جريمةُ إبادة بعباءة حرب
جريمةُ إبادة بعباءة حرب
يمني برس- بقلم.د عبدالرحمن المختار
تكلَّفَت القوى الاستعماريةُ الصهيوغربيةُ، وتصنَّعت كَثيرًا في توصيف الحالة في قطاع غزةَ بأنها حالةُ حربٍ؛ لتستمرَّ بعباءتِها ولأكثرَ من عام في اقتراف أفعال أبشع جريمة إبادة جماعية على مَرِّ التاريخ.
وأسبغت هذه القوى وصفَ الحرب على امتداداتِ الجريمة إلى الضفة الغربية والضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت وكل لبنان، وإلى سوريا واليمن وإيران، ورَوَّجَت القوى الاستعماريةُ الإجرامية الصهيوغربية لحالة الحرب، ولا تزال تروِّجُ لها دونما اكتراث بقواعد القانون الدولي، التي حدّدت بكل وضوح مفهوم حالة الحرب وأطرافها؛ لتمييزِها عن غيرها من الوقائع التي تختلفُ عنها تمامًا من حَيثُ التبعات والمسؤوليات بالنسبة لأطرافها أَو لغيرهم؛ فالمادة (2) من اتّفاقية جنيف الأولى لسنة 1949م نصت على أن (… تنطبقُ هذه الاتّفاقيةُ في حالة الحرب المعلَنة أَو أيِّ اشتباك مسلَّحٍ آخَرَ ينشبُ بين طرفَينِ أَو أكثرَ من الأطراف السامية المتعاقدة، حتى لو لم يعترفْ أحدُها بحالةِ الحرب).
هذا النصُّ يحدِّدُ بشكل واضح أن الأطرافَ في حالة الحرب لا بُـدَّ أن يكونوا دُوَلًا مستقلةً ذاتِ سيادة (بين طرفَينِ أَو أكثَرَ من الأطراف السامية المتعاقدة) ليمكِنَ وَصْفُ الحالة بأنها حالةُ حرب؛ بمعنى أن تكونَ هذه الدولُ الأطرافُ في الحرب الموصوفة بأنها (سامية) أطرافًا متعاقدةً أَو موقِّعةً على الاتّفاقية الدولية، وقد لا يكونُ أحدُ أطراف الحرب طرفًا في الاتّفاقية؛ فهل معنى ذلك أن تتنصَّلَ الدولةُ الطرفُ فيها من التزاماتها القانونية؟ هذه الحالةُ ورد التأكيدُ عليها في الفقرة الثانية من المادة السابقة التي نصت على أنه (وإذا لم تكن إحدى دول النزاع طرفًا في هذه الاتّفاقية؛ فَــإنَّ دول النزاع الأطراف فيها تبقى مع ذلك ملتزمة بها في علاقاتها المتبادلة، كما أنها تلتزم بالاتّفاقية إزاء الدولة المذكورة إذَا قبلت هذه الأخيرة أحكامَ الاتّفاقية وطبَّقتها).
ويوجب نص هذه الفقرة على الدولة أَو الدول الطرف في النزاع وفي الاتّفاقية، الالتزامَ بأحكامها في مواجهة الدولة الأُخرى الطرف في الحرب إذَا ما قبلت الالتزام بأحكام الاتّفاقية، والواضح من خلال نَصَّي الفقرتين الأولى والثانية من المادة السابقة أن وصف النزاع المسلح -بين طرفين أَو أكثر- بأنه حالة حرب لا يصح إلا إذَا كان طرفاه دولًا مستقلة ذات سيادة، سواءٌ أكانت هذه الدول جميعها أطرافًا في اتّفاقية جنيف أَو كان أحد أطراف النزاع المسلح طرفًا في الاتّفاقية، ولم يكن الطرف الآخر طرفًا فيها؛ فَــإنَّ ذلك لا يعفي الدولةَ أَو الدولَ الطرفَ في الاتّفاقية من الالتزام بأحكامها، في مقابل التزام الطرف الآخر في الحرب وغير الطرف في الاتّفاقية الالتزام بأحكامها، لكن ما هي الالتزامات الواردة في اتّفاقية جنيف الأولى لسنة 1949م التي يتوجب على الدول الأطراف في الحرب والأطراف في الاتّفاقية الالتزام بها؟
وردت هذه الالتزاماتُ في عدد من موادِّ الاتّفاقية ومنها ما ورد في الفقرة الأولى من المادة (19) من الاتّفاقية ونصه: (لا يجوزُ بأي حال الهجومُ على المنشآت الثابتة والوحدات المتحَرّكة التابعة للخدمات الطبية، بل تُحترَمُ وتُحمَى في جميع الأوقات بواسطة أطراف النزاع. وفي حالة سقوطها في أيدي الطرف الخصم، يمكن لأفرادها مواصلة واجباتهم ما دامت الدولة الآسرة لا تقدم من جانبها العناية اللازمة للجرحى والمرضى الموجودين في هذه المنشآت والوحدات).
ومن هذا النص يتضح أنه يتوجب على الدول الأطراف في النزاع المسلح الموصوف بأنه حرب لقيامه بين دولتين أَو عدد من الدول المستقلة ذات السيادة، سواءٌ أكانت جميعُها أعضاءً في الاتّفاقية أَو بعضها أَو لم تكن كذلك، عليها واجب الالتزام بعدم مهاجمة المنشآت الطبية التابعة للطرف الآخر، سواءٌ أكانت هذه المنشآت ثابتة أَو متحَرّكة؛ فواجب الدول الأطراف في الحرب حماية هذه المنشآت في جميع الأوقات، واحترام العاملين فيها، حتى في الأحوال التي تصبح فيها هذه المنشآت تحت سيطرة الطرف الآخر في الحرب؛ فالأصل -وَفقًا لمقتضى هذا النص- أن تستمر في العمل وتقدم خدماتها للجرحى، خُصُوصًا في الحالة التي لا تقدم فيها الدولة الخصم العناية للجرحى والمرضى المتواجدين في هذه المنشآت، وأوجبت الفقرة الثانية من هذه المادة على الدول الأطراف في الحرب بذل أقصى جهودها لتجنيب هذه المنشآت خطر الهجمات على الأهداف الحربية، وذلك بنصها التالي: (وعلى السلطات المختصة أن تتحقّق من أن المنشآت والوحدات الطبية المذكورة أعلاه تقع بمنأى عن أي خطر تسببه الهجمات على الأهداف الحربية) ونصت المادة (24) من هذه الاتّفاقية على أن (يجب -في جميع الأحوال- احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية المشتغلين بصفة كلية في البحث عن الجرحى والمرضى أَو جمعهم أَو نقلهم أَو معالجتهم، أَو في الوقاية من الأمراض، والموظفين المشتغلين بصفة كلية في إدارة الوحدات والمنشآت الطبية، وكذلك رجال الدين الملحقين بالقوات المسلحة).
ولا يقتصر التزام الدول الأطراف في الحرب بما ورد في الاتّفاقية من حماية للمنشآت الطبية القائمة، بل إن هذه الاتّفاقية -مراعاة للجانب الإنساني- أضافت التزامات أُخرى على عاتق الدول الأطراف في الحرب كما ورد ذلك في المادة (23) من الاتّفاقية بنصها على أنه (يجوز للأطراف السامية المتعاقدة في وقت السلم، ولأطراف النزاع بعد نشوب الأعمال العدائية، أن تنشئ في أراضيها، أَو في الأراضي المحتلّة إذَا دعت الحاجة، مناطقَ ومواقعَ استشفاء منظَّمةً بكيفيةٍ تسمحُ بحماية الجرحى والمرضى من أضرار الحرب، وكذلك حماية الأفراد المكلَّفين بتنظيم وإدارة هذه المناطق والمواقع وبالعناية بالأشخاص المجمَّعين فيها).
وإذا ما قَبِلْنَا جدلًا بمنطق القوى الاستعمارية الصهيوغربية بأن الحالة القائمة في غزة حالة حرب، وقيَّمنا مدى التزام هذه القوى بما أوجبته عليها الاتّفاقية من التزامات قانونية تجاه المنشآت الطبية الثابتة أَو المتحَرّكة، لوجدنا أن هذه القوى التي روَّجت لحالة الحرب، قد انتهكت ولا تزال تنتهكُ الالتزامات الواردة في الاتّفاقية بشكل صارخ؛ فهي لم تحمِ هذه المنشآتِ ولم تحترم العاملين فيها، حَيثُ كانت هدفًا لهجماتها الجوية المباشرة وقصفِها واقتحامها بمدرعاتها، واعتقال وتعذيب وقتل العاملين فيها، وإبادة جميع من تُقدَّمُ لهم الرعاية الطبية ولم تستثنِ حتى الأطفالَ الخُدَّجَ في حاضناتهم!
ويعد سلوك القوى الاستعمارية الصهيوغربية -في مواجهة المنشآت الطبية والعاملين فيها والمتلقين للعناية الطبية من جانبها- تجسيدًا لمدى انحطاط هذه القوى وسقوطها القيمي والأخلاقي والإنساني، ولم تقتصر الحماية التي وفَّرتها اتّفاقية جنيف على المنشآت الطبية المدنية والعاملين فيها ومن يتلقون العناية من الجرحى والمرضى، بل شملت هذه الحماية الطواقم العسكرية المعدة والمدرَّبة للقيام بالمهام الإسعافية، حَيثُ نصت المادة (25) منها على أنه (يجب بالمثل احترام وحماية أفراد القوات المسلحة الذين يدرَّبون خصيصًا لاستخدامهم عند الحاجة كممرضين أَو حاملين مساعدين لنقالات المرضى في البحث عن الجرحى والمرضى أَو جمعهم أَو نقلهم أَو معالجتهم، وذلك إذَا كانوا يؤدُّون هذه المهامَّ في الوقت الذي يقعُ فيه احتكاكٌ مع العدوّ أَو عندما يقعون تحت سلطته)، وألزمت الفقراتُ الثلاثُ من المادة (35) من هذه الاتّفاقية الدولَ الأطرافَ بعدد من الواجبات تتعلق بوسائل النقل الطبية المتحَرّكة وحالات وقوعها في يد الطرف الآخر في الحرب فنصت على أنه (يجب احترام وحماية وسائل نقل الجرحى والمرضى أَو المهمات الطبية شأنُها شأنُ الوحدات الطبية المتحَرّكة.
وفي حالة وقوع هذه الوسائل أَو المركبات في قبضة الطرف الخصم، فَــإنَّها تخضعُ لقوانين الحرب؛ شريطةَ أن يتكفل طرف النزاع الذي يأسرُها بالعناية بالجرحى والمرضى الموجودين فيها في جميع الحالات.
ويخضع الأفراد المدنيون الذين يحصل عليهم، وجميع وسائل النقل التي يحصلُ عليها عن طريق الاستيلاء، لقواعد القانون الدولي العامة).
وَإذَا كانت القوى الاستعمارية الصهيوغربية -بسلوكها المنحط المتجرد من أبسط القيم الإنسانية- قد استهدفت المنشآت الطبية المدنية والعاملين فيها والمرضى والجرحى المتلقين للعناية من جانبها، ولم تستثنِ حتى الأطفالَ الخُدَّجَ -كما ذكرنا آنفًا- وحوَّلت بنيانها إلى ركام وساحاتها إلى مقابرَ جماعية لمن فيها من العاملين والجرحى والمرضى، فكيف يمكن أن يكون تعاملها مع الطواقم الطبية العسكرية من الممرضين والمسعفين للجرحى من العسكريين؟ وهي التي استهدفت سيارات الإسعاف والطواقم الطبية المدنية وهي تؤدي واجبها في انتشال الضحايا من بين الأنقاض من النساء والأطفال وكبار السن، فكيف سيكون تعاملها مع الطواقم الطبية العسكرية؟
والقوى الاستعمارية الغربية وهي تروج على مدى أكثر من عام كامل لما جرى ويجري في قطاع غزة بأنه حالة حرب، تجاهلت تمامًا أن لحالة الحرب واجباتٍ يقعُ على عاتق الدول الأطراف فيها الالتزامُ بها، وقواعد يتوجب على هذه الدول احترامُها وعدمُ انتهاكها، حَيثُ نصت المادة (49) من الاتّفاقية على أنه (تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعَّالة على الأشخاص الذين يقترفون أَو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتّفاقية، المبينة…)، وتفترض هذه المادة أن اقترافَ المخالفات يتم بصورة فردية من جانب من يقترفونها من الأفراد أَو من يأمرون باقترافها من القيادات العسكرية؛ ففي هذه الحالة يتوجَّبُ على الدولة الطرف في الحرب سَــنُّ القوانين التي تفرِضُ العقوبات الجنائية على مقترفي المخالفات أَو الآمرين باقترافها، ويبدو أنه لم يكن واردًا بذهنية من صاغوا اتّفاقية جنيف الأولى سنة 1949، قبل خمس وسبعين سنة أن يتجاوز مستوى الإجرام الأفراد ليصبح في الوقت الراهن سلوكًا ممنهجًا من جانب الدول الموقِّعة على الاتّفاقية والمتعهِّدة باحترامها وتنفيذ أحكامها وفرض العقوبات على من يخالفها من أفراد قواتِها العسكرية! لكنه الانحطاط الأخلاقي والسقوط القيمي والإنساني للقوى الاستعمارية الصهيوغربية!
وقد تضمَّنت المادة (50) من هذه الاتّفاقية المخالفاتِ التي يتوجب على الدول الأطراف في الحرب معاقبةُ مقترفيها والآمرين باقترافها من ضباط وأفراد قواتها العسكرية في حال كانت تلك التصرفات فرديةً، وذلك بنصها على أن (المخالفاتِ الجسيمة التي تشير إليها المادة السابقة هي التي تتضمَّنُ أحدَ الأفعال التالية إذَا اقتُرفت ضد أشخاص محميين أَو ممتلكات محمية بالاتّفاقية: القتل العمد، التعذيب أَو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارِب الخَاصَّة بعِلم الحياة، تعمد إحداث آلام شديدة أَو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أَو بالصحة، تدمير الممتلكات أَو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرّره الضروراتُ الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية).
وكل ما ورد في هذه المادة من تعداد للمخالفات الجسيمة المتمثلة في القتل العمد والتعذيب والمعاملة غير الإنسانية ونزع وسلخ جلود الأفراد والأعضاء البشرية والاحتفاظ بها في بنوك مخصَّصة لذلك، والمتاجَرة بها، وما أحدثه للأفراد من آلام شديدة وأضرار بصحتهم وسلامتهم البدنية، وتدمير لممتلكاتهم بطريقة تعسفية، كُـلُّ هذه الجرائمِ لا يقترفُها ضباطٌ وأفرادٌ تابعون للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، بل تقترفها هذه القوى ذاتها بشكل مقصود ومتعمد وممنهج ومخطّط له مسبقًا؛ بهَدفِ تحقيق غايات استعمارية، تحللت هذه القوى في سبيل تحقيقها من كُـلّ الالتزامات القانونية التي تعهدت سابقًا بالالتزام بها كما ورد في المادة (51) من الاتّفاقية ونصه (لا يجوز لأي طرف متعاقد أن يتحلل أَو يحل طرفًا متعاقدًا آخر من المسؤوليات التي تقع عليه أَو على طرف متعاقد آخر فيما يتعلق بالمخالفات المشار إليها في المادة السابقة)، ولم يقتصر تحلل القوى الاستعمارية الصهيوغربية من التزاماتها القانونية الواردة في هذه الاتّفاقية أَو في غيرها من الوثائق القانونية الدولية، بل إنها تحللت كذلك من كُـلّ القيم الأخلاقية والإنسانية الفطرية.
وإذا كانت القوى الاستعماريةُ الصهيوغربية قد تكلَّفت وتصنَّعت كَثيرًا -كما ذكرنا آنفًا- لإسباغ صفة الحرب على ما جرى ويجري في قطاع غزة منذ أكثر من عام وامتداداته إلى الضفة الغربية والضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت وَكل لبنان عُمُـومًا، وَإذَا كنا قد أصلنا لحالةِ الحرب بأنها نزاعٌ مسلح أطرافُه دولٌ مستقلة ذات سيادة موصوفة بأنها أطراف (سامية) وفقًا للقانون الدولي وتحديدًا لاتّفاقية جنيف الأولى لسنة 1949م، وَإذَا كانت حالة الحرب توجبُ على الأطراف فيها الالتزامَ بعدد من الالتزامات التي ورد النصُّ عليها في الاتّفاقية، وَإذَا كانت القوى الاستعمارية الصهيوغربية التي استساغت الترويجَ لحالة غزة وامتداداتها بأنها حالة حرب، قد انتهكت بشكل صارخ وسافر كُـلَّ ما تعهَّدت به من التزامات نصت عليها الاتّفاقية، وَإذَا كان ما جرى ويجري في غزةَ وامتداداتُه لا ينطبقُ عليه وَصْفُ الحرب بأيةِ حالٍ من الأحوال، وَفقًا لأحكام القانون الدولي، وخُصُوصًا ما أوردناه من نصوص اتّفاقية جنيف الأولى؛ فَــإنَّ الحالة في غزة بكل وضوح تمثِّلُ جريمةَ إبادة جماعية، ألبستها القوى الاستعمارية الصهيوغربية رداءَ الحرب؛ لتتخلَّصَ هذه القوى الإجرامية من وَصْمَةِ العارِ الأبدية لاقترافها جريمة الإبادة الجماعية؛ ولتتنصَّلَ من المسؤولية القانونية والأخلاقية والإنسانية المترتِّبة على اقترافها لهذه الجريمة.