جريمةُ غزة والتأثيراتُ السلبية لوسائل الإعلام العربية
جريمةُ غزة والتأثيراتُ السلبية لوسائل الإعلام العربية
يمني برس- بقلم د. عبدالرحمن المختار
دورُ الإعلام مهمٌّ جِـدًّا، سواءً في ما يتعلَّقُ بكشف حقائق وملابسات الأحداث والوقائع، وإبرازِها للرأي العام بشكلٍ واضحٍ؛ لتتحدَّدَ بناءً على ذلك المواقفُ من تلك الأحداث والوقائع.
ودورُ الإعلام كذلك مهمٌّ في الجانب السلبي المتعلِّق بالتضليل، وصرفِ الأنظار عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع؛ ولذلك يُعَــدُّ الإعلامُ سلاحًا ذا حَدَّينِ، فإمِّا أن يُبصِّرَ الرأيَ العام، وإمَّا أن يُضَلِّلَه، ويتحدَّدُ دورُ الإعلام في الحالتَينِ، بمدى مهنية ووطنية وانتماء منتسبيه لدِينهم وأمتهم، وإيمانهم بحق شعوبهم في الدفاع عن قضاياها المصيرية.
وينقسمُ الإعلامُ العربي بالنسبة لحالة غزةَ إلى ثلاثةِ أقسام:
القسمُ الأول: الإعلامُ المقاوِم:
له دورٌ مهمٌّ في إسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، في مواجهتهم للقوى الإجرامية الصهيوغربية، ورغم أهميّة هذا الدور، فَــإنَّه لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وأعتقد أن السببَ في ذلك لا يتعلق بمهنية ووطنية وانتماء منتسبيه، وإيمانهم بواجب الدفاع عن قضايا أمتهم، فذلك لا غبار عليه، وإنما يرجع السبب إلى قصور معرفي، أثَّر بشكل كبير على أداء مؤسّسات الإعلام المقاوم في خدمة قضايا الأُمَّــة، تحديدًا قضية الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ إذ تتصفُ نسبةٌ كبيرةٌ من التناولات الإعلامية لهذا القسم بالسطحية، وليس المقصود هنا التقليل من شأن دور الإعلام المقاوم، بل محاولة التأشير على مَوَاطِن الخلل؛ لتجنبها والارتقاء بهذا الدور الإعلامي المهم؛ ليصل إلى مستوى الحالة في غزة.
ويبدو أن الاعتمادَ المبالَغَ فيه لبعضِ القنوات على الأخبار الجاهزة من وكالات أنباء أغلبُها تخدمُ القوى الإجرامية بشكل أَو بآأخر، أكثرَ من اعتمادها على التحليل العميق، لأدق التفاصيل المتعلقة بالأحداث والوقائع، والملاحظ أَيْـضاً أن بعض القنوات تستضيف عدداً من المشاركين لموضوعٍ محدّد، أحياناً لا يكون البعض منهم من ذوي الاختصاص في المجال محل المناقشة، فيقتصرُ النقاشُ على الجوانب العامة، وأحياناً أُخرى، يذهب المحاور بالنقاش بعيدًا عن موضوعه، إما لعدم إدراكه لأبعاد الموضوع، أَو عدم قُدرة المشاركين على تغطية الجوانب التفصيلية فيقتصرُ النقاشُ على المسائل الهامشية دون التطرق للجوهرية منها.
وتستخدم أحياناً في أغلب قنوات الإعلام المقاوم مصطلحاتٍ في غير محلها، وغير صائبة وغير دقيقة، قد يُبنى عليها مواقفُ محدّدة، ففي حالة غزة مثلًا يجري الحديثُ وتدور الحوارات، حول (الدعم الأمريكي المفتوح)، وحول (جرائم الحرب) وَ(الحرب على غزة)، وغيرها من العبارات والمصطلحات، ويعد استخدام الإعلام المقاوم لها في شأن غزة، استخدامًا غيرَ صائب وغير دقيق، ولو أن لدى رجال الإعلام معرفةً دقيقة كافية بالمصطلحات ومدلولاتها ومترتباتها، لَمَا استخدموا أيًّا منها في تغطيتهم لحالة غزة!
فحالةُ غَزَّةَ لا يمكنُ وصفُها بأي حال من الأحوال بأنها حالةُ حرب، لماذا؟؛ لأَنَّ الحربَ نزاع مسلح بين دولتَينِ أَو أكثر؛ بمعنى أن أطراف هذا النزاع المسلح، دول مستقلة ذات سيادة، وقد تكون متكافئة في القوة أَو قريبة من التكافؤ، ويلتزم كُـلّ طرف من أطراف النزاع المسلح، في عملياته العسكرية بالقانون الدولي، فلا يستهدف المدنيين، ولا الأعيانَ المدنية، ويراعي كُـلّ طرف مبدأ التناسب في عملياته العسكرية، وما يحدّد لها من أهداف، وما يمكن أن يحقّقَه استهدافُها من فائدة تعود عليه.
والواضح أن ما سبق لا ينطبق على الحالة في غزة، فلا توجد دولة في النزاع المسلح، مقابل دولة الكيان الصهيوني وحلفها الغربي الإجرامي، ولا أحد يستطيع أن يجازف بالقول: إن دولة مستقلة ذات سيادة، تقف في مواجهة ذلك الحلف، تمثل الطرف الآخر في النزاع المسلح! ولا أحد يستطيع أن يجازف وينكر أن الشعب الفلسطيني شعب محتلّة جميع أراضيه بما فيها قطاع غزة! وَإذَا كان الأمر كذلك فعلى من يصنف الحالة في غزة بأنها حرب، أن يفهم أن هذه الحرب لها طرف واحد فقط هو الحلف الصهيوني الغربي الإجرامي في مواجهة الشعب الفلسطيني.
ولا يصح القول مطلقًا إن الفصائل الفلسطينية المسلحة تمثل طرفًا في النزاع المسلح؛ فشرط تحقّق حالة الحرب أن تكون بين طرفين، وهذان الطرفان دولتان أَو دول مستقلة وذات سيادة، تملك كُـلٌّ منها وسائل الدفاع التي تملكها كُـلّ دولة، وعلى رأسها وزارة الدفاع أَو وزارة الحرب أَو الحربية، وأن يتوافر لها كافة وسائل ومنشآت التأهيل في المجال العسكري الحربي، والتدريب على كافة أنواع الأسلحة بشكل علني، وَإذَا ما نظرنا لحالة غزة فلا وزارة دفاع معلنة، ولا كليات ولا مراكز ولا معاهد تأهيل وتدريب محدّدة وواضحة للكوادر العسكرية.
وإذا ما كان الأمر كذلك، فَــإنَّ غزة وما في غزة، ومن في غزة مدني ومدنيون، ولا يجوز لتحالف الإجرام وهو يستهدف الأحياءَ السكنية، التذرُّعُ باستهداف مواقعَ قتالية أَو عسكرية، مع ملاحظة أنه لا يصح أن تسمى أَو توصف بأنها عسكرية، فما كان من أفراد ينتمون إلى فصائل المقاومة المسلحة وما بحوزتهم من أسلحة، وما لديهم من منشآت مستخدمة في مجال المقاومة، فهم وأسلحتهم ومنشآتهم لا ينطبق عليها مطلقًا مسمى الأهداف العسكرية؛ فمثل هذا التوصيف والتمييز بين الأهداف لا يكون إلَّا في حالة الحرب، التي هي نزاع مسلح بين دولتين أَو أكثر، وفي حالة غزة نحن لسنا بصدد حالة حرب؛ لأَنَّها ببساطة شديدة ليست نزاعًا مسلحًا بين دولتين! ومسألة حيازة فصائل المقاومة لوسائل قتالية لمواجهة الاحتلال، فذلك يعد حقًّا لأي شعب محتلّ، وَفْـقًا لأحكام القانون الدولي، ولا يجوز لدولة الاحتلال، وَفْـقًا للقانون الدولي أَيْـضاً المساس بحق الشعب في مقاومة الاحتلال، سواء سلميًّا أَو بوسائلَ قتالية، طالما أن الغايةَ هي جلاءُ الاحتلال عن الأراضي المحتلّة؛ فهذا حقٌّ مكفول، وممنوعٌ على دولة الاحتلال المساسُ به، وَإذَا ما تم المساسُ بهذا الحق، فذلك يعد انتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي، وكذلك ما يتشدَّقُ به تحالفُ الإجرام الصهيوغربي، حول وصف فصائل المقاومة بالقوى الإرهابية، وتسويغ وتسويق مشروعية القضاء عليها!
إذَن ما يجري في غزة ليس حربًا، بل جريمةُ إبادة جماعية، يقترفُ أفعالَها -بشكل مُستمرّ ومتتابع، منذ عشرة أشهر- تحالفٌ إجرامي صهيوغربي، باشر ويباشر كيان الإجرام الصهيوني أفعالها الإجرامية، وتوزعت على بقية القوى الإجرامية المشاركة في الجريمة، أدوار متعددة؛ فالإدارة الأمريكية شريكٌ محرِّض، وممول ومقدِّمٌ لمساعدة سابقة للجريمة ومعاصرة ولاحقة لها، وينطبق ذات القول أَو قريب منه على الحكومة البريطانية، وشاركت في الجريمة حكومات غربية أُخرى بأوصاف متعددة منها التحريض، والتمويل، والإسناد والتغطية السياسية، ومن عبارات التحريض العامة (نحن مع إسرائيل) (حق “إسرائيل” في الدفاع عن النفس) وهو ما ورد على لسان رؤساء الدول والحكومات الغربية الذين زاروا دولة الكيان الصهيوني عقب عملية 7 أُكتوبر.
ولا يصح أَيْـضاً وصفُ ما يجري في غزة بأنه جرائم حرب؛ فهذا الوصف غير دقيق؛ باعتبَار أن جرائم الحرب ترتبط ارتباطًا غير قابل للتجزئة بحالة حرب قائمة بين دولتين أَو أكثر، وقد أوضحنا أن وصف الحالة في غزة بأنها حالة حرب منتفٍ تماماً، وأن الثابتَ في حالة غزة أنها جريمةُ إبادة جماعية مستقلة بذاتها، ومقصودة لذاتها، والفرق بين جريمة الحرب وجريمة الإبادة الجماعية، أن الأولى يمكن تبريرُها بخطأ بشري، أَو اشتباه أَو ما شابه ذلك؛ كونها قد اقترفت أثناء تنفيذ عمليات عسكرية متبادلة بين طرفَي النزاع المسلح، أما الثانية وهي جريمة الإبادة الجماعية، فلا يمكن تبريرها؛ لأَنَّها مقصودة بذاتها، وعلى الإعلام العربي أن يتذكر جيِّدًا تصريحات كبار شاغلي المناصب العليا في دولة الكيان الصهيوني، إلقاء سلاح ذري على غزة، والقول إنهم يحاربون حيوانات بشرية، وغير ذلك من العبارات التي تؤكّـد أن جريمة الإبادة مقصودة من جانب قادة كيان الإجرام الصهيوني.
ويتردّد في عدد من القنوات العربية المقاومة عبارة (الدعم الأمريكي المفتوح)، وحقيقة هذا التوصيف غير دقيق واستمرار ترديده يخدم القوى الإجرامية، وينطبق هذا التوصيف بالنسبة للإدارة الأمريكية في دعمها المفتوح لأوكرانيا؛ باعتبَار أن الحالة فيها حالة حرب قائمة ومعلومة، طرفاها دولتان مستقلتان وذات سيادة وكُلٌّ منهما عضو في منظمة الأمم المتحدة، وطالما أن الدعم الأمريكي مرتبط بحالة حرب أطرافها واضحة ومحدّدة ومعلومة، فَــإنَّ الوصف السابق صحيح، ولا يصح ذلك الوصف بالنسبة للحالة في غزة؛ باعتبَار أن الحالة فيها جريمة إبادة جماعية، والمساهمة فيها بأي فعل أَو قول يعد مشارَكةً في الجريمة، ولا يسمى دعمًا مفتوحًا أَو مغلقًا!
فقد حدّدت اتّفاقيةُ منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، عددًا من الأفعال تستوجبُ العقابَ، الفاعِلُ المباشرُ للجريمة، والمحرّض، والشريك، والمعلوم أن الأمريكي حرَّض، وحمى ظهرَ الكيان المجرم، وغطّى الجريمة في مختلف المحافل الدولية، وقدَّم عشراتِ المليارات من الدولارات، ومئاتِ الأطنان من القنابل والصواريخ، ومختلف أنواع العتاد الحربي، والمعدات العسكرية، وهو يدرك يقينًا أن كُـلّ ما قدمه، يُستَخدَمُ في إبادة أبناء شعب محتلّ، أطفالًا ونساءً وشيوخًا، ولا يُستخدَمُ في الدفاع عن النفس في مواجهة جيشِ دولة عظمى!
ويكون الإعلامُ المقاوِمُ باستخدامه للمصطلحات والعبارات السابقة، قد خدم عن غيرِ قصد القوى الإجرامية، وذلك بتهيئة الرأي العام لتقبُّلِ الآثار المترتبة على وصف ما يجري بأنه حالةُ حرب، فإذا ما انتهت أفعالُ الجريمة في غزةَ بأية صورة كانت، فَــإنَّه سيقالُ في خلاصة النقاشات إن تلك كانت حربًا، ومؤسِفٌ أن الحربَ يترتب عليها ضحايا مدنيون وأضرار جانبيةٌ في منشآت مدنية، وسيخلُصُ النقاشُ إلى أن المسؤولية الأكبر تقعُ على عاتق من تسبَّب في الحرب، وعندئذ ستكون ذهنية الرأي العام مهيَّأة لتقبل نتيجة مفادُها أن حماس هي من تسبب في الحرب بعملية 7 أُكتوبر! هذا بالنسبة للمباشر لأفعال الجريمة، وهو الكيان الصهيوني، أما القوى الإجرامية الغربية فستكون صديقًا مساعدًا للطرفين على حَـلِّ النزاع، وحقيقةُ هذه التهيئة قائمة الآن؛ فالإدارة الأمريكية التي يتجاوز دورُها الإجرامي دورَ الكيان الصهيوني، تقدم نفسها اليوم، وتقدمها بعض الأنظمة العربية بوسائل إعلامها، أنها وسيطٌ سعى ويسعى مع غيره من الوسطاء العرب لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب!
لكن إذَا تركز تناول وسائل الإعلام المقاوم على أن ما يجري في غزة جريمة إبادة جماعية، تكرَّست بالنتيجة في ذهنية الرأي العام آثارُ هذه الجريمة وتباعاتها، التي تشمل المباشر لأفعالها، وشركاءه في اقترافها، وتشملهم العقوبة جميعاً، وهي فوق ذلك تمثل وصمة عار، بعكس حالة الحرب، التي يترتب عليها انتصارُ وافتخار وتكريم للأبطال، وتعد مواقف الدول المساندة في حالة الحرب مبرَّرةً وتستحقُّ الإشادة، خُصُوصاً إذَا كانت الحرب عدوانية، كما هو حالُ إسناد الجمهورية الإسلامية لبلادنا في مواجهة الحرب العدوانية لتحالف الإجرام السعوديّ الأمريكي، عكس جريمة الإبادة الجماعية، التي لا يمكن تبرير المشاركة فيها، بفعل أَو قول؛ فكل ذلك مدانٌ قِيَمِيًّا وأخلاقيًّا وإنسانيًّا، ومعاقَبٌ عليه قانونيًّا.
القسم الثاني: الإعلام المحايد:
لهذا القسم -من الإعلام العربي- دورٌ في غاية الخطورة، فهو واسع الانتشار، وتأثيره كبير في الرأي العام؛ إذ يزعم أنه ينقل الأحداث والوقائع بحيادية ومهنية، هذا هو العنوان الأبرز، لكن في التفاصيل يكمن الشيطان كما يقال، فعندما تقدم عناوين الأخبار العريضة، فَــإنَّها تحمل دلالات محدّدة، للأحداث والوقائع، وإن لم تكن متماثلة ومتطابقة، لكن التأثير على الرأي العام لا يختلف، فإذا أخذنا مثلًا لذلك عنوانين من العناوين التي يتناولها هذا القسم من الإعلام العربي في الوقت الراهن، ويسقطهما على حالتين غير متماثلتين، فَــإنَّنا سنستنتج أن الحياد المزعوم لا أَسَاس له.
فحربُ (روسيا على أوكرانيا)، وحرب (إسرائيل على غزة)، هذان عنوانان بارزان يردان باستمرار في هذا القسم من الإعلام العربي الواسع الانتشار، وكلاهما يكرّس في ذهنية الرأي العام حالة محدّدة هي حالة الحرب بكل أبعادها، والتطابق واضح في العنوان الأول فما يجري في أوكرانيا حالة حرب فعلًا، رغم أن روسيا تجنبت كَثيراً وصف الحالة القائمة بينها وبين أوكرانيا بأنها حالة حرب، واستمرت في وصفها بأنها عملية عسكرية أهدافها محدودة؛ باعتبَار أنها لا ترقى من وجهة نظر الروس إلى حالة حرب، لكنها -وَفْـقًا لما هو متعارَفٌ عليه- نزاعٌ مسلَّح، طرفاه روسيا وأوكرانيا، وكُلٌّ منهما دولة مستقلة وذات سيادة، وعضو في منظمة الأمم المتحدة، فيصح هنا وصف الحالة بأنها حالة حرب.
أما بالنسبة للحالة في غزة فلا يصح مطلقًا وصفُها بأنها حالة حرب؛ لأَنَّها ليست نزاعًا مسلحًا بين دولتين تتمتع كُـلٌّ منهما بالسيادة والاستقلال، والاعتراف الدولي، بل إن الوصف الصائب للحالة في غزة، بأنها جريمة إبادة جماعية، وهذا الوصف هو الذي يجب أن يرفعَ عنوانَه الإعلامُ العربي الموصوف بأنه محايد؛ فهنا تتجلى قيمة وأهميّة وموضوعية الحياد، وَإذَا كان يصح -كما أوضحنا- وصف الحالة في أوكرانيا بأنها حالة حرب؛ باعتبَار طرفيها دولتين مستقلتين ذات سيادة، ورغم إسناد حلف الناتو لأحد طرفيها بجميع أوجه الدعم والإسناد السياسي والاقتصادي والعسكري، يظل وصفها كما هو حالة حرب بين روسيا واكرانيا.
وذلك بخلاف الحالة في غزة فهي جريمة إبادة جماعية، بحق شعب محتلّ من جانب كيان دولة الاحتلال الصهيوني بشراكة حلف الناتو في الجريمة؛ فوضع هذا الحلف في حالة غزة ليس كما هو في حالة أوكرانيا، فهو في حالة غزة شريك في الجريمة، بينما هو داعم ومساند في حالة أوكرانيا، فكيف استساغ لوسائل إعلام عربية تزعم الحياد، أن تساوي في التعاطي الإعلامي بين الحالة في أوكرانيا والحالة في غزة، وتسقط عليهما عنوانًا واحدًا، يصف الحالة فيهما بذات الوصف! فهل تتساوي منطقيًّا حرب روسيا على أوكرانيا وما يسمى حرب “إسرائيل” على غزة؟
ذلك جانب، والجانب الآخر، أن هذا القسم من الإعلام العربي الموصوف بأنه محايد، هو عربي يرتبط منتسبوه من حَيثُ الأصل مع أبناء الشعب الفلسطيني، بروابط الدم والدين واللغة والجغرافيا والمصير المشترك، ولا مشكلة في أن يكون هذا القسم من الإعلام العربي منحاز إلى هذه الروابط، بل إن الواجب يحتم الانحياز! وإن لم يكن هناك من روابط سوى رابطة الإنسانية، فَــإنَّ هول المأساة تحتم عليه الانحيازَ للطرف الضعيف المظلوم، فما يجري في غزة كافٍ بحد ذاته، ودون الحاجة لروابط، لكي يحرّك الإنسانية ويسقط الحياد المزعوم، ولينهضَ الانحيازُ بكل قوة وعنفوان.
والملاحَظُ أن التعاطيَ الإعلامي لهذا القسم من الإعلام العربي، إنما يخدم قوى الإجرام، ذلك أن استمرار تقديم ما يجري في غزة، بأنه حالة حرب على خلاف الوصف الحقيقي، وهو جريمة إبادة جماعية، من شأن ذلك أن يؤثر سلبًا على موقف الشعب الفلسطيني، وينتهك حقوقه، ومن شأن ذلك التناول الإعلامي أن يهيِّئَ الذهنيةَ السياسية والإعلامية والحقوقية العربية والأجنبية، لتقبل حالة في غاية الخطورة، وهي تحميلُ فصائل المقاومة مسؤولية الإبادة الجماعية لسكان غزة والدمار الشامل لبنيتها وبنيانها.
فبعد أن تتوقف أفعالُ جريمة الإبادة الجماعية، سيجري النقاشُ حول الآثار والتبعات بناءً على التهيئة الإعلامية المسبقة، بأن الحالة في غزة حالة حرب، وسيخرج النقاش بعبارات الأسف والحزن على الأضرار الجانبية، التي ترتبت على الحرب، وسيقال حينها: هذه حرب وللحرب آثارها، التي تصيب المدنيين والبنى التحتية المدنية، وفي مرحلة لاحقة من النقاش سينتهي الجميع بعد الإقرار بحالة الحرب وأضرارها، إلى مناقشة مسألة أُخرى ذات أهميّة كبرى، وهي من هو المتسبب في الحرب؛ ليتحمل المسؤولية الأخلاقية عن الإبادة الجماعية، وسينتهي الجميع إلى أن هذه المسؤولية يتحملها من تسبب في الحرب، وبالطبع سيقر الجميع بأن حماس هي من تسبب في الحرب!
وبالنسبة للأضرار المادية سيتم معالجتُها حسب العادة من خلال إنشاء صندوق لإعادة الإعمار يموِّلُهُ المانحون، وغالبًا سيتم تمويل عملية إعادة الإعمار من جانب دول الخليج العربي، التي التزم بعضها الصمت تجاه الجريمة، والبعض ساهم فيها بشكل أَو بآخر، وبذلك تُهدر حقوق الشعب الفلسطيني؛ بفعل تخاذل الأنظمة العربية، وحيادية وسائل الإعلام، ولن يكون الأمر كذلك إذَا ما تبنت هذه الوسائل في تناولاتها وتغطياتها الإعلامية، حقيقةَ ما يجري في غزة من إبادة جماعية؛ ففي هذه الحالة سيلحق عارُ الجريمة جميعَ مقترفيها، وسيوصمون بها، سواء المباشر لأفعالها أَو المحرض عليها، أَو الشريك فيها بأية صورة من الصور، وسيلاحَقون، ولن يفلتوا من العقاب؛ باعتبَار أن جريمة الإبادة الجماعية، تمُسُّ البشرية جميعها، ولا يقتصر خطرها وأثرُها على ضحاياها، بل يرتدُّ على الجميع.
وإذا ما توقفت أفعالُ جريمة الإبادة الجماعية، ووسائل الإعلام مُستمرّة في وصف الحالة في غزة بأنها حالة حرب، فَــإنَّ قادة القوى الإجرامية الشريكة في اقتراف هذه الجريمة، ستمنح لهم الأوسمةَ ويعاملون معاملة الأبطال، ويكرَّمون في بلدانهم، وبالمقابل سيعامَلُ المجاهدون من أبناء الشعب الفلسطيني معامَلَةَ المجرمين الإرهابيين، وعلى وسائل الإعلام العربية أن تختارَ بين أن تكونَ في صف المجرمين وخدمتهم، وبين مساندة أبناء الشعب الفلسطيني، وإبراز مظلوميتهم للرأي العام العالمي.
القسمُ الثالثُ: الإعلامُ المنحازُ للمجرمين:
أمَّا القسمُ الثالثُ من أقسام الإعلام العربي، فهو المنحازُ بشكل علني وواضح للقوى الإجرامية، ويتبنَّى ذاتَ الخط الإعلامي التضليلي الإجرامي، وهذا القسمُ هو الأشدُّ خطورةً؛ باعتبَار أنه يعمَدُ إلى صرف نظر الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي عن جريمة الإبادة الجماعية؛ بإشغال وقته ليلًا ونهارًا بتلك الحُزمة الكبيرة من البرامج الإعلامية، الترفيهية والرياضية والاقتصادية والفنية والتاريخية وبرامج الصحة والجمال والفن، ومرثونات سباق الإبل والبغال والحمير والكلاب، ومسابقات الألعاب الإلكترونية، ومزادات الصقور والتيوس والخيول، وغير ذلك مما لا يتسعُ المقامُ لذكره.