اليمن حين علَّم العالم مفهوم التحرر من التسلُّط الأمريكي
اليمن حين علَّم العالم مفهوم التحرر من التسلُّط الأمريكي
يمني برس- تقرير
ما إن شن الكيان الصهيوني عدوانه السافر على الفلسطينيين في غزة حتى تحركت الجماهير اليمنية في جموع مليونية منددة ورافضة لهذا الاعتداء الهمجي على النساء والأطفال وكبار السن، وتكامل الموقف بين الشعب والقيادة ليتفرد اليمن على مستوى العالم العربي والإسلامي بهذه الهبّة التي لم تقف عند حدود الخروج الى الساحات والهتاف باسم فلسطين ضد أعداء الأمة من أمريكان وصهاينة، وإنما – أيضاً – أكدت كلماتهم وتصريحاتهم كاملَ الاستعداد لأن يكونوا جزءاً من المعركة دفاعاً عن الأبرياء المستضعفين، وضد هذا الاستكبار والاستفراد بالشعب الفلسطيني.
على عكس اليمن كان خذلان العرب والمسلمين لقضيتهم واضحاً، وأحد أهم العوامل التي ساعدت العدو على الاستمرار في عدوانه من جهة، ومن جهة ثانية على الذهاب بالجرائم والمجازر إلى أبعد مستوى من التعدي على كل القواعد الأخلاقية والإنسانية في إدارة المعركة.
ربما ليس بالغريب على الكيان الصهيوني أن ينحو منحى الوحشية والإبادة الجماعية للفلسطينيين، لأن عقيدته تُملي عليه بإبادة كل العرب والمسلمين إنْ أمكنه ذلك، كما ليس بالغريب أن يتواطأ الغرب الاستعماري مع هذا العدوان وانتهاكِه للقوانين الدولية، إنما الغريب أن يأتي الخذلان العربي بهذا المستوى من القسوة، وكأن الشعب الفلسطيني ليس جزءاً من نسيجنا العربي والإسلامي، أو بمعنى أصح: كأن هذا الشعب المكلوم مشكلة لابد من الخلاص منها.
لا شيء يبرر كل هذه السلبية وهذه اللامبالاة تجاه قضية الأمة الأولى، ولا شيء يبرر هذه المشاركة السافرة لبعض العرب في إبادة شعب مسلم عربي كان منذ البداية ضحية الخذلان والتواطؤ، والدرعَ البشري الأول للأمة في وجه المخطط الصهيوني لابتلاع المنطقة، بل وتعكس هذه السلبية مستوى ما صارت إليه وعليه حالة الارتهان العربي، وفقدان الأنظمة العربية لقرارها حتى في التعبير عن الرفض لانتهاك حقوق الإنسان، وبدلاً عن ذلك نجد منهم المشاركة المباشرة وغير المباشرة في الهجمات العسكرية التي بنفذها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وفي مدّ الحبل السُرّي لكيان العدو وإسعافه بالغذاء والدواء إثر الحصار البحري الذي فرضه عليه اليمن.
واحدية الموقف
خروج اليمنيين، وواحدية موقف اليمن على كل المستويات يُعري حالة العجز والوهن التي أصابت الأمة العربية، فحتى على مستوى الجامعة العربية لم يكن هناك موقف على الأقل من جانب إنساني أو أخلاقي مع شعب يُبادُ بوحشية على مرأى ومسمع من العالم.
كان اليمن طوال عام من المساندة يُصعّد في شكل مساندته، فمن الرفض الصريح لاستضعاف الشعب الفلسطيني إلى التحرك عسكرياً لإسناد معركة طوفان الأقصى، كما تصاعدت العمليات العسكرية بشكل ملفت لتؤكد رغبة اليمنيين الحقيقية الخالية من شوائب المزايدات والاستعراض بالشعارات؛ لإيلامِ العدو، ولولا الموقف العربي غير الأخلاقي لكان بالإمكان صنع التحولات السريعة في المعركة لصالح الفلسطينيين والمقاومة، مع ذلك ظلت مثابرة اليمنيين تصفع الجبناء وتكشف ضآلتهم.
الحداثيون بين “الهولوكوست” وغزة
وما يكشف – أكثر – الوضعية المرتهنة لأمريكا و”إسرائيل” هذه الازدواجية في المعايير التي يتبعها العرب والعالم، مع أهالي غزة الجريحة، اصطنع اليهود لهم مأساة على يد ادولف هتلر وأسموها محرقة “الهولوكوست” حتى جعل الغرب منها واحدةً من مظاهر عدم احترام حقوق الإنسان، وعنواناً لقناعات مشوَهة عن رفض العنف والإبادة الجماعية؛ وجعلوها في مناهجهم وجزءاً من ثقافتهم، فيما يرتكب العدو الصهيوني المجازر ضد الشعب الفلسطيني، طوال (75) عاماً تجد الغرب لا يرون في ما يجري شيئاً يستحق حتى مجرد الإدانة، بل ولا يجدون حرجاً من صمتهم وتخاذلهم وهم يشاهدون ويسمعون أصواتاً غربية حرّة تؤكد على أن ما تنتهجه “إسرائيل” بحق الفلسطينيين هو إبادة جماعية لا يصح أن تستمر، وبعض المظاهرات التي شهدها ويشهدها العالم، بينما ينام العرب المتفيقهون في سُبات الغفلة. وأكثر من ذلك أنهم لا يجرؤون حتى على تشبيه جرائم العدو في غزة بتلك المحرقة المسماة بـ”الهولوكوست” التي ينكرها العديد من العلماء والمؤرخين الألمان والأمريكان.
تقول المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين فرانشيسكا ألبانيز: “كيف يمكننا تجاهل ما يحدث في غزة الآن؟ هذه مأساة”، وتقول أيضاً: “وبصريح العبارة أقول دون تردد: إن ما يحدث في غزة ليس حرباً، بل إبادةٌ جماعية”.
حديث المقررة الأممية وتصريحاتٌ مشابهة لم تشجع – كما يبدو – أصحاب الشعارات من الحداثيين العرب لأن يكون لهم صوت حُر مثل هذا الصوت في تقييم الواقع كما هو حاصل، على أقل تقدير إن لم يدفعهم انتماؤهم العربي والإسلامي إلى الدفاع عن الشعب المنكوب.
بينما تؤكد الأمم المتحدة بان مأساة غزة لم يشهد لها مثيل في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ففي تصريح لافت لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” يوم الجمعة، أكدت بأنّ قطاع غزة يشهد منذ أكتوبر 2023 أشدّ قصف استهدف مدنيين منذ الحرب العالمية الثانية.
ويَذكر المفوّض العام لوكالة “الأونروا”، فيليب لازاريني في بيان له على منصة “إكس” أنّ “ما لا يقل عن 70% من القتلى (الشهداء) في العدوان على غزة هم من النساء والأطفال، بينهم فتيات”.. لافتاً إلى أنّ العملية العسكرية المستمرة للعدو الصهيوني على شمال غزة منذ سبعة أسابيع أدّت إلى تهجير 130 ألف شخص فلسطيني، وهم الآن لاجئون يبحثون عن مأوى في المنازل المهجورة والعيادات أو المتاجر المدمّرة، فيما ينام البعض الآخر في العراء.
ويضيف المفوّض العامّ: “في جميع أنحاء غزة هناك نحو 50 ألف امرأة حامل يكافحن – بالتوازي مع النساء المرضعات – من أجل البقاء وسط أكوامٍ من القمامة والصرف الصحي”. مشدداً على ضرورة تدفّقٍ منتظم وموحّد للإمدادات الغذائية والدواء.
إعادة إنتاج الماضي
اليمن المتحرر من قيود الشعارات الزائفة التي تجعل اليهود في المرتبة العليا على العالم؛ يدرك أن تحريك العدو الصهيوني اليوم هدفه تحديث عملية الاستهداف للأمة العربية والإسلامية، وإعادة إنتاج الماضي بصيغة جديدة تكون فيه كلمة أمريكا والكيان على كل دول المنطقة هي العليا، وما على الآخرين إلا التنفيذ. وهو ما نوهت به القوات المسلحة اليمنية في برقية تهنئة للقيادة بمناسبة العيد الـ 57 للاستقلال (30 نوفمير)؛ مؤكدة إدراكها للتحديات الجسيمة التي تستهدف الأمة العربية والإسلامية، حيث “تحاول القوى الإمبريالية اليوم إعادة الماضي من خلال فرض وجودها في المنطقة مستخدمةً منطق القوة، ومستفيدة من أدواتها من الخونة والعملاء، ودافعة بكيانها الصهيوني المجرم ليكون أداةً لتنفيذ أجندة ثلاثي الشر أمريكا وبريطانيا والكيان المؤقت، وفرض واقع جديدٍ يتنافى مع كل القوانين والمواثيق الدولية تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد.” حسب ما جاء في البرقية.
كما أكدت القوات المسلحة على “أننا – وبفضل بصيرة قيادتنا الحكيمة ممثلة بالسيد العلم المجاهد عبد الملك بدر الدين الحوثي حفظه الله – أدركنا هذا الواقع وأعددنا العدة وبنينا القوة وانطلقنا من إيماننا بصوابية النهج وعدالة القضية؛ وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.”
وتعهدت القوات المسلحة بأنها “ستظل رأس الحربة في الدفاع عن الدين والأرض والعرض ومقدسات الأمة” مجددة العهد “لحماية كل شبر من ترابنا الطاهر ومساندة إخواننا في غزة ولبنان حتى يتوقف العدوان أو يتحقق النصر بإذن الله تعالى”.
هذه اللحمة والايمان بقضية واحدة وهدف واحد هي من أبرز المثيرات لقلق أمريكا والقوى الغربية الإمبريالية، إذ أن مجتمعاً بكل فئاته يسير في اتجاه واحد، يؤمن بأنه يقوم بمسؤوليته تجاه قضايا الأمة؛ من الصعب هزيمته.
في الوقت ذاته تأمَنُ أمريكا و”إسرائيل” جانب بقية الأنظمة العربية التي تعيش على رضى البيت الأبيض، فأنظمة لا تجرؤ على تأييد قرارٍ للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس حكومة كيان العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير أمنه المُقال يوآف غالانت بتُهَم ارتكاب جرائم حرب في غزة؛ جديرة – من وجهة نظر واشنطن – بدعم بقائها على كراسي الحُكم كدروع حماية للكيان الصهيوني.
العمليات اليمنية مستمرة
وعلى ضوء كل ذلك تواصل القوات المسلحة اليمنية شن ضرباتها المنتظمة ضد كيان العدو الصهيوني، كما تفرض حظراً على دخول السفن إلى موانئه، نصرةً لغزةَ والشعب الفلسطيني.
وكان السيد القائد – يحفظه الله – جدد الخميس 28 نوفمبر التأكيد على مواصلة اليمن تنفيذ عملياتها العسكرية ضد كيان العدو، وفرض الحصار البحري نصرة للشعب الفلسطيني في غزة.
يقول عضو المجلس السياسي الأعلى محمد علي الحوثي عن عمليات مرحلة التصعيد الرابعة في البحر: “بفضل الله تعالى استطاع الشعب اليمني طرد ثلاث حاملات طائرات، وهذا إنجاز كبير وعظيم. وحاليا يقال إن هناك حاملة طائرات أمريكية في طريقها إلى البحار اليمنية. ونقول لهم بأن القوات المسلحة اليمنية تمتلك من القدرات أفضل مما واجهت به حاملات الطائرات الفارة”.
جاء ذلك خلال فعالية خطابية بمناسبة العيد الـ 57 للاستقلال الـ 30 من نوفمبر المجيد قبل أيام، وأضاف عضو السياسي الأعلى: “ننصح الأمريكيين بأن يعيدوا حاملة الطائرات إلى الولايات المتحدة أو تذهب إلى بحر الصين. أما البحرين الأحمر والعربي فهما منطقة محظورة على تلك الأدوات القذرة التي تأتي لمساندة العدوان الصهيوني والإبادة الجماعية بحق سكان غزة”.
أما دولياً فقد أكد موقع “بيزنس إنسايدر” الأمريكي – السبت أن “معركة الجيش الأمريكي مع “الحوثيين” وصلت إلى طريق مسدود خطير” بحسب تعبيره، مُشيرًا إلى أن “عاماً من القتال المكثّـف” لم يُقرِّب الولايات المتحدة من إنهاء “التهديد” الذي يشكِّلُه اليمن. وأعاد الموقع التأكيد بأن “الجيش الأمريكي يقاتِلُ دون طريق واضحة إلى النصر”.
وقال تقرير (بيزنس إنسايدر): إنه “في غياب أية نهاية واضحة في الأفق، فَــإنَّ الصراع يثير مخاوفَ حقيقية بشأن الاستدامة، فعلى مدار العام الماضي، أطلقت البحرية الامريكية مئات الذخائرِ في عملياتها في الشرق الأوسط، بتكلفة تجاوزت 1.8 مليار دولار، واستنزفت وزارة الدفاع الكثير من الصواريخ الرئيسية التي كلفت الكثير من المال”.
ويؤكد هذا الإقرار للعالم العربي والإسلامي بشكل خاص، ولكل المستضعفين في العالم بشكل عام، بالهزيمة الأمريكية أمام اليمن. وهو ليس بالإقرار الجديد فقد سبقته عشرات التصريحات المؤكدة على ذلك، وعلى أن يمن الايمان الذي تجاوز الخوف، وتسلح بما أمكن من قوة ومن رباط الخيل؛ كفيلٌ بان يحرز نجاحاً ويحقق نصرا، وهذا – ربما – ما تحتاجه الأنظمة العربية والإسلامية لاستعادة زمام المبادرة، وعدم تمكين الأعداء من استهداف الأمة فُرادى.
إن ما يجري في غزة هو المحك اليوم، وغربال الفرز للصادقين والمنافقين، والوقت لم يفُت بعد للنهوض من حالة الاستلاب إلى الوقوف بجدية مع المقاومة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من براثن الصهاينة، وهي مسألة توجبها القيم والأخلاق إن كان لا زال في قاموس هؤلاء هذه القيم وهذه الأخلاق.
أما اليمن فيكفيه الضمير الحي الذي حرك كل أبنائه لرفع الصوت ضد الغطرسة الصهيونية، وللالتفاف حول القيادة في عملية الإسناد.
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي اللبناني وسيم بزي أن الحضور اليمني في معركة طوفان الأقصى مثّل أحد عناصر المفاجأة الكبرى، كما مثل نقطة الثقل التي أعطت لجبهات الإسناد طبيعة استراتيجية مختلفة.
وقال بزي في حوار صحفي السبت: “إن اليمنيين لم يكتفوا بإغلاق مرفأ “إيلات” وقطع أحد أهم شرايين الحياة عن كيان العدو، وإثقاله بالخسائر ورفع التأمين على البضائع؛ بل كان الحصار اليمني على الكيان ذا مضمون استراتيجي ضربَ كل سلاسل التوريد التي يقتات منها العدو من الجهة الآسيوية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب”. مشيراً إلى ان اليمن أجبر أمريكا وبريطانيا على النزول لخوض معركة بحار غير مسبوقة مع اليمنيين على مساحات البحر الأحمر والبحر العربي ومضيق باب المندب والمحيط الهندي.
وأضاف أن بأس اليمنيين وإرادتهم الصلبة والتوظيف الذكي جداً لمقدراتهم العسكرية الصاروخية والبحرية فرضت على أعتى حاملات الطائرات الأمريكية، وأعظم مدمرات بريطانيا وألمانيا وهولندا وفرنسا أن تهرب.
وقال وسيم بزي: “إن مّا قام ويقوم به اليمنيون على جبهة معركة البحار قَلَبَ كل المفاهيم العسكرية التي حكمت أمريكا من خلالها هذا العالم منذ الحرب العالمية الثانية.