البحث عن العالم المتمدن في قاموسِ الجمعية العامة للأمم المتحدة
د/ عبد الرحمن المختار
أعلنت الجمعيةُ العامةُ للأممِ المتحدة في قرارِها رقم 96 (د-1) الصادِرِ في 11 ديسمبر سنة 1946م، أَنَّ (الإبادةَ الجماعيةَ جريمةٌ بمقتضى القانونِ الدولي، تتعارَضُ مع روح الأمم المتحدة، ويدينها العالَمُ المُتَمَـدِّن)، ويأتي هذا القرارُ عقبَ الترويجِ الواسِعِ النطاقِ لما سُمِّي بالمحرقة النازية، التي زعم المروجون، تعرُّضَ اليهودِ لها على أيدي النازيين في ألمانيا، وعدد من الدول الأُورُوبية، وجاء قرارُ الجمعية العامة، عقبَ تأسيسها بعام واحد، وتأكيد ميثاقها التزامًا مُهِمًّا للغاية يقعُ على عاتق أعضائها، ويمثل هذا الالتزام مبدأً مهمًّا من المبادئ التي تأسَّست عليها المنظَّمةُ الدولية ونَصُّه (… أن ننقذَ الأجيالَ المقبلة من ويلات الحرب، التي خلالَ جيل واحـد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجزُ عنها الوصف).
ورغمَ الرقي الإنساني في جانبه النظري لما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، وفي الجمعية العامة بشأن التزامها المستقبلي نحو الإنسانية، وتكييفها للإبادة الجماعية بأنها جريمةٌ وَفْــقًا لأحكام القانون الدولي، غير أن الواقع التطبيقي لم يفصح منذ ذلك الحين إلى اليوم لا عن العالم المُتَمَـدِّن، الذي أكّـدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه يدينُ جريمة الإبادة الجماعية، ولا عن الكيفية التي يمكنُ للأمم المتحدة أن تُنقِذَ بها الأجيالَ اللاحقةَ لتأسيسها من ويلات الحروب، وما يترتب عليها من أحزان ومآسٍ تلحقُ بالإنسانية!
ولا ندري من تقصد الجمعية العامة للأمم المتحدة بالعالم المُتَمَـدِّن؟ وهل كان ذلك العالم الذي نصت على وصفه في قرارها تواجدَ فقط في منتصف العقد الرابع من القرن الماضي؟ ثم انقرَض ذلك العالم لأسباب لا نعرفها في العام التالي للنص عليه في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة؟ أم أن العالم المُتَمَـدِّن الذي قصدته الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يولد بعدُ حتى اليوم؟ إننا بكل تأكيد ننتظر جوابًا واضحًا وشفافًا على هذه التساؤلات من هذه الجمعية الموقَّرة، إن كانت تحوزُ قدرًا من الوقار!
ولحين وصول جواب الجمعية العامة الشفاف الصريح الواضح، فمن حقنا أن نحلل ونقيّم ونستنتج، ذلك أنه ومنذ إطلاق الجمعية العامة لإعلانها الإبادةَ الجماعية جريمةً بمقتضى أحكام القانون الدولي، سنة 1946م، لتعارُضِها مع روح الأمم المتحدة، وإدانة العالَم المُتَمَـدِّنِ لها، ومنذ إقرارِها لاتّفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها)، بقرار رقم (260 أ) في 9 ديسمبر سنة 1948م، منذ ذلك الحين وَإلَى اليوم لم تتوقفْ أفعالُ جريمة الإبادة الجماعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني خَاصَّةً، وضد شعوب الأُمَّــة العربية وغيرها من شعوب العالم بصفة عامة، وهو ما ينتفي معه حتمًا أي مبرّر لإطلاق الأمم المتحدة ذلك الوصف قبل ثمانين عاماً؛ فحينها لم يكن هناك عالمٌ مُتَمَـدِّنٌ، ويؤكّـدُ هذا الاستخلاصَ أن ميثاقَ الأمم المتحدة قد أورد -ضمن مبادئه قبل عام واحد فقط من إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة- الالتزامَ بتجنيب الأجيال ويلاتِ الحرب، وما ترتب عليها من مآسٍ وأحزان؛ وهو ما يعني أن العالَمَ الذي وصفته الأمم المتحدة بأنه مُتَمَـدِّنٌ، كان حينها عالمًا متوحِّشًا بكل معنى الكلمة!
فهل كانت الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة تقصُدُ من خلال مدحها ذَمَّ سلوكِ العالم الغربي في ذلك الحين؟ وأنها تنشد عالمًا آخرَ في المرحلة التالية لتأسيس المنظمة الدولية؟ فإن كانت تقصد فعلًا من خلال مدحها الذمَّ، فذلك تخريجٌ مقبولٌ منطقيًّا؛ باعتبَار أن الوحشية هي التي سادت في ذلك الحين، خُصُوصاً بعد إلقاء قلعة القوى الاستعمارية الإدارة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتَي هوريشيما ونكازاكي اليابانيتَين، وَإذَا كان الأمر كذلك، وقصد المنظمة الدولية هو ذلك، فالأصلُ أن يسير العمل من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة في المرحلة التالية لإعلانها، نحوَ تهذيب وحشية القوى الغربية، وسحبها من غابةِ التوحش إلى حضيرة التمدن، التي ارتأتها لها هذه الجمعية!
وذلك هو المنطقُ المعقول والمقبول إذَا ترتب عليه واقعًا تغيُّرٌ ملموسٌ للسلوك الوحشي للقوى الاستعمارية نحو الإنسانية والمدنية، فهل حدث ذلك التغير، أم أن القوى الاستعمارية استمرت في وحشيتها وجلب المآسي للبشرية، بدلا عن الالتزام بتجنيبها الآلام والأحزان؟ حقيقة يمكن القول إنه إذَا كانت القوى الاستعماريةُ مسؤولةً عما سبَّبته وحشيتُها لجيل واحد مرتين من مآسٍ وأحزان، فَــإنَّ الجمعية العامة للأمم المتحدة مسؤولةٌ مسؤوليةً مباشرةً عما تعرَّضت له الأجيالُ اللاحقةُ لتأسيسها من آلام ومآسي وأحزان؛ بفعلها المخالف لالتزاماتها الواردة في ميثاقها، وبتنصلها كذلك عن واجباتها القانونية، وَفْــقًا لأحكام ميثاقها وقواعد القانون الدولي.
أولى المخالفات لميثاق الأمم المتحدة:
فقد كان أول فعلٍ مخالِفٍ صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتسبَّب في مأساة إنسانية مُستمرّة، هو قرارُها المشؤومُ تقسيمَ أرض فلسطين العربية دونَ وجه حق، وإقرارَها إقامةَ دولة لليهود على قِسْمٍ منها، مقابل إقامة دولة فلسطينية على القسم الآخر، وهذا القرار لا يعد مخالفًا فقط لميثاق منظمة الأمم المتحدة، بل مخالفٌ أَيْـضاً لما هو مستقرٌّ ومتعارَفٌ عليه في النُّظُم السياسية فيما يتعلق بنشأة الدول! ولم تكتفِ الجمعية العامة للأمم المتحدة بمخالفة ميثاقها، وما هو مستقر ومتعارف عليه من طرق تنشأ بها الدول، بل إن هذه المنظمة تنصلت عن جزء من التزامها الوارد في قرار التقسيم حين سمحت ودعمت إنشاء الدولة اليهودية الصهيونية، وغضَّت الطرف عن التزامها تجاه إنشاء الدولة الفلسطينية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل إن الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد تنصّلت عن واجباتها القانونية في توفير الحماية لأبناء الشعب الفلسطيني في مواجَهة الإبادة الجماعية، والتهجير القسري من جانب الصهاينة المجرمين وبشراكة كاملة من القوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، فقد تعرض أبناء الشعب الفلسطيني للإبادة الجماعية، منذ اليوم الأول لإقرار الجمعية العامة للأمم إقامةَ دولة الكيان الصهيوني، وليس ذلك فحسب بل إن القوى الاستعمارية الغربية ارتكبت بحق الشعوب العربية -منذ تأسيس المنظمة الدولية وحتى نهاية القرن الماضي- جرائمَ إبادة متعددةً موزَّعةً على النطاق الجغرافي لشعوب الأُمَّــة العربية، وافتتحت تلك القوى الإجراميةُ القرنَ الحادي والعشرين بجرائم إبادة متنقلة داخل ذات النطاق الجغرافي وخارجه.
ولم يكن هناك من عالَمٍ مُتَمَـدِّنٍ يدينُ تلك الإباداتِ بحق البشرية أَو يحد من اتساع نطاقها؛ بسَببِ التطور الذي أصاب الآلة الحربية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، وكل ما وثّقه التاريخ هو المزيدُ من الإيغال في الإجرام والتوحش، وارتفاع كبير في منسوب الأسى والحزن والألم، الذي تسببت به القوى الاستعمارية الإجرامية الصهيوغربية، ولم يكن للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا لمجلس الأمن الدولي، موقفٌ يُذكَرُ للحد من استمرار وتتابع جرائم الإبادة الجماعية المتنقلة في جغرافيا الإنسانية المغدورة، تلك الإبادات التي اختَلقت ذرائعها من العدم القوى الإجراميةُ الاستعمارية الغربية، فدمّـرت دولًا قائمةً آمنةً مستقرة، وأبادت الملايين من شعوبها، التي لم تكن لها قيمة تذكر في ميزان الجمعية العامة للأمم المتحدة، سوى كونها مُجَـرَّدَ أرقامٍ في إحصائياتها الدورية الصادرة عنها أَو عن غيرها من فروع المنظمة الدولية.
كُـلُّ تلك الجرائم أصابت الإنسانيةَ رغم إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل ثمانية عقود من الزمن، بخطورة جريمة الإبادة الجماعية وبضرورة تخليص البشرية منها بوصفها آفةً بغيضة، وَفْــقًا لما ورد في مقدمة اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقَب عليها ونصه (وإذ تعترف بأن الإبادةَ الجماعية قد ألحقت، في جميع عصور التاريخ، خسائر جسيمة بالإنسانية، وإيمانًا منها بأن تحرير البشرية من مثل هذه الآفة البغيضة يتطلَّبُ التعاون الدولي)، ورغمَ كُـلِّ ذلك الحرص، والتأكيد من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أنها مع ذلك وقفت ولا زالت تقفُ مواقفَ سلبيةً مخزية، تجاه الشعوب التي تعرضت ولا تزال تتعرضُ لجرائم إبادة جماعية من جانب قوى استعمارية مؤسّسة للمنظمة الدولية، وذات عضوية دائمة في جهازها التنفيذي (مجلس الأمن الدولي) المعني -وَفْــقًا لأحكام ميثاقها وقواعد القانون الدولي- بالمحافظة على السلم والأمن الدولي ومنع الإخلال به من جانب أية دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة أَو خارجها.
ولم يخطر ببال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن تشحذَ ذاكرتَها وتستدعيَ العالَمَ المُتَمَـدِّنَ الذي سبق لها أن روَّجت له، لإنقاذ البشرية من الإبادة الجماعية، ورغم أنها كرَّست قناعتها وإيمانها بوجوب تحرير البشرية من الإبادة الجماعية؛ باعتبَار أنها تمثل آفة بغيضة، حسب وصفها، تتطلب التعاون الدولي، مع كُـلّ ذلك لم تدعُ الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة الدولَ الأعضاءَ فيها إلى التعاون لمنع جريمة الإبادة الجماعية وقمع مرتكبيها!
وقد سبق إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتّفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها) لسنة 1948 قرارها رقم (181) لسنة 1947م بتقسيم أرض فلسطين العربية إلى قسمَين: قسمٍ تقامُ عليه دولةُ الكيان الصهيوني وهو ما تم فعلاً، وقسمٍ تقامُ عليه دولةُ فلسطين، وهو ما لم يتم منذ ذلك الحين وَإلَى اليوم، وهذا التقارب أَو التزامن يفترضُ أحدَ احتمالَين: أولهما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تتوجس خيفةً من ردة فعل اليهود الانتقامية، بعد أن تصبحَ لهم دولة قوية ضد الألمان؛ بسَببِ مزعوم المحرقة النازية التي تعرضوا لها.
لذلك فَــإنَّ الجمعيةَ العامة للأمم المتحدة، وَفْــقًا لرؤيتها الجديدة للعالم المُتَمَـدِّن، الذي يدينُ الإبادة الجماعية، ولإيمان هذه الجمعية بأن الإبادة الجماعية آفة بغيضة، واجب الدول التعاون للقضاء عليها، ولشدة حرصها على لجم النوازع الانتقامية لدى اليهود ضد الالمان، فقد بادرت بإقرار اتّفاقية منع الإبادة الجماعية التي ضمَّنتها نصوصًا مجرِّمةً لعدد من الأفعال التي تندرجُ ضمن جريمة الإبادة الجماعية، وحشدت الجمعية العامة مصطلحات تهديدية ووعيدية في صياغتها لنصوص الاتّفاقية، في مواجهة مقترِفِ أي فعل من أفعال جريمة الإبادة الجماعية.
والاحتمال الثاني أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت تخشى تعرُّضَ اليهود لإبادة جماعية من جانب العرب عُمُـومًا والفلسطينيين خُصُوصاً، كردة فعل انتقامية على سلب أرضهم ومنحها لليهود، فبادرت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى توفير الحماية القانونية لليهود من خلال هذه الاتّفاقية، التي عرضتها للتوقيع عليها من جانب الدول، وكانت دولة الكيان الصهيوني من أوائل الدول الموقِّعة عل الالتزام بنصوصها، ووقَّعت كذلك عليها جميعُ الدول العربية، والمفارقةُ الصارخةُ أن قرارَ الجمعية العامة الأمم المتحدة بتقسيمِ أرض فلسطين بين العرب واليهود لإقامة دولتَينِ متجاورتَينِ على قسمَيها في وقت متزامن، دولة لليهود وأُخرى للفلسطينيين، فأقيمت دولةٌ لليهود، في حينه، ولم تقم دولةٌ لأبناء الشعب الفلسطيني من ذلك الحين وَإلَى اليوم!
التزامٌ عربي وتجاهُلٌ صهيوني:
والتزمت الدولُ العربية بأحكام اتّفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها) التي أقرتها الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة، ولم تلتزم بها دولةُ الكيان الصهيوني، التي انتهكتها بشكل صارخ منذ إقرارها سنة 1948م وَإلَى اليوم، وكأن هذه الاتّفاقية ما وُجدت إلا لترسمَ لدولة الكيان الصهيوني خارطةَ طريق واضحةَ المعالم، لكيفية اقتراف أفعال جريمة الإبادة الجماعية بشكل مُستمرّ ومتتابع، من ذلك الحين وَإلَى الوقت الراهن، والواضحُ أن الجمعية العامة للأمم المتحدة نفّذت قرارَها بتقسيم أرض فلسطين العربية لصالح اليهود فقط، وضد أبناء الشعب الفلسطيني، ونفَّذت اتّفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها) لصالحِ حماية اليهود فقط، في مقابل إهدار كرامة وحياة أبناء الشعب الفلسطيني.
وبذلك تكون الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرار التقسيم قد منحت الصهاينة أرضَ أبناء شعب فلسطين، ووفرت لهم الحماية القانونية باتّفاقية (منع جريمة الإبادة الجماعي والمعاقبة عليها) وليس بإمْكَان أحد الادِّعاء بعد توضيح ما سبق بأن هذه الاتّفاقية قد أقرَّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لحماية البشرية بشكل عام من تلك الآفة التي وصفتها بأنها بغيضة؛ فالكيانُ الصهيوني يقترفُ أفعالَ جريمة الإبادة الجماعية بشكل مُستمرٍّ ومتتابِعٍ على مدى ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن بحق أبناء الشعب الفلسطيني بشراكة قوى استعمارية إجرامي غربية.
وكُلُّ تلك الأفعال الإجرامية لم تحَرّك سكونَ الجمعية العامة للأمم المتحدة، تجاه مقترفي أفعال هذه الجريمة، رغم وضوحها تماماً كما ورد في المادة الثانية من الاتّفاقية التي نصت على أن (في هذه الاتّفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيًّا من الأفعال التالية، المرتكَبة على قصد التدمير الكلي أَو الجزئي لجماعة قومية أَو إثنية أَو عنصرية أَو دينية، بصفتها هذه:
أ (قتل أعضاء من الجماعة).
ب (إلحاق أذىً جسدي أَو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ج (إخضاع الجماعة، عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أَو جُزئيًّا.
د (فرض تدابيرَ تستهدفُ الحؤولَ دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
هـ (نقل أطفال من الجماعة، عنوةً، إلى جماعة أُخرى.
ألا تدرك الجمعية العامة أن البند (أ) من هذه الاتّفاقية متحقِّقٌ على أرض الواقع في قطاع غزةَ، وأن القتل لا يقتصر على عددٍ محدود، أَو فئة بذاتها من أبناء الشعب الفلسطيني، بل شاملٌ فئاتِ الأطفال والنساء والشيوخ؟
ألا تدركُ الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة أن الفقرة (ب) من الاتّفاقية متحقِّقةٌ على أرض الواقع في قطاع غزة، وأكثر مما هو منصوصٌ عليه في هذه الفقرة؛ باعتبَار أن من يتعرض للأذى الجسدي والروحي الخطير ليس مجموعةً من الشعب الفلسطيني فقط، بل كُـلّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة! وهل تدركُ الجمعية العامة للأمم المتحدة كذلك أن الفقرة (ج) متحقّقة على أرض الواقع في قطاع غزة بشكل يفوقُ ما هو منصوصٌ عليه فيها، وأن الظروف المعيشية التي يتعرض لها أبناءُ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بعد تدمير كافة مقومات الحياة، يهدفُ الكيان الصهيوني وشركاؤه من خلالها إلى إبادة الشعب الفلسطيني بشكل كلي؟
ألا تدركُ الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الفقرة (د) متحقّقة على أرض الواقع في قطاع غزة وأكثر مما هو منصوص عليه فيها، فالكيان الصهيوني بتفريق الأسر وتشتيتها وقتل الآباء والأُمهات، وتدمير المساكن وكل مقومات الحياة؟
ألا يستهدفُ من كُـلّ ذلك الحيلولة دون تكوين أسرة وإنجاب الأطفال؟ وهل تدركُ المنظمة الدولية أن الفقرة (د) متحقّقة على أرض الواقع في قطاع غزةَ بأكثرَ مما هو منصوص عليه فيها؛ فالكيان الصهيوني وشركاؤه في الجريمة لا يكتفون بنقل الأطفال لتبنيهم لدى أسر أُخرى في بلدان أُخرى، بل عمل هذا الكيان المجرم ويعمل بشكل حثيث على حرمان الأطفال من حقهم في الحياة؛ فهو يركز بشكل واضح على استهدافهم، ونقلهم ليس من أوساط أسرهم بل من الحياة إلى الموت.
لا وجودَ لعالم مُتَمَـدِّن يدين جريمة الإبادة الجماعية:
إذاً الواقعُ في قطاع غزة يؤكّـدُ أنه لا وجودَ لعالِمٍ مُتَمَـدِّن يدينُ جريمةَ الإبادة الجماعية، التي اقترف أفعالَها -بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ عشرة أشهر- الكيانُ الصهيوني وشركاؤه من القوى الاستعمارية الإجرامية الغربية، على رأسها الإدارة الأمريكية، وهذه الجريمة لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ من حيثُ إنها جريمة مشهودة ومشاهَدةٌ بشكل مباشر من جميع دول العالم، والجمعية العامة للأمم المتحدة شاهد ومشاهد لأفعالها بشكل مباشر، ومع ذلك تكتفي بالتعبير عن القلق والأسى والحزن ومؤخّراً الإدانة والاستنكار!
وكأن مقترفَ الجريمة وشركاءه يتمتعون بالحصانة ضد الملاحقة والمساءلة والمحاسبة، وأنه ليس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سوى الفُرجة والانتظار لحين استكمال قوى الإجرام فصولَ الجريمة، لتعلن الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ذلك عن حزمة من الحزن والأسى والأسف لما تعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكأن ما تعرضوا له وباءٌ أَو كارثة طبيعية، لم يكن بوسع الجمعية العامة للأمم المتحدة منعها أَو الحد من آثارها الكارثية؛ كونها ذات طابع مفاجئ، لم يسعف الجمعية العامة الوقتُ لاتِّخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أبناء الشعب الفلسطيني!
لكن الواقع مختلف تماماً؛ فالجمعية العامة للأمم المتحدة هي المتسبِّبة في مأساة الشعب الفلسطيني وما تعرض له من إبادة خلال العقود الماضية وما يتعرض له من إبادة خلال الأشهر العشرة الماضية، والجمعية العامة تغُضُّ الطرفَ؛ أملًا منها في سرعة الإجهاز على أبناء الشعب الفلسطيني، لكن استمرارية وحيوية وصمود وإصرار هذا الشعب وتمسكه بأرضه وحقه في الحياة الكريمة، فضح الجمعية العامة وكشف زيفَها وتضليلها وانحيازها للكيان الصهيوني المجرم على مدى العقود الماضية، وضاعَفَ هذا الشعبُ الأبيُّ فضيحتَها خلال العشرة الأشهر الماضية.
فجريمةُ الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أبناءُ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ عشرة أشهر تُقترَفُ أفعالُها عمدًا وبسبق إصرار وترصد، ونتيجتُها مقصودة لذاتها وبذاتها، وكل أفعال الصهاينة المجرمين وشركائهم، تتطابقُ تماماً مع ما نصت عليه اتّفاقيةُ منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، سواء في ما يتعلق بالقتل الجماعي أَو إلحاق الأذى البالغ الجسدي والروحي أَو فرض الظروف المعيشية القاسية، أَو تدابير تشتيت شمل الأسر والحيلولة دون الإنجاب بشكل طبيعي، أَو استهداف الأطفال وقتلهم في مختلف الأعمار.
وقد سبق أفعالَ جريمة الإبادة الجماعية إعلانُ قادة الكيان الصهيوني عن نواياهم ونوازعهم الإجرامية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، سواء في ما يتعلق بإغلاق قطاع غزة ومحاصرته تماماً، بمنع دخول الغذاء والماء والدواء وقطع الكهرباء والوقود وكل المستلزمات الضرورية للحياة، أَو التعامل مع سكان قطاع غزة على أَسَاس أنهم (حيوانات بشرية)، بل ومطالبة بعض قيادات الكيان بإلقاء قنبلة ذرية على سكان القطاع والتخلص منهم دفعةً واحدة، وغير ذلك من النوازع الإجرامية التي عبَّر عنها قادةُ الكيان الصهيوني، والتي سبقت أَو تزامنت مع اقتراف أفعال جريمة الإبادة الجماعية.
كل ذلك تم بشكل سافر واضح ومكشوف تحت سمع وبصر الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لم تحَرّك ساكنًا، رغم أن الاتّفاقية وميثاقَ الأمم المتحدة يوجبان على الجمعية ومجلسِ الأمن الدولي منعَ أفعال الجريمة وقمع مقترفيها؛ فالمادةُ الثامنة من الاتّفاقية تنص على أن (لأيٍّ من الأطراف المتعاقدة -طبقًا لميثاق الأمم المتحدة- أن يطلُبَ إلى أجهزة الأمم المتحدة المختصة أن تتخذَ -طبقا ً لميثاق الأمم المتحدة- ما تراه مناسبًا من التدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة الجماعية أَو أيٍّ من الأفعال الأُخرى المذكورة المادة الثالثة)، وبطبيعة الحال فهذا النص يفترضُ عدمَ علم الجمعية العامة للأمم المتحدة بأيٍّ من الأفعال المقترفة، التي تمثل جريمة إبادة جماعية، فأعطى النصُّ الحقَّ لأية دولة أن تطلُبَ من الجمعية العامة أَو مجلس الأمن الدولي منعَ وقمعَ مرتكِب أفعال جريمة الإبادة الجماعية!
الأممُ المتحدة عمياءُ عمَّا يحدثُ في غزة:
أمَّا في حال غزةَ فَــإنَّ الجريمة المقترَفة بحق أبنائها مشهودةٌ من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وغيرهما من فروع المنظمة الدولية، وجميع الدول الأعضاء فيها، ومع كُـلّ ذلك لا ضميرَ ولا إنسانية ولا قيمَ أخلاقية تحَرّكت لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وأعضائه الدائمين وغير الدائمين، لا الروس ولا الصين ولا الغرب ولا العرب، والجميعُ يتعامَلُ بمنطق المزيد من التوريط لخصمه دونما اعتبارٍ لأية قيم إنسانية أَو أخلاقية!
ومع أن الجمعيةَ العامة للأمم المتحدة تغُضُّ الطرف، وتتلمَّسُ الأعذارَ والذرائعَ لمواقفها المخزية المتواطِئَة والمنحازة إلى جانب القوى الاستعمارية الصهيوغربية؛ فَــإنَّها مع ذلك تحاول اصطناع بعض المواقف التي توحي من خلالها باهتمامها ومتابعتها لالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني؛ بسَببِ انتهاكات الكيان الصهيوني، ومن هذه المواقف طلبُها بتاريخ 19 يناير 2023، من محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًّا، تمحور حول سؤالَين:
السؤال الأول: ما هي العواقبُ القانونية الناشئة عن الانتهاك المُستمرِّ من جانب “إسرائيل” لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ومن احتلالِها الذي طال أمده، واستيطانها، وضمِّها للأرض الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967، بما في ذلك الإجراءات الهادفة إلى تغييرِ التركيبة السكانية، وطابع ووضع مدينة القدس المقدسة، ومن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية ذات صلة؟
السؤال الثاني: كيف تؤثِّرُ سياساتُ وممارساتُ “إسرائيل” المشارُ إليها أعلاه على الوضع القانوني للاحتلال؟ وما هي العواقبُ القانونية التي تنشأُ لجميع الدول والأمم المتحدة من هذا الوضع؟
وقد جاء رد محكمة العدل الدولية في 19 يوليو الماضي على النحو الآتي:
ترى المحكمة أن استمرارَ وجود دولة “إسرائيل” في الأرض الفلسطينية المحتلّة غيرُ قانوني، وهذا الرأيُ بأغلبية 11 صوتًا مقابل 4 أصوات، وترى المحكمةُ أن دولةَ “إسرائيل” ملزَمةٌ بإنهاء وجودِها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأسرع ما يمكن، وكان هذا الرأيُ بأغلبية 11 صوتًا مقابلَ 4 أصوات، وترى المحكمة أن دولةَ “إسرائيل” ملزَمةٌ بالوقف الفوري لجميع أنشطة الاستيطان الجديدة وإخلاءِ جميع المستوطنين من الأرض الفلسطينية المحتلّة، وكان هذا الرأي بأغلبية 14 صوتًا مقابلَ صوت واحد، وترى المحكمة أن دولة “إسرائيل” ملزمة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أَو الاعتباريين المعنيين في الأرض الفلسطينية المحتلّة، وكان هذا الرأي بأغلبية 14 صوتًا مقابل صوت واحد.
وترى المحكمة أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزَمةٌ بعدم الاعتراف بشرعية هذا الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة “إسرائيل” في الأرض الفلسطينية المحتلّة، وعدم تقديم العون أَو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناشئ عن استمرار وجود دولة “إسرائيل” في الأرض الفلسطينية المحتلّة، وكان هذا الرأيُ بأغلبية 12 صوتًا مقابل 3 أصوات، وترى المحكمة أن المنظماتِ الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، ملزَمةٌ بعدم الاعتراف بشرعية هذا الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة “إسرائيل” في الأرض الفلسطينية المحتلّة، وكان هذا الرأي بأغلبية 12 صوتًا مقابل 3 أصوات، وترى المحكمة أن الأممَ المتحدة -وخَاصَّة الجمعية العامة التي طلبت هذا الرأيَ ومجلس الأمن- ينبغي أن تنظر في الطرائق الدقيقة والإجراءات الإضافية اللازمة لإنهاء الوجود غير القانوني لدولة “إسرائيل” في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأسرع ما يمكن، وكان هذا الرأي بأغلبية 12 صوتًا مقابل 3 أصوات.
ورغم أن محكمةَ العدل الدولية قد أصدرت رأيَها الاستشاري بناءً على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة وتضمن هذا الرأي أجوبةً واضحة ومحدّدة ومفصَّلة، لكل ما طلبته الجمعية العامة، التي اكتفت وعن طريق متحدِّثِها الرسمي، وبكل برود بالقول إنه ستتمُّ إحالةُ رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري على أعضاء الجمعية العامة لمناقشته.
تَبًّا لها من جمعيةٍ عامةٍ فاقَ جُرْمُها بحَقِّ أبناء الشعب الفلسطيني جُـــــرْمَ كِيانِ الإجرامِ الصهيوني وشُركائه.