كل نبوءات “سلمان” نزل بها “وحيٌ” أَميركيّ!
علاء الرضائي*
لم ينقطعِ الحراكُ الأَميركي عن الشرق الأوسط والمنطقة الإسْـلَامية منذ أن عرفت أَميركا كأحد القطبين العالميين بعد الحرب الكونية الثانية (1939-1945) لكنه وفي الآونة الاخيرة أشتدّ كثيراً؛ لأنه ببساطة يريد الرحيل.
نعم ـ ولمن لا يدري ولم يسمع ولا يدرك ـ أَميركا تريد الرحيل عن الشرق الاوسط، وتريد إلقاء اعباء استراتيجية الهيمنة على الحلفاء المحليين الذين تقوم بالدفاع عنهم واعدادهم وتأهيلهم منذ أن اوجدتهم هي أَوْ سلفها بريطانيا.. فالتحديات التي تواجه “الشيطان الأَكْبَــر“ حقيقية في ظل الانطلاقة الروسية الجديدة والصعود الصيني الذي يهدد الغرب في هيمنته وظهور دول كالهند والبرازيل وجنوب افريقيا وإيران.
والغريبُ أن هذا الرحيل لا يشابهُ رحيلَ سلفها (بريطانيا) من شرق السويس مع سبعينيات القرن الماضي، رغم أن كلتا الدولتين تريدان ترك منظومة إقْليْمية تتولى الحفاظ على مصالحهما بعد الانسحاب.. لكن المفارقة هي أن الأوْلَى أخلفت قوة دولية راعية مكانها والأُخْـرَى تريد منظومة إقْليْمية بالكامل تحت غطاء دولي لا تتحمل أَميركا أعباءها..
أَميركا تريد أن ترحل الأَسْبَـاب معروفة، تتعلق بالصراع الكوني على النفوذ والهيمنة الجيوسياسية والاقتصادية وانتهاء “الضرورة“ النفطية الشرق الاوسطية وتصاعد قوة حلفائها (حسب المنظور الأَميركي ـ الغربي) من خلال عسكرة هؤلاء الحلفاء والفوضى والدمار في القوى والبلدان المناوئة أَوْ التي تشكل تهديدات بالقوة لاستراتيجيتها…
ومن هنا يأتي الترابط بين الفوضى الخلاقة وتجزئة المنطقة مع مرور 100 عام على سايكس بيكو ودول الاقليات والتطبيع والشرق الاوسط الجديد والفتنة المذهبية و… فكلها مشاريع أَميركية ـ صهيونية غربية بأمتياز، حتى لو جاءت بلسان عربي ومن تحت عقال أَوْ عمامة سلطانية تركية.. أَوْ باسم الإسْـلَام الأَميركي ـ الوهابي في الدويلة السعودية أَوْ الدويلة الداعشية أَوْ الدويلة الطلبانية…
وعلى أَسْـاس ما تقدم فلا يوجد جديد في “الحزم السلماني“ والموجة الاعرابية التي تجتاح المنطقة؛ لأنها جميعاً من مخططات السيد الأَميركي ومن تصوراته في خلق منظومة أمنية وسياسية تستطيع أن تملأ الفراغ الذي ستتركه أَميركا قبل هروبها من الشرق الأوسط.
سوف اتحدث ـ تبعاً ـ عن أَسْبَـاب تعثر هذا المشروع وتلكؤه رغم كُلّ النفقات والاثمان الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تدفع له، وجميعها من جيوب بلدان المنطقة المنخرطة فيه.. لكن في البداية لابد أن نشير إلَى الخطوات التي اتخذت لتنفيذه بالتعاون أوروبا والصهاينة ومحور الشرّ الإقْليْمي المتمثل بـ(تركيا ـ السعودية ـ الاردن ـ قطر) وبالأنظمة الأُخْـرَى التي هي مجرد تبع وذيول لا وزن ولا قيمة لها، كما اشار سماحة السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير.
الخطوة الأوْلَى: كانت البداية من تحييد مصر وعزلها عن الصراع العربي ـ الصهيوني، ومن ثم جرّها إلَى المشروع الغربي، بما يسفح المجال للقوى العربية الاصغر. كانت هذه الخطوة مدمرة لمصر وللعالمين العربي والإسْـلَامي، ففقدت مصر مكانتها بين الأمم وتحولت إلَى بلد يلهث فقط من أجل لقمة عيشه.. ولا يجدها!
الخطوة الثانية: تدمير القوى العربية الطليعية والمؤثرة، ذات الثقل السكاني والحضاري والاقتصادي والعسكري والمشروع السياسي، وهي: العراق، سوريا، الجزائر، يليها بعد ذلك اليمن والسودان.. فدفع بصدام حسين إلَى الحرب مع إيران ومن ثم غدر به وجرّ إلَى احتلال الكويت، حتى انتهى الامر بأسقاطه وتدمير العراق بالحرب تارة وبالإرْهَــاب أُخْـرَى وبمشروع التجزئة ثالثة… وهكذا اريد للجزائر التي لازالت نارها تحت الرماد، ففي أَية لحظة يمكن أن يؤججوها ويوجهوا قطعانهم السلفيين التكفيريين نحوها، ليعيدوا مشاهد الحرب الاهلية في تسعينيات القرن الماضي.. سوريا ترونها أمامكم وهكذا اليمن ولا حاجة للتعليق.. اما السودان فجزأوه وما بقى قابلاً للتجزئة حتى لو انخرط البشير في اللعبة معهم.. فهذه الذئاب تأكل بعضها!
الخطوة الثالثة: التجزئة، أَي أن البلدان التي تعتبر قوة عربية وإسْـلَامية كافة يجب تفتيتها وفق نظرية “دولة الاقلية“.. ففي منظورهم ما العالم العربي والإسْـلَامي سوى مجموعة من الاقليات الدينية والمذهبية والعرقية.. وبذلك يقضون على القوى الكبرى بتفتيتها وخلق بؤر للنزاع بينها.. ويقضون في الوقت ذاته على مفاهيم “العروبة“ و“الإسْـلَام“ وإمْكَانية التوحد، حتى وصل الامر ببعض المفكرين المأجورين إلَى الحديث عن “الوحدة في التجزئة!”.. على اعتبار فشل المشروعات الوحدوية السابقة.. ودون الخوض في من أفشلها ومن وقف أمامها، ولماذا؟!
وبما أن التجزئة القومية غير فاعلة في الوطن العربي، كان لابد من تفعيل مشروع الفتنة الدينية والمذهبية، وبها يتحقق أمران: الاول، التفتيت الكامل، لوجود تعددية دينية ومذهبية واضحة في شرق العالم العربي، وهي الهدف الأَسْـاس.. والثاني، صعود السعودية وقيادتها للموجة؛ لأنها مركز الفكر التكفيري الفتنوي.. وهو ما حصل!
الخطوة الرابعة: عسكرة النظم العربية وخاصة الخليجية، من أجل وأد أَي تحرك ديمقراطي، كما حصل في التعامل الربيع العربي والالتفاف عليه، في اليمن ومصر والبحرين… ومن أجل استنزاف أَمْـوَال النفط، وهنا كانت أَكْبَــر صفقات السلاح العالمية التي لا يحسن مشتروها استخدامها، كما ظهر في العدوان على اليمن.. اضافة إلَى خلق تصور كاذب بوجود قوة حتى لو كان الفاعل الأَسْـاس في أَي تحرك عسكري “خليجي” هم الأَميركان والفرنسيين والباكستانيين والكولومبيين!!
الخطوة الخامسة: الربط الإعْـلَامي بالمكانة العالمية.. حتى تحولت مقولة “تقدم الإعْـلَام على السياسة“ امراً واقعاً في البلدان الخليجية… وما نشاهده اليوم من نمور ورقية و“حزم” و“رعد” كاذب هو في حقيقته زوبعات إعْـلَامية بالدرجة الأوْلَى لا حقيقة لها على أرض الواقع.
وقد لعب الإعْـلَام الخليجي دوراً قذراً في تمييع الهوية العربية وخلق ثقافة استعداء دينية ومذهبية وفي تسطيح الحلم والهّم العربي، فكان نتاجه جيوشاً من المغنيين والشعراء والطبالين واشباه المفكرين، الذين وإن صاروا “بحراً” لكنه يبقى ضحلاً بعمق “شبر”، والتعبير مستعار!
الخطوة السادسة: المنوذج الخليجي!! في الحياة والحكم… هذا النموذج الذي عماده ملء البطون واشباع الغرائز والخدر وبيع النفط والطرب والشعر والمظاهر الدينية المزيفة…
ظاهره الدين وباطنه الالحاد، ظاهر والعفة وباطنه الفجور، ظاهره العروبة وباطنه الصهينة والامركة والتبعية للأسياد!
الخطوة السابعة: من محاولات التطبيع إلَى سياسة التحالف مع الكيان الصهيوني، فبعد فشل كُلّ محاولات التطبيع بين الشعوب العربية مع الصهاينة وعلى مدى اربعة عقود (من زيارة السادات للقدس سنة 1977)، جرى اللجوء إلَى الحكام الذين قاموا بمجرد إظهار علاقاتهم السابقة وارتباطاتهم السّرية مع الصهاينة إلَى العلن.
ولأن الدخول في تحالف يحتاج إلَى مبررات اقوى من مبررات وحجج التطبيع، كان لابد من صناعة عدو وهمي، يضرب بهذه الصناعة/ الحجر أَكْثَـر من “طائر”، وكان الخيار الغربي والصهيوني هو إيران الجمهورية الإسْـلَامية، وكان لابد “للأذناب” الانسياق خلف هذا المشروع…
ولأنه ليس لدى الاعراب ما يشاركونه الآخرين في تحالفات، فلم يتطوروا إلَى أَكْثَـر من مجرد محفظات لحرب الغرب ومشاريعه وقواعد لعساكره ومحطات إعْـلَامية تعيد وتردد كالببغاوات خطابه الإعْـلَامي، في السياسة والثقافة والاقتصاد… حتى لو كان بضررها المباشر، كما يحصل على صعيد النفط اليوم ومن قبل…
أما أَسْبَـاب تعثر هذا المشروع الصهيوأَميركي ـ الاعرابي، فسوف اشير اليها باختصار شديد:
قيام إيران وتحوّل موازين القوى في المنطقة وظهورها كقوة إقْليْمية: اقتصادياً وعلمياً وسياسياً وعسكرياً وقطب مهم في المنطقة.
انتشار حالة الوعي بين المجتمعات الإسْـلَامية والذي كان الربيع العربي (قبل الالتفاف عليه وحرفه) أحد نتائج ذلك الوعي السياسي والاجتماعي.
ظهور محور المقاومة أَوْ كما يسمه المنبطحون العرب ”الهلال الشيعي“ من طهران إلَى عزة. وما نتج عن ذلك من هزيمة للاحتلال في أَكْثَـر من موقع: الاجتياح 1982 للبنان، حرب 1996 ضد المقاومة، الهزيمة 2000 والهروب من جنوب لبنان، حرب تموز 2006، عدوان عزة 2008 ـ 2009 و2012 و2014.
إستعادة المقاومة الفلسطينية لدورها في مواجهة الاحتلال على صعيد الداخل: الانتفاضة الأوْلَى 1989 والثانية 2000 والثالثة الجارية حالياً في الاراضي المحتلة.
تدهور الوضع الداخلي للنظم الموالية للغرب: مصر، الأردن، البلدان الخليجية، تونس، المغرب.. وانكفاء أغلبها لمعالجة أوضاعها الداخلية، رغم قيام بعضها بتصدير أزماتها للخارج من خلال دعم الإرْهَــاب وتغذيته.
التطورات العالمية سواءٌ الجيوسياسية أَوْ الاقتصادية والتي انتهت إلَى تدنى مكانة الشرق الأوسط في الاستراتيجية الغربية ولو نسبياً، بسبب القوى العالمية الصاعدة التي أشرنا إليها.
وأخيراً عودة النظام الدولي إلَى الثنائية القطبية ولكن بصيغة أَكْثَـر تركيزاً من السابق ولربما أشدّ، رغم كُلّ الحوارات والتبادلات والاتصالات الدولية، وخاصة بين القوى الكبرى.
* موقع العالم الإخباري