من بيان جنيف 2012 الى بيان سوتشي 2018: سورية تؤكد انتصارها
بقلم: العميد د. أمين محمد حطيط*
عندما انطلق العدوان على سورية وفقا لخطة ترمي الى الاستيلاء عليها و تغيير موقعها الاستراتيجي لنقلها الى الموقع المعاكس لدورها القومي و الإقليمي التاريخي،
توسل العدوان موجات من الحركة في الشارع بداة بتلفيق ما اسمي التظاهر السلمي و تدحرجت في اقل من اشهر ثلاثة لتكون عملا مسلحا انقلب في الممارسة بشكل سريع ليطلق عاصفة إرهابية رعتها مجموعة العدوان السداسية و معها دول تفاوت دعمها للعدوان وفقا لقدراتها وموقعها و قدرتها على تحمل الضغوط عليها و بعد 15 شهر من العدوان سارعت اميركا الى تهيئة بيئة الحصاد سياسيا ، و دفعت الى انعقاد مؤتمر في جنيف لحل الازمة السورية خرج ببيان في 30\6\2012 و اردته اميركا الوثيقة التأسيسية للحل و المتضمن بشكل رئيسي انشاء حكومة انتقالية برعاية دولية تخطط لنظام حكم جديد في سورية ، و اضمرت اميركا يومها ووفقا لموازين القوى التي تصورتها يومها ان البيان الذي اسمي بيان جنيف1 سيمنحها شرعية إعادة صياغة سورية وفقا لما تريد و يحقق لها اهداف العدوان كما تبتغي، و بقيت اميركا و معها فرنسا و بريطانيا أسيرة هذه الرغبة و حبيسة هذا الظن حتى اليوم .
بيد ان سورية المؤمنة بحقها الوطني في السيادة و الاستقلال ، و المستعدة لبذل ما امكن من التضحيات للدفاع عن ذاتها و دورها الاستراتيجي ، و رغم البيئة الدولية المعاكسة و رغم ندرة الحلفاء ، رفضت هذا الاملاء و رفضت ان تعطي من اعتدى أي شيء مما ابتغى ، فبقيت في الميدان تدافع ، و استمرت في السياسة تناور وفقا لأعلى أساليب المناورة الدبلوماسية و الاحتراف السياسي ، ما مكنها من التلفت المرة تلو المرة من الضغوط الدولية التي شاء أصحابها تنفيذ المشروع العدواني في سورية و منها الى محور المقاومة و تاليا الى المنطقة برمتها لتحويلها الى مستعمرة أميركية لا إرادة رفض فيها و لا مقاومة .
و في سياق المواجهة كانت سورية تعول على الميدان أولا و تشاغل الاروقة السياسية بما يمنع الضغط المركب ان يحقق أهدافه ، و بعد مواجهات استمرت نيف و خمس سنوات كان الزلزال الاستراتيجي الكبير لصالح سورية تمثل بتحرير حلب و استعادتها كلها الى حضن الوطن ، زلزال فتح الباب واسعا لمسار دولي جديد غير مسار جنيف المهيمن عليه اميركيا و الذي وضع سورية امام خيارين اما التنازل و إعطاء العدوان ما يريد او منع الحل السلمي و إطالة امد الحرب ، فكان مسار استنه الممسوك من قبل روسيا و معها و بشكل متفاوت في الاهمية و الدور كل من ايران و تركيا التي لم تكن محل ثقة سورية يوما و لكن العمل بقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” حمل الى قبول تركيا جزءا من منظومة رعاية هذا المسار دون ان يكون لها كلمة الفصل فيه او القدرة على التأثير الفعلي على اتجاهه .
خشي الغرب بقيادة أميركية منذ الحظة الأولى من مسار استنه ، الذي و رغم كل التطمينات الروسية لم يقتنع ان هذا المسار سيكون في النهاية منشطا او متكاملا مع مسار جنيف ، ولذلك عمل الغرب و ادواته الإقليمية بقيادة السعودية على عرقلة او تعطيل مسار استنه و احياء مسار جنيف مع بعض التعديلات الطفيفة التي لا تمس بجوهر اهداف العدوان ، لكن سورية لم تنخدع بالمناورات الأممية الموجهة أميركية و كما تفلت من الافخاخ اتي نصبت لها من جنيف 2 الى 5 ، تفلتت من الحلقات التي تليها ، و ظن الغرب ان تعطيله للحل السياسي سيحقق له مبتغاه في اطالة امد الصراع حتى تسلم له سورية بما يريد ، و هنا كانت المفاجأة الصاعقة ، اذا بعد سنة فقط من اطلاق مسار استنه دعي الى حوار وطني في سوتشي الروسية و برعاية و تنظيم و ضيافة و احتضان روسي ، مع التركيز على مبدأ “ان السوريين وحدهم من يقرر لنفسه و لسورية “.
ولان الغرب فهم ان مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي و بالشكل الذي دعي اليه و ووفقا لنظام الإدارة و التنظيم يعني اجهاض اخر امل للعدوان بتحقيق مكاسب له في سورية ، لان الغرب فهم ذلك فانه عمل و بكل ما لديه من قوة لمنع المؤتمر او تعطيله او افشاله ، ( ذكرنا في مقال سابق كيف مارس الرب كجدته هنا) لكن الإرادة الروسية الرعائية ، و الإرادة السورية الوطنية تخطت العراقيل و سارت قدما بالمشروع الذي شكل بعد نجاح انعقاد المؤتمر نقلة نوعية في المسالة السورية و استثمر على وجه صحيح الإنجازات و الانتصارات العسكرية التي تحققت خاصة في السنتين الاخيرتين منذ خريف 2015 و حتى الان .
لقد فرض مؤتمر سوتشي و ما عبر عته المؤتمرون في بيانهم الختامي الذي ناقشوه فقرة فقرة و صوتوا عليه وفقا لأعلى معايير الديمقراطية ، فرض حقيقة و واقعا لا بل اكد على ثوابت لا يمكن لاحد ان يتخطاها في أي حل سياسي للازمة السورية ، ثوابت يمكن حصر الأساسية الكبرى منها بخمسة ( رغم أهمية الأخرى ) تناقضا جذريا مع اهداف العدوان ما يعني ان سورية انتصرت في الميدان و صرفت انتصارها او ترجمته في السياسة و منعت العدوان عليها من تحقيق أهدافه و ان ما تبقى من المواجهة محسوم في نتائجه و ان كان الامر يستلزم بعض الوقت لكنه وقت ليس بالسنوات يحسب بل بأسابيع واشهر قليلة تعلن بعدها خروجها من اتون النار التي استهدفتها و تعلن انتصارها النهائي وفقا لهذه الثوابت التي اذكر منها :
- من حيث الشكل غابت الطاولة وحضرت قاعة المؤتمر الكبرى التي تجمع الشمل فلم يظهر في مؤتمر سوتشي طاولة يتحلق حولها أطراف متنازعين يحكم العداء علاقاتهم مع ما يستلزم تدخل الأجنبي للسيطرة، بل ظهر الحشد المتشكل من 1500 سوريا، والجالس على مقاعد وجهتها واحدة ورغبة واحدة هي مصلحة سورية العليا، ظهر وكأنه برلمان شعبي موسع يمثل كافة شرائح الشعب السوري تقريبا. بخلاف ما كان يحصل في جنيف حيث كان تمثيل من ادعى انه معارضة لا يتجاوز ال 10% ممن يسمون أنفسهم معارضة.
- صاحب السلطة و القرار : شاء المعتدون و لا زالوا يطمحون ان يضعوا سورية تحت الانتداب الدولي في ما اسمي الفترة الانتقالية برعاية الأمم المتحدة ، و القفز فوق كل ما هو قائم اليوم و الانطلاق من الصفر لبناء الدولة و تعيين حكامها ، و رد بيان سوتشي بان السوريين متمسكون بدولتهم و يرغبون بتطويرها و لا يوجد منطقة فراغ بين القائم حاليا و المرتقب مستقبلا و بالتالي لا دور للأجنبي في الحكم و لو لدقيقة واحدة ، و هذا ما قطع الطريق على اخطر و اخبث ما ابتغاه العدوان من إعطاء نفسه فرصة الحكم ووضع نظام سورية المستقبلي .
- الوحدة والسيادة الاستقلال: شاء الأجنبي ان يفتت سورية ويقسمها في خطة احتياطية يلجا اليها إذا عجز عن تنفيذ مشروع السيطرة الكاملة، وجاء بيان سوتشي لينسف أي فكرة او محاولة تقسيمية ويؤكد أولا على وحدة الأرض والشعب والسيادة الشعبية والاستقلال وحق الشعب السوري حصريا بان يقرر لنفسه من غير وصاية او املاء.
- الدستور والنظام القانوني للدولة. شاء المعتدون صياغة دستور لسورية يلبي اهداف عدوانهم ويفرض على الشعب السوري ما يذكر بما فعله بريمر الأميركي بعد احتلال العراق، وجاء بيان سوتشي ليؤكد ان الدستور الحالي الذي اعتمد من قبل الشعب باستفتاء حر يبقى قائما حتى يقرر الشعب امرا اخرا وبالتالي ليس هناك ما يسمى صياغة دستور جديد ينطلق من الصفر بل ان هناك اعمال للدستور القائم واعتماد الية التعديل التي نص عليها والقرار في النهاية يكون للشعب وهذا يشكل صفعة اخرى بالغة الشدة توجه للعدوان.
- الجيش والقوى المسلحة والمؤسسات الأمنية. شاء المعتدون حل كل هذه المؤسسات الوطنية كما فعل الاحتلال الأميركي للعراق وبناء مؤسسات جديدة بعقيدة عسكرية لا تتصل بالعقيدة العسكرية الوطنية القائمة، وجاء بيان سوتشي ليؤكد على التمسك بالمؤسسات القائمة دون أي مس بها ودعمها في دورها الوطني في الدفاع عن سورية بوجه العدو الصهيوني المحتل للجولان مع التأكيد على تحريره بكل الوسائل المتاحة (شاء العدوان التنازل عنه)، ومحاربة الإرهاب وفي هذا نقض لاحد اهم اهداف العدوان أيضا.
ولان المقام لا يتسع لأكثر من هذا فاننا نكتفي به ونختم بالقول ان بيان سوتشي الصادر في 30\12018 جاء نقيضا في الشكل والمضمون لبيان جنيف الصادر في 30\6\2012، ففي الاول قرروا لسورية وفي الثاني سورية قررت لنفسها ما يؤكد هزيمة العدوان على سورية ويشكل ارساء وثيقة الثوابت الوطنية السورية التي يجب تلتزم في أي حل سياسي مستقبلي ولهذا رحبت الحكومة السورية به وبدون أي تحفظ لأنه ترجم انتصارها في المواجهة خلال السنوات السبع الماضية.
*استاذ جامعي وباحث استراتيجي – لبنان