أحلام إسرائيلية في غزة أم حرب نفسية؟
د.فايز أبو شمالة
الحرب النفسية التي تستهدف الجبهة الداخلية لأهالي قطاع غزة لا تقل شراسة وعنفاً عن الغارات الإسرائيلية الإرهابية، التي تستهدف مراكز الإيواء وخيام النازحين والمربعات السكنية، فالخط النهائي للإرهاب المادي والمعنوي الإسرائيلي هو تحطيم الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وإيصاله لقناعة تامة بأن محاربة إسرائيل من الخطايا السبع، وأن الصمود في وجه الإرهاب الإسرائيلي من المستحيلات.
في الفترة الأخيرة، وبعد قرابة سنة من العدوان الإسرائيلي على أهل قطاع غزة، وبعد أن تأكد للمستوى السياسي الإسرائيلي استعصاء صخرة غزة على الكسر، بدأت وسائل الدعاية الصهيونية في التركيز على التكوين النفسي للإنسان الفلسطيني، في مسعى لتحطيم روح الانتماء، وذلك من خلال الإيحاء بانسداد الأفق السياسي، وانغلاق المستقبل في وجه الشعب، وفقدان الأمل بالتحرر من نير الاحتلال، والخلاص من القصف العشوائي الذي يطال القريب والبعيد، وقد انصب خبث الحرب النفسية هذه على تشكيك الناس بانتمائهم، وبقدراتهم، وجدوى مقاومتهم، وعبثية صمودهم أمام القدرات الإسرائيلية الرهيبة، وذلك من خلال:
أولاً: الإعلان عن توقيع عضو الكنيست أفيحاي بورون نيابة عن الليكود رسالة موجهة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يطالب فيها بتنفيذ “خطة الجنرالات” في قطاع غزة، وهذه الخطة كان قد اقترحها جنرال إسرائيلي سابق اسمه غيورا أيلاند، وتقوم على تهجير من ظل من سكان شمال غزة إلى الجنوب، ومن ثم قطع كل الامدادات الغذائية عن 5 آلاف مقاوم، ما زالوا يخوضون الحرب ضد الجيش الإسرائيلي في غزة وجباليا وبيت لاهيا والزيتون وبيت حانون، عجز الجيش الإسرائيلي عن إخضاعهم والانتصار عليهم، ولن يتحقق ذلك إلا بعد طرد السكان، وترك المقاومين وحدهم بلا مواد غذائية، وبلا مياه للشرب، بحيث لا يبقى لهم خيارات سوى الاستسلام، أو الموت جوعاً وعطشاً، أو الموت قصفاً بالطائرات الإسرائيلية.
هذه الخطة التي تفضح عجز الجيش الإسرائيلي، وتعترف بفشلهم في تحقيق أي انتصار على أرض غزة، هذه الخطة غير قابلة للتنفيذ، وغير مضمونة النتائج، بعد أن أثبت رجال المقاومة قدراتهم التنظيمية الهائلة، واستعدادهم للقتال لسنوات طويلة، بما تبقى من أغذية وأطعمة في بيوت النازحين، وهذه الخطة التي تعتمد الحرب طويلة الأمد، لا تتناسب وقدرات الجيش الإسرائيلي الذي تعوّد على الحروب الخاطفة، والمرتكزات العملية لهذه الخطة أثبتت فشلها بعد سنة كاملة من المواجهات بين البيوت المدمرة، وللخطة تلك مخاطرها السياسية على الاستقرار في المنطقة بشكل عام، وهي مستفزة للمجتمع الدولي، ومرفوضة عربياً، ولها انعكاساتها السلبية على المجتمع الإسرائيلي نفسه، وقد هلل سابقاً للانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، ولن تخدم تلك الخطة السياسية الإسرائيلية المدعومة من الحكومة الأمريكية، في رحلة البحث عن الخروج الآمن والمشرف من مستنقع قطاع غزة.
ثانياً: الترويج لخطة صفقة تبادل كل الأسرى الإسرائيليين في غزة، مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين دون تحددي العدد والمواصفات، مقابل وقف إطلاق النار الشامل، والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، بشرط نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وخروج يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ومن يريد أن يخرج معه من قيادات حماس خارج قطاع غزة، إلى أي مكان يختارونه.
الهدف من هذه الخطة هو تحميل مسؤولية ما يلحق باهل غزة من موت وقصف ودمار إلى قيادة حركة حماس، وهذه الخطة تهدف إلى تمزيق الصف الفلسطيني من خلال الإيحاء الخبيث بأن الخلاص من السنوار وقيادة حماس، هي طريقكم يا أهل غزة للخلاص من الصواريخ الإسرائيلية والموت السريع، والخلاص من الحصار الإسرائيلي والجوع القاتل والموت البطيء.
ويعرف قادة الكيان الصهيوني أن هذا المقترح غير قابل للتنفيذ، ومرفوض من عموم الشعب الفلسطيني، قبل أن ترفضه قيادة حركة حماس، ففكرة التخلي عن الوطن، وطلب النجاة بالنفس بعيداً عن أرض فلسطين، فكرة صهيونية قديمة، لن يسمح بتكرارها الشعب الفلسطيني، وأهل غزة على استعداد للموت هم وقيادة حركة حماس ألف مرة بالحصار، وتحت القصف الإسرائيلي على أن يروا السنوار وقادة المقاومة يخرجون من غزة منكسي الرؤوس، يجرون أذيال الخزي والعار والهزيمة، في مشهد يعطي للعدو الإسرائيلي نصراً رخيصاً عجز عن تحقيقه على أرض الواقع، ويقدم الفلسطيني ذليلاً هارباً من وطنه، طمعاً في حياة المنافي واللجوء المهينة، في مشهد بائس يؤكد مصداقية الرواية الإسرائيلية عن الهجرة الطوعية للاجئين الفلسطينيين سنة 1948
ثالثاً: تركز الدعاية الإسرائيلية على مستقبل الحكم في قطاع غزة، وقد حسمت المستقبل حين عينت العميد إلعاد غورين رئيساً للجهود الإنسانية المدنية في قطاع غزة ضمن وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية، وبمفهوم أدق، تعيين حاكم عسكري ً لقطاع غزة، سيشرف على توزيع المساعدات وإعمار غزة، وأن مستقبل غزة السياسي تحت رحمة القرارات العسكرية الإسرائيلية، وأن لا دولة فلسطينية، ولا نهاية للاحتلال، ولا حياة للفلسطينيين بشكل عام إلا تحت ظلال الحكم العسكري الإسرائيلي، في الوقت الذي يدرك القاصي والداني، وتدرك القيادة العسكرية الإسرائيلية أن لا سيطرة لها على أرض غزة، وباستثناء محور صلاح الدين، ومحور وادي غزة، لا وجود للسيطرة الإسرائيلية على مناحي الحياة في قطاع غزة، ولكنها الحرب النفسية الإسرائيلية التي تسعى إلى بث الوهن في نفوس أهل غزة، والإيحاء بانتهاء المعركة بالنصر الإسرائيلي الساحق، ولاسيما حين يترافق ذلك الإعلان مع التضييق على حياة الناس، من خلال الإعلان مرة عن وقف إدخال المساعدات من خلال المنظمات الإنسانية، وإدخالها عن طريق التجار، ثم العودة ثانية للإعلان عن التوقف عن إدخال المساعدات الإنسانية عن طريق التجار، والعودة لإدخالها عن طريق المؤسسات الدولية، في رسائل سياسية تهدف إلى التشويش على حالة الاستقرار الغذائي النسبي التي يعيشها أهل قطاع غزة.
رابعاً: ويدخل ضمن الحرب النفسية ما يقوم به الوزير الإرهابي إيتمار بن غفير، ودعوته الصريحة إلى تهجير سكان قطاع غزة من ديارهم بشكل قسري، والمطالبة بعودة المستوطنات إلى قطاع غزة، وضم كل قطاع غزة إلى الكيان الصهيوني، ويطالب بسن قانون في الكنيست يقر بإعدام الأسرى الغزيين بالرصاص، حتى وصل به الأمر إلى المطالبة بسن قوانين تحد من حركة الفلسطينيين على الطرق في الضفة الغربية.
هذه التصريحات المتطرفة والتي تمثل أمنيات للصهاينة، لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع لجملة من الاعتبارات داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وعلى مستوى السياسة الدولية، والأهم من ذلك، انعكاس هذه الأحلام على مجمل الصراع العربي الإسرائيلي، لتظل مثل هذه التصريحات جزءاً من الحرب النفسية الهادفة إلى كسر الروح المعنوية لأهل قطاع غزة، وإدخالهم مرحلة التشكك في العودة إلى حياة مستقرة آمنة، والحيرة بين مستقبل غامض، وحياة المشقة الراهنة، والهدف هو الضغط على قيادة المقاومة للبحث عن أي حلول تحفظ حياة الناس في قطاع غزة، وتحفظ لأهل غزة ما تبقى لهم من أرض.
لقد مرت سنة على الأهوال التي حطت على رأس الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولن يمر عليهم في السنة الثانية من أهوال أكثر مما مر عليهم سابقاً، بعد أن تم تدمير بيوتهم، وبعد انعدام مقاومات الحياة في مدنهم ومخيماتهم، وقد اكتمل نزوحهم، وما رافقه من ذبحٍ وبرد وتجويع وترويع وعذاب وموت، لذلك تراهم اليوم أكثر صلابة من قبل، وهم اليوم أكثر وعياً بالأهداف الإسرائيلية، وأكثر إيماناً بحقوقهم، وبعجز عدوهم عن تحقيق الانتصار عليهم.