات، وتكتلات اجتماعية… أو غيرها، ففي مثل ظرفٍ كذلك، لا يمكن لأي دولة أن تنهض أبداً كدولة، دولة تنهض في نظامها، في اقتصادها، في استقرارها الداخلي، في انتظام أمورها؛ لأنَّه ليس هناك قيام بالواقع بأداء المسؤولية من جانب الدولة، مع تمكين لها؛ لتكون هي التي تؤدِّي هذا الدور في أن تعطي الحق للناس، ولكلٍّ منهم تعطيه الحق في ما له من الحق، وتأخذ له ما له من الحق، فتستقر حياة الناس، وتتوازن وتستقيم أمور المجتمع، بدلاً من أن يتحول إلى مجتمع فيه فئات متصارعة، وفيه فئات مستضعفة، فيه فئات مضطهدة، وفيه فئات نافذة، تستحوذ وتفرض ما تشاء وتريد، ثم تنتشر حالة الظلم، حالة النزاعات، والاختلافات، والفوضى، والشتات، حالة لا يمكن أن تنهض فيها أي أمة، ولا أي شعب، ولا أي شعب.
البلدان التي يسودها الاستقرار، وتكون فيها حكومات قوية، متمكِّنة، تحظى بالتأييد الشعبي، والمساندة الشعبية، ووعي من المجتمع بمسؤولياته، وما له، وما عليه، وانسجام في أداء هذا الدور، المسؤولون يؤدون ما عليهم تجاه شعبهم، والشعب يؤدي ما عليه تجاه كذلك تجاه ما هو لخدمته ولمصلحته؛ لأنَّ المهام المتعلقة بالدولة هي مهام لخدمة الشعب، والمسؤولون عليهم أن يؤدوا هذه المهام التي هي لخدمة الشعب، يعني: ليس هناك أمور شخصية، وحسابات شخصية، أو نظرة شخصية، أنك تؤدي ما عليك تجاه ذلك المسؤول للمسؤول شخصياً، بل لمهمته التي هي لك، وتتعلق بك، تتعلق بخدمتك، وبمصلحتك كمجتمع؛ فالبلدان التي تستقر فيها هذه الحالة تنشأ، تنهض، تتحول إلى دول قوية، متمكنة، ذات واقع مستقر، يتمكن الناس من النهوض فيه، تتحرك فيها الطاقات للمجتمع بشكل هائل وواسع، تسودها أيضاً حالة الرضا، حالة الاطمئنان… وهكذا، الإيجابيات كبيرة جداً.
الموضوع فيه الكثير من النقاط المهمة، ونتحدث- إن شاء الله- كذلك في المحاضرات القادمة باختصار على بعض النقاط المهمة المتبقية.
نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛