ملحمة العدالة والفكر
ملحمة العدالة والفكر
يمني برس-بقلم- محمد الصفي الشامي
في مملكة الزمان، حيث تتلاشى الأسماء وتبقى الأساطير، يتوهّج نجمٌ لا تخفت أنواره، فارسٌ جمع بين السيف والقلم، بين الحكمة والشجاعة، بين العدل المطلق والإنسانية الفذّة.
إنه الإمام علي بن ابي طالب، ابن عمّ النبي الأكرم، زوج البتول، وأبو السبطين، الرجل الذي احتضنته ميادين القتال كما احتضنته دروب الفلسفة والعلم، فصار سيّد المقاتلين في ساح الوغى، وسيّد المفكرين في محراب الفكر.
لم يكن الإمام علي مجرّد قائدٍ عسكريٍّ أو رجل دولة، بل كان نهراً متدفقاً من الحكمة، ينبوعاً من المعرفة التي لا تنضب، تتجاوز حدود المكان والزمان، وتروي عقول الأجيال كما تروي الجداول ظمأ الأرض العطشى. في كلماته حياة، وفي بلاغته قانون، وفي سيرته دربٌ لمن أراد السموّ إلى علياء الفكر الإنساني.
ومن بين أسطر رسائله إلى ولاته، وقف التاريخُ مبهوراً عند كلماته إلى مالك الأشتر: “يا مالك، إن الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.” كلماتٌ تختصر فلسفة الإنسانية بأكملها، حتى استوقفت لجان الأمم المتحدة، فوجدت فيها دستوراً خالداً لحقوق الإنسان، يعلو فوق أزمنة التحزّب والتمييز، ويضع الإنسان في موضعه الأسمى، حيث لا فرق بين البشر إلا بما تفيض به أرواحهم من النور.
أما (نهج البلاغة)، فليس مجرد كتابٍ بين دفّتين، بل هو معجم الحكمة، وسِفرُ العدالة، وأيقونة البلاغة التي حيكت بأرقى أساليب البيان، واختيرت مفرداتها كما تُنتقى الجواهر من أعماق البحار؛ صفحاتٌ تنبض بالحياة، تتجلى فيها فلسفة الحكم والإدارة، دروس الحرب والسلام، وسرّ الوجود الإنساني، حتى باتت كلماته بوصلةً للفكر المستنير، تتوهج أمام كل من يبحث عن النور في متاهات العصور.
لم يكن أمير المؤمنين مجرّد رجلٍ من التاريخ، بل كان أمّةً في رجل، سبق بعبقريته الزمن، وارتقى بفكره فوق مفكري الغرب وفلاسفة العصور، فهو القائد الذي وضع أصول العدل في الحكم قبل أن يولد فلاسفة السياسة، والفارس الذي شرّع أخلاقيات الحرب قبل أن تتفق عليها مواثيق الأمم، والمفكر الذي رسم خطوط العلم والفكر والاجتماع والاقتصاد قبل أن تتشكل مدارس الفكر الحديث.
لكنّ العظمة الحقيقية لأمير المؤمنين علي، لم تكن في فكره وحده، بل في قلبه الذي ضمّ المستضعفين والمظلومين، في يده التي لم ترفع السيف إلا نصرةً للحق، في مبدئه الذي لم ينحنِ أمام جبروت الطغاة، وكيف لا وهو من كانت حياته رسالةً، وسيرته منارةً، وروحه ثورةً خالدةً لا تخبو جذوتها، تحلّق في سماء العدالة كالشمس التي لا تُطفأ أنوارها.
كيف للغة أن توفي مؤسس علمها حقّه؟ وكيف للشعراء أن يحيطوا بألقه في قصائدهم؟ وكيف للمؤرخين أن يحصروا سيرته بين دفتي كتاب؟
سلامٌ على سيد الوصيين، ويعسوب المؤمنين، وقائد الغر المحجّلين، سلامٌ على نوره الذي لا ينطفئ، وعدله الذي لا يُمحى، واسمه الذي يبقى ما بقيت السماوات والأرض.