حلب: خطوط المسلحين تتآكل .. والجيش يطاردهم
لا أحد يعرف تماماً أين سيكون الجيش السوري داخل حلب لحظةَ كتابة هذه السطور.
فمع السرعة التي تقدمت بها وحداتُه داخل ما تبقى من أحياء وسط وجنوب شرق المدينة، وتآكل خطوط دفاع المجموعات المسلحة، بات من الصعب جداً تثبيت خريطة إنتشار المجموعات المسلحة أكثر من ساعات ، أو رسم الجبهات الجديدة التي لا يستريحُ الجيش السوري عندها إلا قليلاً ، لإستعادة الأنفاس ، وإرسال المزيد من التعزيزات ، ومواصلة عملية لم تتوقف منذ أن أنهارت خطوط دفاع المسلحين في حي هنانو ، وسقطت الأحياء الشمالية الشرقية دفعة واحدة في يده.
وخلال الساعات الماضية ، وبسبب سرعة إنسحاب المسلحين، بدت عمليات الجيش مطاردة للمجموعات المسلحة ، أكثر منها إشتباكات، بين وحداته التي أستطاعت خلال 24 ساعة إنتزاع أحياء كروم الجزماتي والطراب والميسر والقاطرجي ، وطريق الباب، واختراق حي الشعار.
وخلافاً لكل الحسابات والتحليلات التي رأت أن الجيش السوري سيحتاج الى المزيد من الوقت لتثبيت خطوط الإسناد الجديدة، قبل مواصلة الهجوم، في أحياء حلب الجنوبية الشرقية التي يمكن للمجموعات المسلحة تنظيم الدفاع عنها بطريقة أفضل، لاكتظاظها العمراني، واتساع الكتل الخرسانية فيها، متيحةً للمدافعين عنها إبطاء تقدم الجيش، تسارع إيقاعُ العمليات لليوم الثامن على التوالي، بالاعتماد على تكثيف غارات الطيران، ودخول الطيران المروحي السوري الى سماء المعركة، لاصطياد القناصة، وحماية تقدم أرتال وحدات الاقتحام في كرم الميسر والقاطرجي.
وبخلاف الأيام الماضية التي أتيح فيها لـ «جبهة النصرة»، و «جيش حلب»، استرداد نصف حي الشيخ سعيد، الهضبة المطلة على ما تبقى من أحياء جنوب شرق حلب، لم يُقيّض لها أن تعيد الكرة، وأن تنظم أي هجوم مضاد، لاسترداد الأرض التي فقدتها خلال عمليات أمس. واستطاعت عمليات الجيش السوري التقدم من شرق المدينة عبر كرم الطراب، لتشقّ طريقها وسط المجموعات المسلحة المنتشرة جنوب شرق المدينة، نحو قلعة حلب. وكانت قوات الطليعة في هذه العملية قد تمكنت من قضم مواقع المسلحين، حيث تفصلها بضع مئات من الأمتار عن جدران القلعة المشرفة على أحياء حلب القديمة.
واذا ما استطاع الجيش الوصول اليها في الساعات المقبلة، فسيسقط من يد المسلحين خيار تنظيم مقاومة طويلة الأمد، في شبكات أنفاقها وممراتها السفلية. ويقول خبير حلبي لـ «السفير» إن معظم هذه الأنفاق قد دُمّر خلال القتال حول القلعة، ومحاولات المسلحين الفاشلة، للوصول اليها ودخولها خلال أربعة أعوام من القتال.
لا يلوح مخرجٌ سياسي في الأفق، ولا باصات تنتظر المسلحين حتى الآن على معابر حلب لإخراجهم الى ادلب، أسوةً بأكثر من خمسة آلاف مسلح غيرهم هذا العام، جاؤوا من الوعر في حمص، وداريا، وقدسيا، والهامة، وخان الشيح في ريف دمشق.
ويبدو المخرج السياسي الذي يعد له الروس والأتراك بعيداً جداً، خصوصاً أن المفاوضات التي تدور مع ممثلي المجموعات المسلحة، لا تبحث سوى عن تنظيم سحب المسلحين من حلب، كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. وليست الإطالة، أو التأجيل المستمر لمواعيد المفاوضات التي تجري في أنقرة، بين الروس، والأتراك، وبطلب منهم، وبين المجموعات المسلحة، سوى محاولة روسية – تركية لكسب الوقت، والإعداد لما بعد حلب، وتحديد مستقبل أرياف شمال حلب والأكراد، وبناء تفاهم جديد يستند هذه المرة الى الانتصارات الميدانية التي تحققت، والى الاستعداد الذي يبديه رجب طيب أردوغان للتعاون مع الروس في الرهان على الميدان لفرض خطة انسحاب على المجموعات التي جاءت الى أنقرة.
وباستثناء «جبهة النصرة» التي رفضت الانسحاب أو التفاوض، تشارك في مفاوضات أنقرة كل من «الجبهة الشامية»، و «أحرار الشام»، و «نور الدين الزنكي»، و «جيش المجاهدين»، و «استقم كما أمرت»، و «فيلق الشام»، ومجموعات أخرى لا وجود لها على جبهات حلب، كـ «المعتصم» و «فرقة الحمزة»، و «الفرقة 51»، لكن الأتراك الذين يموّلونها، ويديرونها، منحوها مقعداً للتأثير على سير المفاوضات بالاتجاه الذي يسهّل تنفيذ التفاهم مع الروس، ويفتح مرحلة ما بعد حلب.
واذا كان الروس يسعون بقوة الى إخراج المسلحين من حلب، بغض النظر عن الوجهة التي سيذهبون اليها، مع تفضيل إرسالهم الى ادلب، التي ستكون معركتها، الأخيرة على الأرجح في سوريا، محرقة المجموعات «الجهادية»، فإن الأتراك بحسب مصادر عربية يطرحون على المفاوضين وجهة سياسية وميدانية مختلفة. إذ تفضل أنقرة أن يخرج مسلحو حلب من الحصار، للانضمام الى عملية «درع الفرات»، لتطوير عديدها وتوسيع المواجهة مع الأكراد، في منبج وحولها، وتلافي إرسال المزيد من القوات التركية الى المنطقة.
وفي اتصال هاتفي مع «السفير»، قال زكريا ملاحفجي، عضو المكتب السياسي في تجمع «استقم كما أمرت»، «أتصور أن حلب لم تعد أولوية تركية، إن أولوية تركيا اليوم هي درع الفرات وحماية حدودها».
وبديهي أن الجيش السوري وحلفاؤه، وحتى قوات النخبة التي يقودها العقيد سهيل النمر، قد ألقوا جميعاً بثقلهم في هذه المعركة، التي ستحدد الى حد كبير مستقبل سوريا. والوقت هو العامل الذي لا يملك التحالف السوري – الروسي الكثير منه، لطيّ صفحة حلب والإعداد لما بعدها، خصوصاً أن فريق الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب قد وضع تفكيك التحالف السوري – الإيراني على رأس لائحة أهدافه، كما يقول وزير الدفاع الجديد الجنرال جايمس ماتيس، الذي يعتبر الساحة السورية أحد ميادين احتواء إيران.
وكان لافتا تصويت مجلس الشيوخ الأميركي على بندين في ميزانية وزارة الدفاع الأميركية، قبل أربعة أيام، تجيز لها تزويد المجموعات السورية «التي يتم فحصها» بصواريخ وأسلحة مضادة للطائرات، وتمديد برنامج تدريب المجموعات «المعتدلة» لعامين. وكان لافتا أكثر أن التصويت على القانون الذي لا يزال ينتظر تصديقاً نهائياً عليه في الأيام المقبلة في الكونغرس لكي يصبح نافذاً، قد خضع لتصويت في مجلس النواب، في نص مغاير تماما يدعو الى حظر تزويد المعارضين السوريين بتلك الأسلحة، والاكتفاء بعام وحيد من تمديد برنامج «المعارضين».
ويقف السناتور جون ماكين وراء التعديلات التي سيكون لها أثر على مستقبل الصراع، وفق الأسلحة التي يمكن للبنتاغون أن يزوّد بها «المعارضة»، وما اذا كانت أسلحة غربية تحتاج لأشهر طويلة من التدريب، قبل إرسالها الى الميادين، أو الاكتفاء بصواريخ روسية الصنع، يعرفها المقاتلون السوريون، ويمكن استخدامها في وقت أقصر، دون الفعالية المرجوة، لقدم الأنواع التي بحوزة الدول المصنعة خارج روسيا.
وماذا بعد حلب؟
لا يبدو أن الحسم في حلب سيحسم الأزمة في سوريا، ليس لان ذلك ما قالته وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيديريكا موغيريني، بل لان الحسم يصل متأخرا عاماً، مع انخراط الاتراك في الشمال السوري، وهو ما يطيل عمر الازمة، فضلا عن نزول الأميركيين في المنطقة بأكثر من ست قواعد عسكرية على الارض السورية، الى جانب الأكراد.
ولكن الانتصار في حلب يحسم نهائياً النقاش في طبيعة العملية السياسية، والحل السياسي ومستقبل الرئيس بشار الأسد، الذي يخرج من المعارك منتصراً من رهانه على تثبيت سلطة الجيش السوري على المدن الأساسية السورية الكبرى، من الطوق الدمشقي، فحمص، وحماه، وحلب، ودرعا، وأجزاء مهمة من أريافها. كما أن جميع الأطر التي كانت تدعو الى حكومة انتقالية، تضع الرئيس بشار الأسد خارج منصبه خلال سنوات، قد سقطت مع انتصار حلب. ويستدعي ما بعد حلب من الولايات المتحدة وروسيا، التفاهم على إطار جديد يأخذ ميزان القوى الجديد بعين الاعتبار، وصعود عنصر القوة العسكري السوري في المعادلة الداخلية والخارجية، وصوغ إطارٍ جديد في مجلس الأمن.
ولم يعد بيان جنيف صالحاً في صيغته الحالية إطاراً للحل، فقد عكس عند كتابته ما كانت عليه موازين القوى في 30 حزيران 2012، عندما كانت المعارضة السورية المسلحة تشن هجمات من داخل أحياء التضامن والميدان، على العاصمة نفسها، وتهدد الدولة السورية بالسقوط، وتطوّق دمشق في الغوطة والقلمون وطرق الإمداد وخطوط مواصلات الجيش السوري نحو جميع المحافظات.
وليس رمزياً فحسب أن قوافل الانسحاب وترحيل المسلحين من ميادين المعارك المختلفة في أرياف دمشق وغوطتها وحمص، اتخذت إدلب مقصدا لها. اذ بعد حلب ستعود المجموعات المسلحة في سوريا من حيث جاءت قبل خمسة أعوام، من الأرياف التي غزت منها المدن السورية الكبرى. وتسلك الأزمة والمجموعات المسلحة ما بعد هزيمتها في حلب مساراً مشابهاً لما شهدته الجزائر في عشريتها السوداء (السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي)، عندما استطاع الجيش الجزائري استئصال المجموعات الجهادية من المدن، وإنزال عبد الرزاق علواش وجيش الإنقاذ من الجبال، عبر مصالحات وتسويات، وتحويل العنف الجهادي، الى عنف رسوبي مقتصر على بعض العمليات التي تقوم بها المجموعات الجهادية المعزولة في الجبال، من دون أي أفق سياسي، وبعيدا عن أي بيئة حاضنة، عاجزة عن تشكيل تهديد جدي لاستقرار الجزائر.
أما التفاهم الروسي مع الأتراك، الذي نجح بإبعادهم عن حلب، فالأرجح أن ما بعد حلب سيعيد صوغ هذا التفاهم الذي لم تلتزم به أنقرة، والذي لم تعارضه دمشق في البداية عندما كان يقتصر على دخول الأتراك 12 كيلومتراً بعد جرابلس، والحصول على منصة قريبة من منبج لمراقبة وحدات حماية الشعب الكردية، والتدخل لمنع تقدمها نحو غرب الفرات، وتشكيل كيان فدرالي. وقد يلجأ الروس الى تجديد هذا التفاهم، على ضوء الانتصار الجديد، وتوسيع منطقة انتشار الأتراك، في الشمال السوري، لضمان عدم تقدم الأكراد مجدداً نحو عفرين، وفتح ممر بين كانتونات عين العرب كوباني وعفرين.
وهناك مؤشرات على أن الجيش السوري، الذي سيضع انتصار حلب في متناوله أكثر من 20 ألف مقاتل إضافي لزجّهم في جبهات اخرى، قد يتجه مجددا الى مدينة الطبقة، بعد تحرير مدينة الباب وتصليب خطوط دفاعه عن عاصمة سوريا الاقتصادية، ومنع المجموعات المسلحة، من «درع الفرات»، من تهديد تخومها الشمالية الشرقية، أو الاقتراب من مطار كويرس.
وهناك مؤشرات كثيرة تفيد أن ما بعد حلب قد يشهد ولادة تحالف عراقي سوري إيراني أوضح، وانخراط «الحشد الشعبي» العراقي بشكل أكبر في المعارك من أجل استعادة هذه المدينة. وكان مجلس النواب العراقي قد صوّت قبل أيام على دمج الحشد في قطعات الجيش العراقي، وهو ما يسهّل، شكلياً على الأقل، استدعاء قوات عراقية لمساندة عمليات الجيش السوري في الرقة. وكان فالح الفياض، مستشار الأمن الوطني، قد قال إن «قوات الحشد قد تضطر للدخول في مناطق سورية لردع تنظيم داعش الإرهابي»، ولكن سوريا عبّرت عن رغبتها بإشراك «الحشد» في جبهاتها عندما قال القيادي في الحشد هادي العامري، منتصف الشهر الماضي، إن «الحكومة السورية برئاسة بشار الأسد قد وجّهت دعوة لقيادات الحشد لدخول سوريا، بعد تحريرها العراق من داعش».