المنبر الاعلامي الحر

ثمار الطوفان

ثمار الطوفان

طوفان الأقصى يمثل حدثًا فارقًا في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، فهو يمثّلُ أول محاولة جادة لتحرير فلسطين منذ قيام كيان العدو المسمى “إسرائيل”. رغم أن هذه المحاولة لم تحرر أي أرض، إلا أنها وضعت الأساس لمسار المستقبل، خاصة في مواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني والذي يُعد من أصعب أنظمة الاحتلال عبر التاريخ.
فشل العدو الإسرائيلي في تحقيق أهدافه الرئيسة، فهو لم يتمكن من القضاء على حركة حماس أو جناحها العسكري، بل بقيت قبضة المقاومة هي المسيطرة ويدها العليا والحاكمة فعليًا في قطاع غزة، مع الحفاظ على روح القتال لدى مقاتلي المقاومة، بدليل مشاهد الاحتفالات والإجراءات الأمنية والعروض العسكرية التي صاحبت عمليات التسليم والاستلام للأسرى، وهو ما أعطى إجابة أكثر من واقعية عن السؤال الكبير الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الصهيونية وحتى دوائر النخب العربية المتماهية مع الكيان المؤقّت: لمن اليوم التالي في غزة؟!.
كما أن أحد أبرز النتائج التي كشف عنها طوفان الأقصى هو فشل العقيدة الأمنية لكيان العدو الاسرائيلي، الذي كان يتباهى بقوته الاستخباراتية والعسكرية. فقد بات يقيناً وجلياً كيف فشلت أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية”، بما في ذلك “الشاباك” و”الموساد” و”الاستخبارات العسكرية” ومن خلفها أجهزةُ الاستخبارات الغربية سيما الأمريكية، ومعها وفي خدمتها شبكات المخابرات العربية وبنوك معلومات الأنظمة العربية المطبّعة، هذه جميعها فشلت أيما فشل في التنبؤ بالهجوم توقيتاً زمنياً أو تقديراً لقوة المقاومة، ما أدى إلى اهتزاز صورة أمن كيان العدو الإسرائيلي “الذي لا يُقهر”.
هذا الفشل أثار ويثير حالياً جدلًا واسعًا داخل “إسرائيل” حول المسؤولية عنه في امتدادٍ لتداعيات بدأت من الساعة الأولى لوقف إطلاق النار، وقد لا تقف عند حد أو مستوى، كما أنها تهدد بما هو أسوأ مما رأيناه حتى اليوم، وقد تطيح برؤوس كبار المسؤولين الصهاينة، بما في ذلك مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وبقية العصابة المجرمة، ومجرّد نظرة فاحصة للوضع الداخلي بتركيباته السياسية والأمنية والقانونية تشي بالكثير في هذا المجال.
على الصعيد العسكري، نجحت المقاومة الفلسطينية في تنفيذ هجومها بكفاءة عالية، وصفه ضباط وجنرالات “إسرائيليون” بأنه “أفضل هجوم كوماندوز في التاريخ”. واستمرت المقاومة في القتال لأكثر من 15 شهرًا، متجاوزة بذلك مدة جميع الحروب العربية مع كيان العدو الاسرائيلي.
بلغت الخسائر المسجلة في كيان العدو حوالي 1837 قتيلًا وأكثر من 23 ألف جريح، وفقًا لمصادر “إسرائيلية”، وهي أرقام تؤخذُ بلحظ الفارق الكبير في القوة العسكرية بين الطرفين.
عالميًا، أدى الفشل الإسرائيلي وصور الإبادة الجماعية في غزة إلى تراجع صورة “إسرائيل”، حيث شهدت أغلب عواصم الدول الغربية احتجاجات كبرى ضد جرائم العدو الإسرائيلي فضلاً عن الفعاليات الطلابية والإضرابات في عدد من الجامعات الغربية ومعظمها في كبريات الدول الغربية الداعمة للمشروع الصهيوني (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا)، وانتشرت الاحتجاجات الجماهيرية العالمية ضد الصهيونية، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة. وهو ما أعاد القضية الفلسطينية إلى الأجندة الدولية وإلى واجهة الأحداث العالمية، وكشف عن دعم غربي مطلق لـ”إسرائيل”، ما زاد من تأكيد المؤكد بأن الموقف الغربي يتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي بكونه مشروعًا استعماريًا في “الشرق الأوسط” ضمن أجندات الصهيونية الكبرى.
على الصعيد الفلسطيني، عزز طوفان الأقصى ثقة الشعب بالمقاومة وبخيارها المسلح كحل وحيد وطريق أثبت فاعليته في استعادة الحق الفلسطيني، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية أن 73% من الفلسطينيين يؤيدون العملية، و82% يرون أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة. كما فضل غالبية الفلسطينيين أن تكون حماس هي الحاكم في “اليوم التالي”، ما يؤكد تجذر المقاومة في الشعب الفلسطيني، وانتماء هذا الخيار أصلاً إلى الوجدان الفلسطيني.
إحدى النقاط البارزة -كذلك- في هذه العملية هي التركيز على فلسطين التاريخية، حيث لم تحدث العمليات فقط في الأراضي المحتلة عام 1967، بل امتدت إلى أراضي عام 1948، وهي رمزية تؤكدُ أن المقاومة تستهدف فلسطين بأكملها، وليس فقط الأراضي المحتلة حديثًا.
نجحت المقاومة أيضًا في فرض إرادتها على العدو الإسرائيلي، حيث أُجبرته على سحب قواته من غزة والإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين في صفقة تاريخية. هذه الإنجازات كانت تثمينًا فعلياً لدماء الشهداء وسيل التضحيات التي بُذلت على مذبح التحرير واستعادة الحقوق، وبطريقة أجادت المقاومة إدارتها بعزم كبير وثبات إيماني منقطع النظير.
على الصعيد الإقليمي، نجح طوفان الأقصى في توحيد جبهات المقاومة العربية ضد العدو الإسرائيلي، وأعاد الصراع إلى سياقه الأصلي: صراع عربي-إسرائيلي. وكان اليمن أحد أبرز جهات الدعم والإسناد الحاضرة من بعيد والكاسرة للأعذار ومبررات التملّص، والحاملة لأعباء القضية بروح مسؤولة عالية، ومن منطلقات إيمانية وإنسانية صادقة ومتخفّفة من أعباء السياسة وحسابات المصالح، بعد محاولات التطبيع والتضييع التي استمرّت لسنوات بغرض حرف المسار وتشويهه وتمييعه، وهو تحوّل إقليمي له تأثيره الكبير على مستقبل القضية الفلسطينية.
عموماً فإنه وبالرغم من التكاليف الباهظة التي دفعها أهالي غزة، فإن طوفان الأقصى يمثل انتصارًا تاريخيًا ضد كيان العدو الإسرائيلي، بضريبة لا بد من دفعها لإحداث زلزال يعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية وقد كانت على مشارف تصفيتها على نار خيانة هادئة. من هنا يمكن رؤية بداية نهاية الكيان المؤقت.

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com