أنظمةٌ وظيفية بواجهات عربية
أنظمةٌ وظيفية بواجهات عربية
يمني برس/عبدالرحمن المختار/
انتهت حِقبةُ الاستعمارِ التقليديِّ للبلاد العربية بعد تضحياتٍ جسيمةٍ قدَّمها أحرارُ الأُمَّــة كانت أهمُّ ثمارها إجبارَ القوى الاستعمارية الغربية على الرحيل.
غير أن ذلك الرحيل الذي جاء بعد تكبدها خسائرَ كبيرةً مادية وبشرية، لم يكن سوى تهيئة لحقبة استعمارية أسوأ من سابقتها، فقد أدركت هذه القوى أن استمرارَ احتلالها للبلاد العربية عسكريًّا سيكلّفُها الكثير؛ بسَببِ شدة المقاومة التي واجهتها واستعصاء أحرار البلاد العربية على الرضوخ للسطوة العسكرية الاستعمارية؛ فحين نجحت المقاومة العربية في إجبار القوى الاستعمارية على الرحيل، وضعت هذه القوى بدقة عالية خطة لعودتها للبلاد العربية، وَفْـقًا لأُسلُـوب جديد مختلف تماماً عن أُسلُـوبها الاستعماري التقليدي.
وكان تركيز القوى الاستعمارية لفرض سيطرتها على البلاد العربية، وَفْـقًا للأُسلُـوب الاستعماري الجديد يقوم على أَسَاس الاعتماد على موظفين محليين من أبناء البلاد العربية يؤدون ذات الدور الذي كان مسنَداً لقواتها العسكرية في ظل أُسلُـوبها الاستعماري التقليدي؛ فبعد تمكّن هذه القوى من تقسيم البلاد العربية إلى دويلات صغيرة عملت على إقامة أنظمة حكم على رأس كُـلٍّ منها، واجهتها عربية، ووظيفتها صهيوغربية، بغض النظر عن صيغة النظام، جمهوري أَو ملكي وراثي، فجميعها أنظمة وظيفية خاضعة بشكل كامل لسيطرة القوى الاستعمارية الغربية تنفذ بهدوء مخطّطاتها، وتعمل على تحقيق أهدافها، وحماية مصالحها غير المشروعة بكل إخلاص وتفانٍ، تلك المصالح التي تمثل ثروات الشعوب العربية ومواردها الطبيعية.
قمعُ الحركات التحرّرية:
وبتنسيقٍ كاملٍ بين الأنظمة العربية الوظيفية والقوى الاستعمارية، جرى قمع جميع الحركات والتحَرّكات الشعبيّة العربية الرافضة لتبعية أنظمة الحكم وارتهانها للهيمنة الغربية للقوى الاستعمارية، وقد ساهمت هذه القوى في قمع التحَرّكات الشعبيّة بوسائل متعددة، منها الوسائل الناعمة، التي تم من خلالها احتواءُ أغلب الحركات التحرّرية، والتحَرّكات الشعبيّة في البلاد العربية لينتهي الأمرُ بحصر مطالب تلك الحركات في مُجَـرّد المشاركة ولو شكليًّا في شؤون الحكم، وبذلك تم صرفها عن أهدافها السامية، تحت عناوين جذابة متعلقة بحقوق الإنسان وحق المرأة في المشاركة في الحياة السياسية.
وتحت وطأة عنف الأنظمة العربية الوظيفية وجاذبية العناوين المضلِّلة للقوى الاستعمارية تاهت الحركات العربية التحرّرية، وأضاعت الطريقَ الموصل لأهدافها وغاياتها الحقيقية، وقليلٌ من الحركات التحرّرية العربية والتحَرّكات الشعبيّة، المناهضة للهيمنة الاستعمارية لم تتمكّن القوى الاستعمارية من احتوائها، فقد كان بديل الاحتواء هو التنكيل بالقيادات الموجهة لتلك الحركات التحرّرية والتحَرّكات الشعبيّة، ولو ترتّب على ذلك تدمير البلد بما فيه وبمن فيه، بإدخَاله في دوامات عنف لا تنتهي، تتحكم بها القوى الاستعمارية، وتمسك بخيوط تحريكها في الاتّجاه الذي يحقّق أهدافها، ويحافظ على مصالحها غير المشروعة.
فَخُّ مخطّط القوى الاستعمارية الغربية:
وإذا ما رأت القوى الاستعمارية أن مصالحها تقتضي العمل على وقف دوامة العنف مؤقتاً، فَــإنَّها تقدم نفسها وسيطاً مخلصاً حريصاً على استقرار البلد؛ فتعمل على تيسير طاولة مفاوضات تغدق فيها على الأطراف المتصارعة بمصطلحات التسامح والتسامي في الجراح، ورفع مصلحة البلاد فوق مصالح الأفراد، وكلّ ذلك وغيره من خلال خبرائها المتخصصين المتمرسين في هذا المجال، لتنتهي الجولات التفاوضية غالبًا بالاتّفاق على تشكيل سلطة تمثل جميع الأطراف المتصارعة، وفي هذه الحالة يصبح الجميع عبارة عن نظام وظيفي جديد حريص على خدمة القوى الاستعمارية ومدينٍ لها ومتفانٍ في تحقيق أهدافها، وحماية مصالحها غير المشروعة، وبتمكّن القوى الاستعمارية من السيطرة على جميع الأطراف التي يتكوَّنُ منها النظامُ الوظيفي الجديد، فَــإنَّ هذه الأطرافَ تتنافَسُ بشدة في إظهار حرصها على إرضاء هذه القوى، وولائها لها، وتفانيها في خدمتها.
وهكذا وقعت البلاد العربية في فخ مخطّط القوى الاستعمارية الغربية الذي فاق في سوئه بعشرات المرات الحقبة الاستعمارية العسكرية المباشرة التي تنامت في ظلها روح المقاومة، واقترنت بوعي شعبي رافض للوجود الاستعماري الغربي، ومقاوم له بمختلف الوسائل؛ باعتبَار أن التواجد الغربي في حينه في البلاد العربية مثل احتلالاً للبلاد، وهذه الصورة التقليدية واجهتها الشعوب العربية بالمقاومة المسلحة، أما تواجد القوى الاستعمارية الغربية في الفترة اللاحقة لحقبة الاحتلال العسكري المباشر، فقد تم تمويهه بعناوينَ ناعمة جذابة، منها التعاون في مختلف المجالات، ومنها الشراكة، ومنها التحالف، ومنها الاستضافة، وغيرها من العناوين التضليلية.
ومع أن القوى الاستعمارية الغربية تخلت نظريًّا عن صورتها التقليدية القائمة على التواجد العسكري المباشر في البلاد العربية وإخضاع أهلها بالقوة المسلحة، فَــإنَّها قد أسندت هذه المهمة إلى الأنظمة الوظيفية التي نصّبتها على رأس كُـلّ قسم من تقسيمات الجغرافيا العربية، التي عملت عليها قبل وأثناء وبعد مغادرتها، ورغم ذلك فَــإنَّ القوى الاستعمارية الغربية لم تتخل تماماً عن القوة العسكرية، بل ظلت متمسكة بهذه القوة، لكن في صورة وظيفية يؤديها نيابةً عنها وبإشرافها وتخطيطها وإسنادها نظامًا وظيفيًّا آخر أقامته هذه القوى بالتزامن مع إقامة الأنظمة الوظيفية العربية التي مثلت النسخة الناعمة لهيمنتها، في حين مثّل الكيان الصهيوني النسخةَ العنيفة التي تمسَّكت وأمسكت بها القوى الاستعمارية الغربية لفرض نفوذها العسكري، وسيطرتها على البلاد العربية، وإخضاع من استعصى عليها إخضاعه بالقوة الناعمة.
ولقد أدرك الجميعُ ما آل إليه حالُ الحركات التحرّرية الوطنية والدينية والقومية تحديدًا عقب نجاح المشروع الفكري التحرّري النهضوي في بلادنا بطرد القوى الاستعمارية، وكيف انكشفت تلك الحركات حين ارتمت في أحضان القوى الاستعمارية وأدواتها الإقليمية في المنطقة، وكيف انفضح دور قيادات من تلك الحركات التي عملت خلال عقود من الزمن في خدمة تلك القوى وتحقيق أهدافها التدميرية في مختلف المجالات، ولم يكن أحد يتوقع أن تنزلق تلك القيادات في براثن العمالة للقوى الأجنبية، وهي التي طالما ردّدت الشعارات الدينية والوطنية والقومية لتصبح في نهاية المطاف مُجَـرّد أدَاة هدم لكل مقومات البلد بيد القوى الاستعمارية الغربية، وأدواتها الإقليمية في المنطقة، ولم يكن أحد يتوقع أن يشاهد في يوم من الأيّام أدعياءَ القومية العربية التقدمية في أحضان الإمبريالية الأمريكية والملكية الرجعية السعوديّة! التي طالما رفع أُولئك الأدعياء شعارات محاربتها، لينتهي بهم المطاف عبيداً في أسواق نخاستها.
ولذلك فلا يعد مستغرباً موقف الأنظمة العربية وراثية أَو ديمقراطية شكلية مما يقترفه الكيان الصهيوني وشركاؤه من القوى الاستعمارية الغربية من أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر؛ فهذه الأنظمة وإن كانت واجهتها عربية إلا أنها أنظمة وظيفية مهمتها ووظيفتها الأَسَاسية النيابة عن القوى الاستعمارية الصهيوغربية في إخضاع الشعوب العربية لسيطرتها، وحراسة مصالحها، وَإذَا ما أخفق أيُّ نظام منها في أداء الوظيفة الموكلة إليه، فَــإنَّ بديله سيكون جاهزًا للحلول محله، وسيتم الانقضاضُ عليه بمُجَـرّد إشارة من تلك القوى، وسيكون البديل أكثر نشاطاً وحيوية واستعداداً لإثبات ولائه، ولعل في العقد الماضي من الأمثلة ما يكفي للتدليل على وظيفية الأنظمة العربية وتبعيتها وارتهانها للقوى الاستعمارية، وفي العشرة الأشهر الماضية ما يكفي أَيْـضاً للتدليل على انقطاع صلتها بالجغرافيا العربية، وانتفاء ولائها لشعوبها.
ورغم الانكشاف الذي لم يسبق له مثيل خلال العقود الماضية، والذي تأكّـدت فيه بكل وضوح وظيفية الأنظمة العربية وعمالتها وتبعيتها وولائها لمشغليها، إلا أن هذه الأنظمة ومشغليها لم يقيموا أي اعتبار لردة فعل الشعوب العربية على تعري وانفضاح حقيقة أنظمة حكمها؛ اعتماداً على ما سبق أن أحدثته هذه الأنظمة من تدمير للقيم الدينية والأخلاقية لشعوب الأُمَّــة العربية، خدمة للقوى الاستعمارية الغربية المشغلة للأنظمة العربية لحسابها في كُـلّ ما يحقّق أهدافها.
العودةُ إلى القيم الإسلامية:
وليس أمامَ شعوب الأُمَّــة العربية من خيار سوى العودة لقيمها الإسلامية الأصيلة، وطريق عودتها واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وليس مبالغةً القولُ إن ذكرى المولد النبوي الشريف -على صاحبه وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم- تعد محطة مهمة للتزود بقيم دين الله القويم، والاقتدَاء بنبيه الكريم، ولعل من بركات هذه الذكرى لهذا العام عملية معبر الكرامة بين الأردن والكيان الصهيوني، هذه العملية التي تمثل بحق رسالة واضحة إلى شعوب الأُمَّــة الإسلامية وخُصُوصاً الشعوب العربية، مفادُها أن هذه الطريقة حصراً هي التي يجب أن تتبع في كُـلّ البلاد العربية والإسلامية للتعامل مع أي تواجد ليس للكيان الصهيوني فحسب، بل مع كُـلّ القوى الشريكة له في جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد تحمل الأيّام القادمة بإذن الله تعالى المزيد من بركات الذكرى العطرة لمولد النور؛ لتدشّـنَ بذلك شعوبُ الأُمَّــة مشروع عودتها إلى نبيها ودينها؛ ولتتمكّنَ بذلك من وأد مشاريع قوى الإجرام الصهيوغربية، وتلقي بأنظمة حكمها الوظيفية العميلة إلى مزبلة التاريخ.