عام 2025 .. سورية إلى أين؟
عام 2025 .. سورية إلى أين؟
|| صحافة ||
للمرة الأولى منذ عقود تودع سورية عاماً وتستقبل عاماً جديداً وقد طوت واحدة من أهم المراحل في تاريخها، استمرت لما يزيد عن نصف قرن من حكم حزب “البعث العربي الاشتراكي” وسقوط نظام بشار الأسد بعد تسليمه الحكم لسلطة الأمر الواقع الحالية ممثلة بـ”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا المصنفة دوليًا منظمة ارهابية) بزعامة “أبي محمد الجولاني” أو من بات يعرف بـ”القائد العام أحمد الشرع” ..
وليس من السهولة بمكان أن يتمكن الكثير من السوريين من استيعاب هذا التحول الجذري بكل مجالاته ومستوياته الاجتماعية والسياسية والمعيشية والفكرية وحتى الإيديولوجية، كما أنه لن يكون من اليسير عليهم استشراف ما ينتظرهم في إطار التوجهات الحالية والمستقبلية لدولتهم الجديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي في ظل ضبابية المشهد الحالي وتشابكاته الداخلية والإقليمية والدولية، والتسارع الجديد والممنهج للإجراءات و القرارات والمواقف المصيرية الصادرة عن سلطة الأمر الواقع وقائدها “أحمد الشرع” ليكون السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم في ذهن كل سوري وكلّ عربي وكلّ متابع هو: “سورية إلى أين؟”
إن الإجابة على هذا السؤال تستوجب منا رصد المواقف والإجراءات التي صدرت عن سلطة الأمر الواقع حتى اليوم، وكذلك تستدعي تقصياً للمواقف وردود الأفعال الصادرة عن الدول الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة في الملف السوري، والانطلاق من ذلك كله لاستقراء المستقبل السوري القريب و المتوسط، والتحديات التي يمكن أن تواجهها سورية.
على الصعيد الداخلي:
إن العناوين الرئيسية الأكثر إلحاحاً على المديين القريب والمتوسط تتمثل باستعادة الأمن، والوضع المعيشي، وإعادة الإعمار، ووحدة البلاد، وطبيعة النظام الاقتصادي، وهيكلية النظام السياسي، وطبيعة النظام الجديد بين المدنية والإيدولوجية، والحريات العامة، وتشكل هذه العناوين أهم التحديات التي تواجه السلطة الجديدة.
من الناحية الأمنية وهي الأكثر إلحاحاً لا تزال البلاد تعيش حالة نسبية من الانفلات الأمني عبرت عنها العشرات من حوادث القتل العشوائي والانتقام السري، وعلى الرغم من محاولة السلطة تبرير ما يجري بأنه حوادث فردية غير منضبطة فإن الاشتباه بكونها أعمال انتقام ممنهجة يبدو مرتفعاً إذا ما أخذنا بالاعتبار أنها تستهدف فئات بعينها تتبع لطائفة معينة أو لشخصيات عسكرية ومدنية كانت محسوبة على النظام السابق، حيث انتشرت العشرات من مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي التي تؤكد ذلك، والحقيقة أن ذلك ناتج بالدرجة الأولى عن انكشاف الوضع الأمني نتيجة قيام السلطة الحالية بحل أجهزة الأمن والشرطة في الوقت الذي سيستغرق تشكيلها لأجهزة شرطية وأمنية جديدة أشهرًا عدة مما يعني استمرار حالات الفوضى المنظمة وغير المنظمة، وهو أمر بات يقلق شرائح واسعة من الشعب السوري وخاصة الأقليات.
ومن النواحي الاقتصادية والمعيشية والتنموية فمن الواضح أن السلطة الحالية تعاني من العجز في تأمين الأموال اللازمة لكل ذلك، فيما تسود حالة من القلق حول توفر الأموال اللازمة لصرف رواتب موظفي الدولة الذين يشكلون شريحة واسعة من الشعب وعدم القدرة على رفع قيمتها التي تنخفض تحت خط الفقر بكثير ويهدد بانتشار الجوع، وفي الوقت ذاته فإن إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية من قبل السلطة الجديدة باتت تهدد بطرد الكثير منهم من وظائفهم إلى جانب التغييرات الممنهجة في الإدارات والكفاءات واستبدالها بعناصر تتبع وتؤيد السلطة الحالية، ويوحي كل ذلك بحالة من القلق وعدم الاستقرار التي تتهدد الجانب المعيشي وتنعكس سلباً على كامل عملية التنمية في الفترة القادمة.
ومن الناحية الاقتصادية تشكل القرارات المتخذة بالتحول نحو اقتصاد السوق الحر نقلة حادة ستترك آثارها في الاقتصاد السوري وفي معيشة المواطن، ما يهدد الأمن الغذائي لمئات الآلاف من العائلات التي ستفقد الدعم الحكومي على الخبز والمحروقات، وستدفع باتجاه إفلاس الكثير من الشركات والمؤسسات أمام ظهور طبقة جديدة من رأس المال المتوحش سواء الداخلي التابع للسلطة أو الخارجي الطامع بدخول السوق السورية وتحديداً من تركيا قبل غيرها.
ومن الناحية السياسية، تبدو السلطة الحالية على غير عجلة من أمرها لجهة السماح بتشكيل الهيكل السياسي لنظام الدولة الجديد، وفي الوقت الذي قامت بتشكيل حكومة أطلقت عليها توصيف “إنقاذية” من لون واحد بحجة الحاجة للانسجام، فإن حديث السلطة عن إطلاق مؤتمر للحوار الوطني مطلع العام الحالي لا يبدو مشجعًا خاصة أنها قد حصرت الدعوة له والمشاركة فيه بشخصيات اعتبارية فردية من دون السماح للقوى السياسية والمنظمة بالحضور بصفتها الحزبية أو المؤسساتية، وهو ما ينطبق أيضاً على قوى المعارضة في الداخل والخارج، وبطبيعة الحال على حزب البعث و الأحزاب التي كانت في السلطة، والتي جرى تجميدها تمهيدًا لحلها، والحقيقة هي أن السلطة التي تسعى لتمرير حكومة انتقالية قي المرحلة القادمة تسعى لتأخير كتابة دستور جديد لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، فيما تريد تأخير الانتخابات لمدة أربع سنوات وفق ما أعلن رئيس هذه السلطة “أحمد الشرع” ، ويبدو أن الشرع يسعى خلال هذه الفترة لإنتاج فصيل سياسي جديد، يتمكن من خلاله من الاستئثار بالحكم، على أن تتيح له تلك الفترة الطويلة تحقيق ذلك واستبعاد وإضعاف كل القوى الوازنة على الأرض، والتي يمكن أن تنافسه على السلطة، وهو ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى المزيد من الاضطرابات السياسية طوال تلك المدة وبعدها، ويتهدد بفشل المرحلة الانتقالية، في الوقت الذي ما زالت تتعرض فيه الحريات العامة لانتكاسة شديدة في ظل التهديدات وحالات الانتقام وكم الأفواه وانعدام حالة الأمن وعدم توفر قوانين ودستور يكفل تلك الحريات.
أما على صعيد وحدة البلاد، فما زال خطر التقسيم يلوح في الأفق وبقوة على الرغم من تأكيد السلطة على رفض الفدرالية والتقسيم وإصرارها على بناء سلطة مركزية، غير أن الواقع على الأرض يوحي بعكس ذلك، فحتى اليوم ما زالت مناطق واسعة من البلاد خارج سلطة الدولة كالمنطقة الشمالية الشرقية التي يسيطر عليها الأكراد وقوات قسد، بينما ترفض محافظة السويداء تسليم سلاحها للدولة أو السماح لأجهزتها الجديدة بدخول المحافظة، فيما تعاني السلطة الجديدة صعوبة وعراقيل في إقناع سكان المنطقة الساحلية وصولاً لمحافظتي حمص وحماة بخيار الدولة الواحدة في ظل انعدام الأمن والضغط الممارس على سكان تلك المناطق على اعتبارها كانت تمثل بيئة مؤيدة وخاصة للنظام السابق وذات لون طائفي محدد يشكل واحدة من أكبر الاقليات التي تشعر بأنها مستهدفة .
وإلى جانب ذلك كله فما زالت تركيا تحتل مناطق واسعة من الشمال السوري، فيما قامت إسرائيل هي الأخرى باحتلال مساحات كبيرة في الجنوب الغربي السوري، شملت كامل محافظة القنيطرة وصولاً إلى ريفي دمشق و درعا، في ظل عجز تام من سلطة الأمر الواقع الحالية التي بدأت الشكوك تثار حول موافقتها على الاحتلالين التركي والإسرائيلي ناهيك عن الاحتلال الأميركي لمناطق واسعة في جنوب شرق البلاد و شرقها، حيث تلتزم السلطة الحالية الصمت تجاه ذلك كله، بل إنها تغازل علناً دول الاحتلال تلك، وذلك كله يضع وحدة أراضي البلاد في مهب الريح ويجعل خيار التقسيم أو اقتطاع أجزاء واسعة من الأرض لصالح قوى الاحتلال أمراً واردًا ودائمًا، وبالتالي بات يتهدد سورية الدولة و الجغرافيا.
على الصعيد الخارجي:
يشكل التموضع الجيوسياسي لسورية الجديدة على الصعيدين الإقليمي و الدولي نقطة تحول رئيسية لرسم المستقبل السياسي لسورية، بعد أن كانت واحدة من أهم الحلقات في جبهة المقاومة على الصعيد الإقليمي لعقود طويلة، ورسمت تحالفاتها الجيوسياسية الإقليمية والدولية على هذا الأساس والنهج.
تؤكد التصريحات الصادرة عن أحمد الشرع أن الخيارات الإستراتيجية التي يسعى لتحقيقها تتمثل بإقامة علاقات إستراتيجية سياسية وعسكرية واقتصادية مع تركيا، فيما يلتزم الصمت بخصوص احتلال إسرائيل لمساحات شاسعة من الأرض السورية ويؤكد على عدم التصادم معها مطلقاً، ويقدم نفسه لكل من الأميركي والأوروبي وحتى الخليجي وتحديداً السعودي كحليف موثوق يمكن الاعتماد عليه لتنفيذ أجندات إقليمية في مواجهة روسيا وإيران، وكان لافتاً سرعة التواصل بين كل من أذربيجان وأوكرانيا مع سلطة الشرع الجديدة في دمشق، ووفقاً لهذا المشهد الحالي ومعطياته يمكن القول إن الأميركي الذي وجد نفسه وقد قبض على سورية التي يعتبرها الجائزة الكبرى يعيد تشكيل تحالفاته الإقليمية وفقاً لذلك بعد أن تكفلت تركيا بالسيطرة الأمنية والسياسية، وتكفلت إسرائيل بتدمير كامل لسلاح الجيش العربي السوري لتتحول سورية إلى دولة عاجزة وفاشلة ولقمة سائغة بيد الأميركي تمهيدًا لتحويلها إلى قاعدة متقدمة لها في المنطقة والعالم أجمع في إطار صراعها ومواجهتها مع القوى العالمية التي تناوئها وتقف بوجهها، خاصة أن الموقع الجيوسياسي المهم لسورية، والذي يتحكم أو يشرف على خطوط الطاقة والتجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب ويربط بين الممرات البحرية و البرية في العالم سيمنح القوى التي تسيطر عليه انتصاراً كبيراً على صعيد الصراع العالمي والهيمنة الدولية، لكنه في الوقت ذاته يوحي بأن سورية تحديدًا والإقليم عمومًا ستكون أمام مخاطر صراع جيوسياسي بأذرع أمنية وعسكرية على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما سينتج عنه اضطرابات محتملة في المحيط السوري تطول الجميع دون استثناء وتدفعه للانخراط المباشر أو غير المباشر في تلك الدوامة الجديدة المقبلة. وفي الوقت الذي ترى فيه العديد من الدول سواء المتضررة بشكل مباشر كإيران وروسيا أن مصالحها الإستراتيجية مستهدفة، فإن دولاً حليفة للولايات المتحدة تجد نفسها في حالة خطر وجودي ناتج عن الطبيعة الراديكالية للسلطة الجديدة في دمشق، والتي من الممكن أن يجري استغلالها للنفوذ والتمدد إلى كل من الأردن ومصر ودول الخليج، والأمر ذاته ينطبق على لبنان والعراق، فيما تخشى تركيا من انفجار في الداخل السوري على أسس عرقية وطائفية يكون سببًا وعاملًا لانتقاله للداخل التركي وهو احتمال قائم بقوة وقد بدأت بعض ملامحه بالظهور.
وخلاصة القول؛ إن المشهد السوري الجديد الذي فرضه إسقاط النظام ومحاولة إنتاج نظام جديد على النقيض منه ما زال في مهده، وما زال من المبكر الحديث عن استقراره وتمكينه في ظل هذا الكم الهائل من التعقيدات الداخلية والخارجية المتناقضة والمتصارعة، والتي تفرض هشاشةً من الصعب تثبيتها أو معالجتها أو تمريرها، والتي تحاول الولايات المتحدة تسويقها عبر نظرية الاقتصاد والتنمية مقابل السلام، لكنه خيار دونه مخاطر وعراقيل كثيرة لا يمكن أن ينتهي كما تريده واشنطن، ولا يمكن لها أن تلبسه لشعب تربى على قضية فلسطين والمعاداة لـ”إسرائيل”.
العهد الاخباري: محمود الأسعد