القدس: عقد من التصعيد، والقادم أخطر
القدس: عقد من التصعيد، والقادم أخطر
يمني برس ـ تقرير | يحيى الشامي
على خطى التهويد والتمهيد للتدمير، يمضي الصهاينة في مخططات محو المعالم الإسلامية من مدينة القدس وتدمير مسجدها الأقصى ليس من ذاكرة المسلمين وهويتهم وحسب، بل من أصل وجودها على الأرض. يستعرضُ هذا التقرير أبرز محطات التصعيد والتهويد المختلفة التي تعرّض لها المسجد الأقصى والمدينة المقدسة، على أمل أن تظل المأساة في واجهة هموم المسلمين وأن تحيي مسؤوليتهم تجاهها.
مع دخول عام 2025، تُطوى صفحة عقدٍ كاملٍ من المواجهات المحتدمة في القدس والمسجد الأقصى، عقدٌ يمكن وصفه بـ “عقد التصعيد”، فقد شهدت المدينة المقدسة والمسجد المبارك تصاعدًا غير مسبوق في وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية، بمعدل مواجهة كبرى كل عام ونصف تقريبًا. هذا التصعيد المستمر، والذي بلغ ذروته في عام 2024، يُنذر بمرحلة جديدة أشد خطورة، ويثير مخاوف جدية من أن يكون عام 2025 هو “عام الحسم” الذي تسعى فيه سلطات العدو لفرض أمر واقع جديد، يهدد الهوية العربية والإسلامية للمدينة المقدسة ومسجدها المبارك. إلى هذا المستوى تبدو التهديدات حقيقة وجادة فيما يبدي المسلمون تجاهلاً غير مفهوم و لا مبرر!.
بدأت شرارة هذا العقد بمعركة “العصف المأكول” في غزة صيف 2014، والتي أعقبت جريمة قتل الطفل المقدسي محمد أبو خضير. وتوالت الأحداث بعدها، من هبّة السكاكين في القدس خريف 2015، إلى هبّة باب الأسباط في المسجد الأقصى صيف 2017، ثم هبّة باب الرحمة بداية 2019. وشهد صيف 2021 معركة “سيف القدس” التي وحّدت الأراضي الفلسطينية في مواجهة شاملة، وصولًا إلى حرب “طوفان الأقصى” التي اندلعت في أكتوبر 2023.
قبل هذه الفترة اعتمدت الحكومات الصهيونية سياسات متدرجة في الطمس التدريجي شديد البطء في سبيل تغيير الواقع الديموغرافي في القدس، والواقع الديني في المسجد الأقصى. ومع وصول اليهود المتشددين إلى الحكم بلغت المواجهات ذروتها، والمخططات التي كانت تجري على مكثٍ تدور الآن في العلن ودون خشية.
العام الأخطر في المؤامرة
شهد عام 2024 أعتى موجة من الاعتداءات المتزامنة على القدس والمسجد الأقصى، بعد تولي تيار الصهيونية الدينية مقاليد الحكم في حكومة نتنياهو، وسيطرته على الملفات الأكثر حساسية في ما يتعلق بالقدس، أي المال والأمن، من خلال سموتريتش في ما تسمى وزارة المالية، وبن غفير في ما تسمى وزارة الأمن القومي.
وقد سجلت في هذا الصدد إحصائيات مرعبة غير مسبوقة في عام 2024، حيث تجاوزت عمليات الهدم في القدس كافة الإحصاءات السنوية السابقة، بأكثر من 335 منشأة هدمت في عام واحد، وأكثر من 1200 حالة اعتقال بين المقدسيين، صدرت على أكثر من 370 حالة منهم أحكام فعلية بالسجن، إضافة إلى حوالي 60 قرار حبس منزل، واستشهد 33 مقدسيًا خلال هذا العام، واحتجز جثمان 11 شهيدًا منهم ولم يتم دفنهم.
أما المسجد الأقصى، فقد شهد أكبر عملية اقتحام في تاريخه كمًا ونوعًا خلال هذا العام. اقتحم المسجد أكثر من 59 ألف مستوطن، بمعدل حوالي 193 مستوطنًا يوميًا (دون الجمعة والسبت)، وصدر في حق المقدسيين أكثر من 120 قرارًا بالإبعاد عن المسجد الأقصى.
ومن حيث النوع، شهد المسجد الأقصى لأول مرة تطبيق قرار المُسمّى وزير الأمن بن غفير بإقامة كافة الطقوس الدينية للجماعات الاستيطانية اليهودية علنًا، وأصبحت تُنظم برامج يومية معلنة لـ”جماعات المعبد” اليهودية لإقامة الطقوس الدينية اليومية كصلاة ومواعظ الصباح وصلوات المساء، وباتت المجموعة اليهودية التي تسمي نفسها “إدارة جبل المعبد” تتصرف فعليًا وكأنها تدير شؤون المسجد الأقصى، حيث يستقبل الحاخام شمشون إلباوم الوزراء وأعضاء الكنيست والسياسيين الإسرائيليين، ويرافقهم في اقتحاماتهم وكأنه المسؤول عن المكان، ومُنع حراس المسجد الأقصى من الوجود حتى قرب المستوطنين خلال اقتحاماتهم.
إضافة إلى ذلك، ولأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، شهد المسجد الأقصى عمليات ترميم في بعض المناطق، بعد أن كانت سلطات العدو قد منعت عمليات الترميم نهائياً، وتتردد أنباء مقلقة في هذا السياق عن احتمال كون بعض هذه العمليات تتم بالقوة بإشراف “سلطة الآثار الإسرائيلية”، ما يعني فعليًا أن سلطات العدو أصبحت شريكًا كاملًا في إدارة شؤون المسجد الأقصى، وأن دور الأوقاف الإسلامية بات محصورًا في إدارة شؤون المسلمين فقط في المسجد.
بهذا الوضع المأساوي، مضى شهران من العام الجديد حافلان بالاعتداءات المكثفة والتي تشير كثير من الدلائل إلى أن حكومة العدو الصهيوني وأذرعها في المؤسسات والحركات الاستيطانية تسعى لجعله عام الحسم في المسجد الأقصى أولًا، ومدنية القدس ثانياً ، وفق رؤية استغلال أحداث السابع من أكتوبر والحرب التي سعّرتها في غزة لتغيير المعادلات على الأرض، عبر تغييب المقاومة الفلسطينية ولجمها عن أي رد على أي عمل كبير في المسجد الأقصى، ولا شك أن المحطة القادمة بعد توقف الحرب على غزة ستكون القدس، بالتزامن مع ما يجري في الضفة أو لاحقاً.
لمحة تاريخية
منذ احتلال القدس عام 1967 وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لم يشهد الأقصى محاولات منظمة من حكومات العدو لتغيير الوضع القائم فيه، واقتصرت اعتداءات العدو على تغطية اعتداءات فردية، مثل محاولة إحراق المسجد عام 1969 وجريمة الجندي الأميركي الإسرائيلي ألان غودمان على قبة الصخرة عام 1982.
ومع انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، بدأت الاعتداءات تأخذ طابعًا جماعيًا أكثر تنظيماً وتسليحاً، وإن كان ظاهريًا معزولًا عن الرعاية الرسمية، لكنه في الواقع يحظى بتغطية حكومية إسرائيلية، كما حدث في مجزرة الأقصى عام 1990 وهبّة النفق عام 1996 واقتحام أرييل شارون للمسجد عام 2000.
ومع عام 2003، بدأت عملية تغيير الوضع القائم في المسجد تأخذ طابعًا حكوميًا جديًا، مع سيطرة المتشددين اليهود على مقاليد الحكم، فُتح المسجد للاقتحامات اليومية، وبدأت عمليات التضييق الممنهج على عمل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، وشهد ذلك العقد أيضًا تصاعدا في أساليب المواجهة الفلسطينية لهذه الأحداث من خلال المؤسسات الرسمية للحركات الإسلامية في القدس والداخل الفلسطيني.
لكن كل ذلك تغير مع بداية العقد الأخير (2014 – 2024). ويبدو أن إغلاق مؤسسات الحركة الإسلامية الشمالية في الداخل الفلسطيني كان بمثابة مفتاح مباشر لهذا التغيير، حين أغلق باب الدفاع المؤسسي عن المسجد الأقصى، وفتح باب المقاومة الشعبية غير المؤطرة، إضافة إلى فتح الباب أمام محاولات العدو الإسرائيلي تغيير كافة المعادلات التي تعايش معها في الأقصى، خاصة مع صعود تيار الصهيونية الدينية بشكل غير مسبوق، وتوليه الحكم فعليًا في “إسرائيل” في حكومة نتنياهو الأخيرة.
على مدار السنوات الماضية، تكررت عبارة “أصعب الأعوام” في التقارير السنوية التي تتناول الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، فكان كل عام أشد على الأقصى من سابقه، وكان كل عام يشهد تقدمًا في محاولات حسم قضية المسجد باستثناء عامي 2017 و2021، اللذين شهدا هبّة باب الأسباط ومعركة “سيف القدس”، واللتين أجبرتا العدو على مراجعة حساباته وإستراتيجيته في الأراضي الفلسطينية.
فيما عدا هذين العامين، كان كل عام ينتهي بتقدم جديد للعدو الصهيوني، أو بمحاولات انتقامية لتعويض التراجعات التكتيكية التي كان يفرضها عليه الشعب الفلسطيني في بعض المواجهات، مثل معركة “العصف المأكول” عام 2014، وهبّة القدس عام 2015، وهبّة باب الرحمة بداية عام 2019.
كان الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة الفلسطينية يفرضون على العدو تراجعًا تكتيكيًا في كل مواجهة، لكنهم لم يتمكنوا من تحويل هذا التراجع التكتيكي إلى تراجع ممنهج على المدى الطويل قادر على تبني التصدي والمواجهة للمشروع الإسرائيلي الشامل في القدس، وهذا القصور نتيجة غياب الدعم والاحتضان الرسمي العربي، الذي أدى بطبيعة الحالي إلى غياب بنية منظمة فعلية للمقاومة الشعبية داخل القدس، سواء من حيث البنية التنظيمية للفصائل الفلسطينية في الضفة وغزة، أو مؤسسات الحركة الإسلامية الشمالية في الداخل الفلسطيني التي تم حلها.
وبالتالي، انحصر الوجود المؤسسي الفاعل في القدس في دائرة الأوقاف الإسلامية، التي تشكل الإطار الرسمي البيروقراطي في إدارة شؤون المسجد الأقصى، بكونها هيئة حكومية تابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، وبعض مؤسسات الحركة الإسلامية الجنوبية في الداخل الفلسطيني، التي لا تستطيع، بسقفها السياسي والأيديولوجي، التحول إلى حالة مواجهة شعبية منظمة مع العدو، مع التأكيد على أهمية دور هذه المؤسسات في مد المسجد الأقصى بالاحتياجات اليومية والموسمية اللازمة.
إن تراجع العدو في خطواته أو بعضها لا يعني تخليه عن مشروعه الاستراتيجي، وهذا ما كان ينبغي على الشعب الفلسطيني بكافة قواه ومؤسساته وفصائله إدراكه بعد كل مواجهة. ولهذا، فإن ما “صبر” عليه العدو الإسرائيلي خمسة عقود، بدأ بتنفيذه بمنتهى السرعة في عام واحد خلال معركة “طوفان الأقصى”.
إن مشروع العدو في المنطقة ماضٍ في طريقه ويحظى بدعمٍ كامل عسكري ودبلوماسي غير مسبوق، كما أنه وفق حيثياته الدينية العقائدية لا يحتاج إلى مبررات ليتوسع، ولا حل أمام الشعب الفلسطيني إلا استباق مشروع العدو بمواجهته بكافة الطرق، ودون خطوط حمراء، دفاعًا عن هوية ووجود المسجد الأقصى نفسه.
المصدر: موقع أنصار الله