المنبر الاعلامي الحر

الرثاء للعابرين.. أما نصرُ الله فباقٍ

الرثاء للعابرين.. أما نصرُ الله فباقٍ

يمني برس ـ بقلم ـ حسام باشا

كيف يُرثى من كان نورًا يشع في ليل الأُمَّــة، وسيفًا مشرعًا لم يعرف غمدًا، وراية لا تنكّس أبدًا؟ كيف يُرثى من صار جزءًا من ذاكرة الأرض، من كُـلّ ذرة تراب سارت عليها خطاه؟ كيف يُرثى من لم يعرف الفناء إليه سبيلًا، من بقي صوته صدىً لا يهدأ، وروحه قسمًا لا يُنقض، وظله عهدًا لا يموت؟

أيها العابرون بين السطور، اقرأوه في نبض المقاومين المتقد كجمرة لا تخبو، في كُـلّ يدٍ تلتفّ حول الزناد، في جبين كُـلّ وليد، في أعين الأُمهات اللواتي أحرقت دموعهنّ المحتلّ قبلَ وجناتهنّ، وفي حجارة الأرض التي احتضنت خطى المجاهدين ونقشت على ترابها أسماء الخالدين. اقرأوه، فليس في موكب العظماء متسعٌ للضعفاء، ولا في سجلّ الخالدين مكان لمن خذلوا العهد. هو من خطّ بحضوره سِفرًا لا يُمحى، من جاب الميادين، كلما اشتد الوطيس، وكلما ضاق أحرار الأُمَّــة ذرعًا بالمحتلّ، وكلما علا نداء الأرض: أين الرجال؟

السيد حسن نصر الله لم يكن مُجَـرّد قائدٍ عابر في سجلّ الزمن، بل كان ملحمةً متكاملة، بطلها صمود لا يلين، وسلاحها إيمان لا يتزعزع، وأحداثها تُروى على ألسنة الأحرار كما تُروى الأساطير الخالدة. لم يكن مُجَـرّد اسم في معجم، ولا رجلٍ يقف في دائرة الضوء لوهلة ثم ينطفئ، بل كان زلزالًا يقلب المعادلات، رياحًا تعصف بأركان الطغيان، صوتًا يُسمع حين حاولت قوى الاستكبار أن تفرض الصمت، وثائرًا من طرازٍ فريد، لم يختر المواجهة سعيًا وراء مجد شخصي؛ بل لأَنَّ الظلم استوطن، والاستبداد استشرى، فكان لا بد لصوت الحق أن يعلو. لم يكن سيفه من فولاذ فحسب، بل كانت كلماته سلاحًا يضرب بالحق، وإرادته سدًّا منيعًا أمام مشاريع الهيمنة، وموقفه قبسًا من نور لكل من أظلمت في وجهه دروب العزة.

هو المعادلة التي غيّرت وجه الصراع، رجلٌ صعدت كلماته منابر التاريخ قبل أن تُدوَّن في دفاتره، فحين كان يتحدث، كانت الأرض تنصت، وحين يَعِدُ كان الوفاء قرين كلماته، وحين كان يواجه، لم يكن وحده، بل كانت خلفه أُمَّـة آمنت بروحه وعزيمته، وأيقنت أن النصر وعدٌ إلهيٌّ لمن صبر وثبت على العهد. وقف حَيثُ يخشى الآخرون، وتقدّم حَيثُ يحجم الجبناء، فكان الاسم الذي ارتبط بمواجهةٍ لا تعرف الهزيمة.

كان قدرًا خُطّ بحبر المقاومة، حكايةً صنعتها الإرادَة الإلهية، فصولها جهادٌ لا ينتهي، وعنوانها صبرٌ يصنع المستحيل. لم يكن قائدًا تقليديًّا، بل كان أيقونةً يقتدي بها من آمنوا أن الحق لا يُوهب، بل يُنتزع، وأن الكرامة لا تُستجدى، بل تُفرض.

رفع راية الحرية حَيثُ سقطت رايات الاستسلام، ونادى بالحق، حَيثُ حاول الزيف أن يتسيّد المشهد، كان جرسًا يدقّ كلما حاول الأحرار أن ينهضوا من تحت الركام، بوصلةً تشير دائمًا إلى طريق المقاومة.

نعم، غاب الجسد، يوم كان لقاؤه مع الشهادة، يوم قدمت الأُمَّــة أعظم شيء لها في معركة طوفان الأقصى، لكن روحه لا تزال تعبر السماء كوميض البرق، تضيء دروب المقاومين، تهتف في قلوبهم: “إن النصر آتٍ، وإن الوعد حق، وإن القيد لا يدوم”.

مضى إلى الخلود حاملًا روحه على راحتَيْه كمن يقدِّمها لله قربانًا، ارتشف من كأس الشهادة حتى ارتوى، وسمت روحه إلى مقام الاصطفاء، هناك في علياء العندية، حَيثُ الخلود الأبدي والرضوان السرمدي، مستبشرةً بوعدٍ لا يُخلف: “بَلْ أَحْيَاءٌ (عِندَ) رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”.

لكنه قبل ذلك، أرسى للنصر بابًا من جبهته الشامخة، طرقه بقبضته الحيدرية حتى انفتح للأُمَّـة فكرةً تعيش، طريقًا لا ينتهي، ودمًا لن يجف حتى يرتوي التراب بالنصر.

لم يمت، شهيد الإسلام، بل تحرّر من قيد الزمن، صار دمًا يسري في شرايين الأرض، كلمةً تخرج من أفواه المقاومين، سطرًا يُضاف إلى سفر الانتصارات، وصفحةً جديدة تُخطّ بمداد الكرامة.

إنه هناك، في كُـلّ يدٍ تعانق الزناد، في كُـلّ طفلٍ وُلد ليكون مقاومًا، في كُـلّ أُمٍّ ودّعت ابنها بدمعة، لكنها عاهدت أن تُنجب ألف مقاومٍ بعده.

أوجعنا الرحيل، لكنه لم يُسقطنا، بل زادنا ثباتًا. لن نبكيَه بكاءَ العاجزين، بل كما تئنُّ السيوف حين يُداهِمُها الصدأُ، غيرَ أنَّى لحدِّها أن يكلَّ، وهو المعدن الأصيل الذي لا يخذله الزمن. سنبكيه كما تبكي الأرض فَقْدَ وقع أقدام الأطهار، غير أن خطاه قد انغرست في صميمها، وتغلغل معناه في ذراتها.

لقد كان امتدادًا لجده الحسين عليه السلام، مشعلًا يضيء الدرب لمن يأتي بعده، وكما أنبتت دماء كربلاء نصرًا، فَــإنَّ دمه سيُنبت ألف نصر، وسيحمل لواءَه رجالٌ ما خانوا العهد، ولا نكثوا القسم، ولا بدّلوا تبديلا.

سلامٌ عليك شهيد الإسلام في الخالدين، وسلامٌ عليك عند ربك تُرزق، وسلامٌ عليك في ذاكرة الأرض، وفي وجدان أُمَّـة لن تنسى أن السيف الذي صنعته، لم يُغمد بعد.

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com